"السيدات والسادة، لقد تم رصد موجات الجاذبية، لقد فعلناها." هكذا ابتدأ ديفيد رايتز المدير التنفيذي لمرصد LIGO بالولايات المتحدةالأمريكية- حديثه في مؤتمر صحفى بواشنطن يوم الخميس الماضى، والذى تم فيه الإعلان عن رصد وسيط جديد للتواصل ونقل البيانات عن الكون وهى موجات الجاذبية الناتجة عن اندماج زوجين من الثقوب السوداء، وتعد هذه هي المرة الأولى التي ينجح فيها العلماء فى رصد هذا النوع من الموجات والتي قد تنبأ بها أينشتين في نظرية النسبية العامة عام 1916. فالنظرية النسبية تنبأت أن قوى الجاذبية تنتقل في الفراغ عن طريق موجات تسير بسرعة الضوء تماما كما هو الحال في حالة الضوء (الموجات الكهرومغناطيسية). وظل العلماء على مدى قرن من الزمان يطورون أدواتهم ومراصدهم في محاولات مستمرة لرصد هذا النوع من الموجات دون جدوى إلى أن نجح علماء مرصدىLIGO بالولايات المتحدة فى رصد هذه الموجات لأول مرة، ونشر نتائج الرصد في الدورية العلمية Physical Review Letters. وعن شرح كيفية عمل هذا النوع من المراصد يقول د.وليد الحنفى الباحث بمركز أبحاث الفيزياء النظرية بإحدى الجامعات الخاصة فيمكن شرحه ببساطة على أنه يعمل على تقسيم شعاع الليزر إلى نصفين بحيث يتم إرسالهما في ذراعين عموديين متساويين في الطول مثبت بآخر كل من هذين الذراعين مرآة لعكس الشعاعين، بحيث يتم اندماجهما في نقطة محددة واستقبالهما. وبفحص النموذج الناتج عن اندماج الشعاعين يتم معرفة إذا ما تم عبور موجات الجاذبية من عدمه. فإذا لم تعبر موجات الجاذبية من خلال الجهاز فإن الشعاعين يتم استقبالهما في نفس الزمن، أما إذا مرت هذه الموجات فإنها تعمل على خلخلة الزمان والمكان بحيث يتم استقبال الشعاعين بفارق طفيف يتناسب مع قوة موجات الجاذبية. أما عن التعاون الدولى في هذا المجال فإنه يوجد العديد من المراصد على مستوى العالم ومنها معملا LIGO في ولايتى واشنطن ولويزيانا بالولايات المتحدة والتى تم تطوير حساسيتهما أخيرا بشكل كبير مما سمح برصد موجات الجاذبية لأول مرة في سبتمبر الماضى وهو ما تم الإعلان عنه مؤخرا بعد مراجعة النتائج. ويضيف د. وليد الحنفى أن ما يميز هذا الإنجاز الأخير أنه قد تم عن طريق رصد موجات الجاذبية نفسها نتيجة اندماج زوجين من الثقوب السوداء، وهو ما يتم في الطور الأخير لهذا النوع من النظم، إذ أن سرعة دوران المدار يصل إلى 250 دورة في الثانية الواحدة ثم ينتهى بارتطام عنيف ينتج عنه اندماج لهذين الجسمين فى ثقب أسود واحد وهذا ما تم رصده أيضا للمرة الأولى حيث أظهرت النتائج اتفاق النموذج الذى تم رصده لهذه الموجات مع ما قد تم صياغته نظريا من قبل بالاعتماد على النظرية النسبية العامة. ومن الجدير بالذكر أن هذا الاكتشاف لا يعد فقط تأكيدا لنظرية اينشتين عن الجاذبية أو للتأكيد على مدى عمق معرفتنا لماهية قوى الجاذبية، بل إنه يفتح أيضا نافذة جديدة لمعرفة الكون بشكل لم يكن متاحا من قبل. لكن كيف لهذه الموجات أن تتيح لنا معرفة جديدة بالكون؟ الإجابة هي أن معرفتنا بالكون المحيط بنا لآلاف السنين قد تطورت بتطور التليسكوبات الفلكية وزيادة قدراتها لرصد النجوم والمجرات التي تبعد عن الأرض بمئات وآلاف السنين الضوئية، لكن هذه المعرفة ظلت مرتبطة فقط بالضوءا المرئيا الذى يصل إلينا من النجوم. لذلك فإن بعض أنواع النجوم التي لم تكن تشع ضوء مرئى كالنجوم النيترونية ظلت مختفية تماما عن المعرفة الإنسانية. لكن بتمكن المراصد الفلكية من رصد الضوء غير المرئى من أشعة سينية و راديوية وغيرها، استطاع العلماء فتح نافذة جديدة لمعرفة الكون المحيط بنا وبمكوناته. كما أنه قد أتاح لنا اختبار بعض النظريات والقوانين الفيزيائية التي صاغها العلماء، والتي تتحكم في تطور النجوم والمجرات خلال رحلة حياتها. كل ما سبق كان مرتبطا بالموجات الكهرومغناطيسية سواء كان المرئى منها أو غير المرئى. أما الآن فبرصد موجات من نوع مختلف موجات الجاذبية فالأمل لمعرفة جديدة أصبح ليس بالبعيد، فكما هو معروف فإن بعض النجوم في طورها الأخير بحيث لا تسمح للضوء بالهروب منها، لهذا تسمى بالثقوب السوداء، مما يجعل هذه الأجسام غير مرئية تماما لأي من المراصد الفلكية ذات التكنولوجيا المعتمدة على الموجات الكهرومغناطيسية. ومن هنا تأتى أهمية رصد موجات الجاذبية، إذ أنها ستمكننا في المستقبل القريب من رصد أجزاء من الكون كانت محجوبة تماما عن المراصد الفلكية التقليدية. وكما كانت معرفتنا في السابق تعتمد على تحليل الموجات الكهرومغناطيسية القادمة إلينا واستخراج بعض المعلومات المحملة عليها عن خواص الكون، فإننا الآن وبالتمكن من رصد موجات الجاذبية نستطيع استخراج معلومات جديدة.ليس هذا فحسب، بل إن الأمر يتعدى مجرد اكتشاف وجود موجات الجاذبية إلى كيفية استخدامها وتسخيرها لإنتاج تكنولوجيا جديدة عما هو متاح لدينا الآن.فكما كان اكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية له الفضل لما توصلنا إليه من سرعة وجودة نقل المعلومات بالصوت والصورة عبر وسائل الاتصال المختلفة التي بين أيدينا الآن، فإن اكتشاف موجات الجاذبية في هذا العصر يمثل الخطوة الأولى لإنتاج تكنولوجيا جديدة معتمدة على هذا النوع من الموجات،فهل سيشهد العالم قريبا منتجات تكنولوجية تعتمد على هذا النوع من الموجات؟