وزارة المالية تعكف الآن على إعداد الموازنة العامة الجديدة، استعدادا لعرضها على البرلمان، وهو الأمر الذى افتقدناه منذ خمس سنوات. الموازنة العامة للدولة تصدر بقانون من البرلمان، وله وحده سلطة أن يقر أو يعدل التقديرات التى تعدها وزارة المالية بشأن موارد الحكومة وأوجه إنفاقها وحجم القروض التى ستحتاج إليها خلال السنة المالية القادمة. طبعا كلنا يعرف أن الضرائب هى المورد الرئيسى الذى يوفر للحكومة الأموال اللازمة للإنفاق على الصحة والتعليم ومختلف الخدمات العامة التى تقدم للمواطنين، فضلا عن الأمن والدفاع وسائر المهام والوظائف التى تقوم بها الدولة. فى العام الماضى أقامت الحكومة مهرجانا لتخفيض الضرائب تضمن إلغاء ضريبة ال 5% الإضافية التى سبق فرضها على دخول المشروعات التى تزيد على مليون جنيه سنويا، وتخفيض الحد الأقصى للضريبة على الدخل إلى 22.5 %، فضلا عن تأجيل تطبيق الضريبة على الأرباح الرأسمالية للمتعاملين فى البورصة لمدة عامين. الحكومة أكدت أن الهدف هو تخفيف العبء على المستثمرين الأجانب ورجال الأعمال المصريين كى يقوموا بإنشاء المشروعات الجديدة، وتوسيع المشروعات القائمة، وبالتالى فتح فرص العمل وزيادة الإنتاج ورفع مستويات المعيشة. وزارة المالية من جانبها أكدت أنها ستشمر ساعديها للتركيز على رفع كفاءة التحصيل، ومواجهة حالات التهرب. بل وسمعنا بعض المسئولين فى وزارة المالية يشرحون لنا كيف أن زيادة معدلات الضريبة يعنى معاقبة من يدفعون بالفعل، فى حين أن الأولى هو إخضاع من لا يدفعون. طبعا هذا المنطق الذى يبدو وجيها لا يفسر لنا لماذا إذن تم التراجع عن إخضاع المتعاملين فى البورصة للضريبة على الأرباح الرأسمالية!. المهم أننا انتظرنا لنرى نتائج الهمة فى التحصيل وغلق منافذ التهرب، أملا فى أن تحدث المعجزة ويكون لدينا هيكل ضريبى أكثر عدالة، تتحمل فيه فئات الشعب المختلفة العبء الضريبى الذى يتناسب مع قدراتها من ناحية ومع ما تحصل عليه من مزايا من ناحية أخري. إلا أن متابعة تفاصيل الضرائب العامة على الدخول والأرباح فى الموازنة العامة للسنة المالية الحالية تكشف أن الجزء الأكبر من حصيلة تلك الضرائب يأتى من المؤسسات المملوكة للدولة ممثلة فى قناة السويس والهيئة العامة للبترول والبنك المركزى المصرى وبنوك القطاع العام. فعلى الرغم أن القطاع الخاص يسهم بنحو 65% من الناتج المحلى الإجمالى إلا أن نصيبه من إجمالى الضرائب العامة لا يزيد كثيرا على 27% ممثلة فى مجموع الضريبة على أرباح الشركات، والضريبة على النشاط التجارى والصناعي، والضريبة على المهن غير التجارية. ومن ناحية أخرى فإن الهيكل الضريبى الذى تكشف عنه الموازنة العامة للدولة، يؤكد حقيقة مذهلة مؤداها أن ما يدفعه الموظفون من ضرائب يبلغ أضعاف ما يدفعه أصحاب الأعمال الحرة. ضريبة المرتبات وما فى حكمها تبلغ 27.4 مليار جنيه، فى حين أن الضريبة على الأفراد أصحاب النشاط التجارى والصناعى لا تزيد على 14 مليار جنيه. أما المذهل حقا فهو أن الضريبة على الأفراد أصحاب المهن غير التجارية وعلى رأسها مهن المحامين والمحاسبين والأطباء والفنانين ...الخ لا تزيد على 1.6 مليار جنيه!. الضريبة على الموظفين تقتطع من المنبع. الغالبية الساحقة من الموظفين دافعى الضرائب يتمثلون فى موظفى الحكومة والمؤسسات العامة المختلفة الذين يعملون بعقود عمل رسمية. أما موظفو القطاع الخاص فإن الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن نصفهم يعملون بدون عقود قانونية ولا تأمينات اجتماعية... ولا يدفعون ضرائب. البيانات المتاحة تقول إن عدد الممولين من الأفراد أصحاب النشاط التجارى والصناعى يزيد على عدد موظفى الجهاز الحكومى فكيف تكون قيمة ما يدفعونه من ضرائب نصف ما يدفعه الموظفون؟. أما الأمر الذى يحتاج إلى وقفة حقيقية فهو ضآلة ما يدفعه أصحاب المهن الحرة غير التجارية من ضرائب. لن نتحدث هنا عن دخول الفنانين وما يشاع عن تسجيلهم أجورا منخفضة فى العقود للتهرب من الضريبة. سنتحدث عن كبار الأطباء والمحامين والمحاسبين. فكر معي، هل حدث مرة، عند لجوئك لخدمات أى من هؤلاء فى عيادته أو مكتبه الخاص أن حصلت على إيصال أو فاتورة بقيمة ما دفعته من أتعاب؟ كلنا صار يعرف أن القاعدة فى التعامل مع كبار الأطباء سواء فى المستشفيات الخاصة أو الحكومية هى أن الجراح يتقاضى أجره عن العملية الجراحية نقدا من المريض وبدون أى إيصالات وبعيدا عن السجلات الرسمية. بل إنه صار من الممارسات الشائعة فى بعض المستشفيات الحكومية أن يتقاضى الطبيب المتخصص مقابل زياراته للمريض فى المستشفى بنفس الطريقة.. أى نقدا ومباشرة وبعيدا عن سجلات المستشفى والضرائب. و وصل الأمر إلى أنه إذا دخل المريض أحد المستشفيات وأثبتت الفحوص أن حالته تستدعى الجراحة، يقوم الجراح بمقاولته على أجر الجراحة، وكأنه مريضه الخاص، وليس مريض المستشفي.. الفرق فى التكلفة التى يدفعها المريض كبير، ويذهب نقدا ومباشرة إلى جيب الطبيب. تتساءل وأتساءل معك هل ستستمر الموازنة الجديدة فى التعبيرعن نفس الهيكل الضريبى الظالم والمختل؟ هل ستستمر المحاباة السافرة لرجال الأعمال ولكبار العاملين فى المهن الحرة غير التجارية؟ هل سيظل قدر الموظفين أن يدفعوا الجزء الأكبر من الضريبة على الأشخاص الطبيعية؟ ثم.. أين ذهب كل الحديث عن رفع كفاءة الجهاز الضريبى ومواجهة التهرب وزيادة معدلات التحصيل؟. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى