لحظة أن يفتح باب ورشته يأتيه أطفال المنطقة و يتحلقون حوله، صادقهم و هو الرجل الخمسيني، يحبهم حبًا جمًا، يبادلونه ذات الحب و أكثر،يطلبون منه أن يصنع لهم غرف نوم و غرف صالون مُصغرة من بقايا الأخشاب، فيفعل, ووجهه الطيّب يقطر حنانًا وحبًا، إنهم- من فرط حبهم له- لا يريدون مفارقته ليلاً ولا نهاراً، يلّحون عليه أن يصطحبهم إلى بيته بعد انتهاء يوم عمله, إلا أنه يرفض ذلك رفضًا باتًا, بل و يخفى مقر إقامته و يحيطه بغموض غريب ! يداهمه الليل، يغلق “مُفرح النجار” ورشته بالأقفال ثم يذهب إلى حيث مسكنه، إلى حيث غرفة نومه التى لم تصنعها يداه, لعدم وجودها من الأساس، يذهب إلى حيث مخزن الخشب القابع ببدروم إحدى العمارات العتيقة، يبيت فيه مفترشًا أرضه على مدى يربو على العشرين عامًا ! . قاطنو العمارة لطالما نصحوه أن يقيم بمكان آخر خلاف هذا المخزن الكاسد هواؤه، الخافتة إنارته، يسألونه بلهجه ملؤها الاستنكار كيف تبيت فيه وحدك و هو يخلو من مظاهر الحياة ؟! فيجيبهم: “إن قلبى يطمئن هنا بين جنباته، فهواؤه الذى تصفونه بالكاسد وحده الذى يمنحنى الحياة و يمد رئتيّ بالأوكسجين، جدرانه الصامتة هذه تكسر سكون وحدتى، وفى فضائه المغلق أحلق فى آفاق رحبة”، فيرمقونه بنظرات مفعمة بالدهشة و يمضون لحال سبيلهم ! .أصدقاؤه الصغار صار لديهم فضول غريب ينمو بداخلهم و يكبر يوماً بعد يوم لمعرفة مقر إقامته، لمعرفة هذا الممنوع المرغوب. وفى يوم ما يقررون كشف هذا السر الغامض الذى استبد بهم و داعب مخيّلاتهم، فيتتبعون خطاه إثر انتهاء يوم عمله،ويتأكد لهم أنه يقيم هنا بهذا “المقر” الذى لا يبعُد كثيراً عن منازلهم ! فى إحدى ليالى الصيف الحارة يباغتونه، يطرقون بابه طرقات متتالية فرحين مُهللين، فيخرج عليهم و قد كسا الوجوم قسمات وجهه التى لم يروها هكذا من قبل، مذهولاً ينهرهم : “من دلكم على بيتي، كيف أتيتم إلى هنا ؟؟!!” .تتعالى ضحكاتهم ، يغلق بعنف الباب فى وجوههم الضاحكة فيحيلها إلى وجوه حزينة مكتئبة مصدومة من “العم مفرح” الذى خذلهم للمرة الاولى منذ تلاقت قلوبهم مع قلبه ! يعتريهم الخوف و يتملكهم، فينصرفون فى دهشة ثم يقصون على آبائهم هذا الذى حدث معهم ؟! يتعجب أباؤهم ، يتلمسون له الأعذار دونما قناعة تُقنعهم، يوبخونهم قائلين: “إنكم عديمو التربية !، لقد أزعجتموه بتطفّلكم عليه، هو حر فى حياته، لا أحد منا يعلم عنه شيئًا على الرغم من وجوده بيننا دهراَ!” لا تُقنع تلك المبررات التى ساقها الآباء الأبناء، يصرون إصرارًا عجيبًا على تكرار المحاولة لكشف هذا السر ، سر تحول “عمو مفرح” لشخص حاد الطباع ليلا عطوفا مرحًا مُحبا لهم نهارًا ! يصلّون المخزن من جديد و قد أخذوا يسترقون النظر خِلسة من ثقب وجدوه بالباب، ليجدوه و قد أحضر طعام عشائه و جلس ليُعده وئيدًا وحيدًا وقد أخذ يتحدث بصوت مسموع عن مذاق الطعام الشهى اللذيذ. يفرغ من عشائه فيعد كوبين من الشاى الساخن يرتشف أحدهما و يضع الآخر على الطاولة و هو يقول بصوت ناعم..تفضلى يا حبيبتى ! من ليلتها صارالأطفال يخافونه، انفضوا عنه نهاراً، أصبحوا يخشون الإقتراب منه و من ورشته، يسردون لآبائهم ما شاهدته أعينهم، فيضحك أباؤهم ساخرين من خيِالهم الواسع و تهيؤاتهم !، حتى إنهم بمرورالأيام صاروا يستغلون هذا الأمر ضدهم، يخيفونهم من “المخزن” كى لا يخرجوا للشارع ليلاً, مؤكدين أن الذى يسكنه ليس عمو “مفرح” الذى يعرفونه، إن ساكنيه هم الأشباح و العفاريت ! تنقبض قلوبهم، ترتعد فرائصهم، حتى إذا ما رأوه بورشته نهارا و همّ بمناداتهم فروا منه مذعورين مهرولين و الذى ضاعف هلعهم و أكد لهم صدق رواية آبائهم أنهم تذكروا شيئاً: عندما كانوا يمرون على المخزن من قبل ليلاً لطالما تناهى لمسامعهم صوتا لرجل يثرثر، إنه ليس صوتًا بشريًّا، ليس صوت عمو مفرح الدافئ ، إنه صوت أحد العفاريت و قد راح يتحدث! .يومًا بعد يوم تنمو شجرة الخوف وتتجذر داخلهم، لم تعد أقدامهم النحيلة تطأ أرض الشارع بمجرد أن تغيب الشمس و يحل الظلام ضيفاً على صفحة السماء. يحل شهر رمضان، يصطحبهم أباؤهم لصلاة الفروض بالمسجد المتاخم للمخزن، يرفضون فى إصرار الذهاب لصلاتى العشاء و الفجر، يطمئنونهم: “لا تخافوا, إن رمضان شهر تُصفد فيه الشياطين و العفاريت”، تسكن قلوبهم، تطمئن بعد خوف، أصبحوا بعدها و لأول مره منذ زمن ليس بقريب يعودون فرادى وجماعات من صلاتى العشاء و الفجر! ذات ليلة بعدما فرغوا من التراويح، فتح “مفرح” باب المخزن يهم ُبالخروج، شاهده الأطفال فجفت حلوقهم ، تجمدت الدماء فى عروقهم، تعالى صراخهم وهم يطلبون العون و النجدة بعدما كاد أن يغشى عليهم لرؤيتهم العفريت و قد خرج لتوه من المخزن. يثير الأمر انتباه آبائهم، يتحرونه بأنفسهم، يأخذون حكاياهم القديمة مأخذ الجد هذه المرة، يتكشف لهم أن “مفرح” مصاب بلوثة تداهمه “ليلاً” منذ رحلت زوجته محبوبته إثر حريق هائل شب بذات المخزن من قبل فقضى عليها و هى نائمة بينما نجا هو من الموت بأعجوبة. تبين لهمأنه كان و لا زال عاشقًا لها، متيمًّا بها، لا يرى حياته دونها، هو لا يعتبرها قد رحلت، يستحضرها كل ليلة فى هذا المخزن الذى شهد حياتها وغيابها، إنها لم تغب عنه, بقيت حاضره فى دنياه و عالمه، يستدعيها فى خلوته، ينسجها من وحى خياله، يقتسم معها رغيف خبزه و يسقيها من ذات كأسه...!..