حين أعرب رئيس الوزراء الفرنسى مانويل فالس مؤخرا عن خشيته من " انهيار وشيك " للاتحاد الاوربى ، لم يكن فى حقيقة الأمر يبالغ و إنما فقط كان أكثر القادة الأوروبيين الذين عبروا عن الواقع بعيدا عن العبارات الدبلوماسية المنمقة . إن عدة أسباب تجعل هذا الطرح واقعيا للغاية منها الانقسام الحاد بين الدول الأعضاء فى كيفية مواجهة أزمة تدفق اللاجئين و تبادل الاتهامات بعنف و التهديد بالعقوبات الاقتصادية ضد هذه الدول أو تلك و التلويح المتكرر من جانب بريطانيا بالخروج من الاتحاد لكن الأخطر والأهم تجميد العمل باتفاقية شنجن و لو مؤقتا من جانب بعض الدول الأعضاء بالاتحاد. هنا يصبح حلم الوحدة الأوروبية ذاته مهددا بضربة قاتلة و فى الصميم ، فالاتفاقية تعد القلب النابض للاتحاد الاوربى و الانجاز الاكبر على مدار ثلاثين عاما فى تاريخ القارة . تم توقيع " شنجن " قبل واحد و ثلاثين عاما بهدف حرية التنقل بين مواطنى اوروبا دون الحاجة الى تأشيرة سفر لكن حجم الانجاز لا يقتصر على ذلك فقد فتحت الاتفاقية الباب على مصراعيه أمام حرية التجارة وتنقل رءوس الاموال كما كانت الدعامة القوية للسوق الاوربية المشتركة. و بالتالى فإن الغاء او تجميد الاتفاقية لمواجهة أزمة النازحين التى تسرق النوم من أعين الساسة هنا فى بروكسل حيث مقر الاتحاد الاوربى تعنى ببساطة بداية النهاية لهذا الحلم الكبير بالوحدة و الاتحاد. و تجدر الاشارة هنا الى أن العديد من الدول مثل هولندا و السويد و الدانمارك و ألمانيا بدأت بالفعل فى اجراءات الوقف المؤقت لشنجن من خلال تفعيل آليات مراقبة حدودها الخارجية و نشر نقاط تفتيش متقدمة. لقد أدت موجة النزوح التى كسرت حاجز المليون لاجيء العام الماضى الى زلزال عنيف فى القارة العجوز التى تبين لها أنها لا تزال مهددة بموجة مماثلة العام الحالى جراء الحرب فى سوريا و العراق ، لا سيما مع انسداد أفق الحل السياسى و عودة الرئيس التركى رجب طيب اردوغان الى سياسة ابتزاز القارة العجوز بتسهيل مهمة تهريب مئات الالاف من الحدود التركية الى نظيرتها الاوربية ما لم تذعن لمطالبه الجائرة . و مع توالى اجتماعات قادة الاتحاد الاوربى سواء على مستوى رؤوساء الدول و رؤساء الوزراء أو على مستوى وزراء الداخلية لبحث تبعات الأزمة الأمنية و الاقتصادية الناجمة عن تدفق اللاجئين، بدا أنه لا مناص من استعادة دول الاتحاد الست و العشرين حقها فى فرض رقابة على حدودها الخارجية مع دول الجوار فى خطة تهدف لكبح جماح تدفق المهاجرين مما يعنى عمليا الغاء أو على الاقل وقف العمل باتفاقية شنجن . هذه المخاوف أعرب عنها جان كلود يونكر - رئيس المفوضية الاوربية التابعة للاتحاد - حين قال هو الآخر و بصريح العبارة إن الغاء الاتفاقية يعنى عمليا أن تصبح العملة الموحدة لاوروبا " اليورو " بلا قيمة على أرض الواقع ، كما ستتضاعف معدلات البطالة و ستدخل اوروبا فى شتاء طويل من الكساد الاقتصادي، فضلا عن أن الغاءها لن يضمن منع تدفق المهاجرين غير الشرعيين، على حد تعبيره . و تشير دراسات رسمية صادرة عن مراكز بحوث أوروبية معتبرة الى أن الكلفة الاقتصادية لتجميد شنجن سوف تكون باهظة الثمن، فعلى المدى القريب سوف تخسر بلدان الاتحاد الاوربى مئة وعشرة مليارات يورو، أى ما يوزاى مائة و عشرين مليار دولار، كما ستشهد التجارة البينية بين الدول الأعضاء انخفاضا حادا بنسبة تصل الى عشرين بالمائة، و ستتضاعف هذ النسب والارقام حال تمديد العمل بالوقف المحتمل للاتفاقية . و بينما بدا رئيس المجلس الاوربى - يشار اليه احيانا برئيس الاتحاد الاوربى - دونالد دسك متفائلا حين قال من بروكسل ان هناك سباقا لمنع شنجن من الانهيار و نحن مصممون على الفوز بهذا السباق ، لم يكن وزير خارجية لوكسمبورج يشاركه هذا التفاؤل حين قال : ان خطر الانهيار يحدق بالاتحاد ، فيما قال المتحدث باسم الخارجية الالمانية إن شنجن قد تنهار إذا ما استمر تدفق اللاجئين على هذا النحو . بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية و تحديدا فى العام 1951 اجتمعت فى روما ست دول هى بلجيكا و فرنسا و هولندا والمانيا ولوكسمبورج وايطاليا لإنشاء ما يسمى ب " المجموعة الاوربية للفحم و الصلب " . كانت الفكرة بسيطة و عبقرية فى آن واحد : لكى نمنع قيام حرب عالمية جديدة تطحن عظام اوروبا يجب ان نقيم مصالح اقتصادية قوية و متبادلة تجعل الحرب خيارا مستبعدا. و ارتكز هذا التجمع الاقتصادى على مادتى الفحم و الصلب باعتبارهما اساس الصناعات العسكرية و الاسلحة أنذاك. وبعد ست سنوات توسع التجمع و تحول الى ما عرف بعد ذلك باسم " السوق الاوربية المشتركة " والتى بدورها تحولت الى الاتحاد الاوربى بعد خمس و ثلاثين عاما. و مرة أخرى تشهد العاصمة الايطالية روما مؤخرا تجمعا لنفس الدول الست التى شكلت النواة الاولى للاتحاد قبل خمس و ستين عاما. كان الهدف المعلن للدول الست المجتمعة على مستوى وزراء الخارجية هو تعزيز الاتحاد الاوربى و منعه من خطر التفكك ! و رغم ذلك يرى كثير من الخبراء الاوربيين أن انهيار شنجن و تفكك الاتحاد ليس قدرا حتميا إذا ما توافرت الارادة السياسية لدى قادة الاتحاد و قرروا عدم مغازلة الناخبين الذين باتوا يشعرون بالقلق من تدفق اللاجئين و تحاول أحزاب اليمين المتطرف تغذية شعورهم بأن اغلاق حدودنا الخارجية هو الحل الحاسم. و يضرب جريجورى كلايس المثل بالوكالة الاوربية لمراقبة الحدود " فرونتكس " قائلا ان ميزانيتها العام الماضى لم تتجاوز 114 مليون يورو فى حين ان الاتحاد الاوربى انفق على ازمة اللاجئين المتدفقين اكثر من ستة مليارات يورو فى العام نفسه ، مشيرا الى أنه لابد للقادة الاوربيين من مراجعة بنود الانفاق الخاصة بالازمة والبحث عن حلول جديدة تتسم بالرشد و الواقعية بدلا من الحديث عن الغاء اتفاقية هم اول من يعلمون ان الغاءها سيكون المسمار الاخير فى نعش الاتحاد .