في كتاب اعادت هيئة قصور الثقافة نشره.. محمد سيد كيلاني يظهر آيات الاحترام لعصر الترام لا تكمن متعة هذا الكتاب في تصديه لموضوع يبدو غريبا . لكن في طريقة عرض المؤلف لموضوعه بلغة طريفة وتحافظ في الوقت نفسه علي نبرة خاصة في السرد تبدو محافظة في احكامها لكنها لا تعتدي علي حق القاريء في العثور علي معلومة أعاد المؤلف تركيبها من عشرات المصادر النادرة التي كانت في غالبيتها أخبارا صحفية مدفونة تحت ركام الأرشيف. لا تندهش عزيزي القاريء إذا وجدت كتاب( ترام القاهرة.. دراسة تاريخية اجتماعية أدبية) الذي اصدرته هيئة قصور الثقافة في سلسلة ذاكرة الوطن التي يرأس تحريرها أسامة عفيفي يعتبر ظهور الترام في شوارع القاهرة في12 اغسطس1869 ثورة هائلة بفضلها انتقل المجتمع القاهري من البداوة الي الحضارة. واذا لم تصدق فعليك بالعودة الي مشاهد الترام في السينما المصرية وحدها, ففيها الكثير من الصور الدالة علي هذا المعني, فالترام كان مكانا لتبادل الحب واشاراته في وقت لم تكن الاماكن العامة تسمح بذلك, كما كان وسيلة للتعبير عن الاحتجاج السياسي أو العوز الاجتماعي اذ كان فضاء مثاليا للنشالين والشحاتين. يبدأ المؤلف برصد صورة القاهرة قبيل عصر الترام1892 1896 م مشيرا الي مساحة العاصمة وحالة شوارعها البائسة قبل ان تتألف لجنة في عام1892 م لوضع خطة مجاري القاهرة لإنقاذ المدينة من حالة التردي التي يعيشها الناس من الناحية الصحية و سوء مستوي النظافة التي تعانيها مرافقها, قبل ان يتم تسيير أول عربات الترام في العاشرة من صباح أول أغسطس1896 م علي سبيل التجربة وساعتها ركض الناس من خلفها مرددين العفريت.. العفريت..!! يشير الكتاب الي ان الانتقال إلي عصر الترام الذي شهدته مصر لم يكن سهلا أو يسيرا فعلي صعيد الحياة الاجتماعية كان لابد من ثمن لهذا التحول الذي مكن عشرات الشباب من السهر خارج منازل ذويهم بحيث أصبح من العسير علي رب الأسرة مراقبة أولاده.وبفضل الترام ايضا عاد الاعتبار لأحياء ومناطق جغرافية فاهمل بعضها بينما عاش البعض الآخر بركات هذا التحول فشركة الترام عينت400 عامل مصري في المشروع الجديد كما نشرت الصحف اعلانات تغري بشراء قطع أراض علي مسافة أمتار من خط الترامواي الذي رفع أسعار الاراضي والمنازل. فالترام أحدث ثورة عمرانية وغير نظرة الناس للمنازل فبعد أن كانوا يألفون سكني الازقة والحواري تاقوا للسكني في شوارع واسعة وفضلوا الاقامة بالقرب من الميادين. ويمكن القول أن حيا مثل مصر الجديدة هو الابن الشرعي لهذا العصر مثله في ذلك مثل المحلات التجارية التي نشطت في ميدان العتبة الخضراء قلب العاصمة اذ كثرت المسارح وصالات الرقص وواكبت ذلك نهضة أدبية شارك فيها أحمد شوقي وحافظ ابراهيم يسميها المؤلف حركة الأدب الترامي في متابعة أحوال الترام. وسياسيا ساعد الترام علي نشوء حركة رأي عام وتكوين وعي جديد نتج عن اختلاط السكان وأدي الي تصاعد المظاهرات ضد الإحتلال البريطاني. وعلي الرغم من ظهور السيارات كمنافس جديد في بداية القرن العشرين إلا أن الترام ظل محتفظا بمكانته فهو وسيلة الانتقال الشعبية والرخيصة التي لا تبعث الضوضاء والدخان الصادرين عن السيارات.. الا ان المؤلف برغم انحيازه للترام فإنه لا يخفي انزعاجه من سلوكيات مشينة حيث أضحت محطاته مكانا لتلاقي العشاق وانتشار الموبقات فقد اعتبرت إحدي الصحف الترام من علامات الساعة فهو الذي سهل ارتكاب الفواحش. وأخيرا يمكن القول ان الفضل الحقيقي لصدور تلك الطبعة الجديدة من الكتاب هو اعادة تسليط الضوء علي مؤلفه ومؤلفاته الأخري اذ حقق كتبا منها( المفردات في غريب القرآن) و(الملل والنحل) و(ديوان البوصيري) ومن مؤلفاته( أثر التشيع في الادب العربي) و(الادب القبطي.. تاريخه وأعلامه) و(طه حسين الشاعر الكاتب) و(حسين كامل.. فترة مظلمة في تاريخ مصركما ان له كتابا عن الاستعمار الايطالي- لليبيا في الصحف المصرية. وربما يكون ترام القاهرة فرصة لاعادة نشر كتاب آخر لنفس المؤلف عنوانه في ربوع الازبكية يكمل ما بدأه في كتابه الشيق الذي يضيف رصيدا جديدا لموجة من النشر يمكن تسميتها موجة الحنين للقاهرة الكوزموبوليتانية.