في الأمسية التي تفضل الشيخ عبد المقصود خوجة فأقامها يوم الاثنين الأسبق تكريما لي, ودعاني لحضورها في الإثنينية أي ندوة الاثنين التي يعقدها بداره العامرة في مدينة جدة, سألني أحد الحاضرين الذين دار بيني وبينهم حوار طويل شارك فيه الرجال والنساء حول تجربتي في الشعر والحياة! هل أنت نادم علي هجائك للعقاد؟ وكان جوابي: نعم. أنا نادم عليه! وقد لاحظت في بعض التعليقات, التي نشرت في الصحف عن هذا اللقاء إهتماما خاصا بما قلته عن العقاد وهذا أمر طبيعي. لكن بعض المعلقين اكتفوا بالجانب الذي بدا لهم مثيرا في هذه القصة التي تعود بدايتها إلي الستينيات الأولي من القرن الماضي, ولم يتطرقوا الي جوانبها الأخري التي تحتاج لإيضاح, حتي لا يسيء القاريء فهمها, أو يخلط بين الجانب الشخصي في القصة والجوانب الموضوعية. وسأبدأ حديثي بكلمة لابد منها عن هذه الإثنينية التي لم أكن أعرف عنها الكثير حتي لبيت دعوتها, فرأيت كيف يستطيع رجل محب للثقافة أن يجعل الثقافة شرطا من شروط الحياة في المجتمع الذي يعيش فيه, وأن يساعد هذا المجتمع بالتالي علي أن يتخفف من قيوده الموروثة, ويستثمر طاقاته المادية والمعنوية, وينظر لنفسه وللعالم نظرة جديدة يصحح بها معارفه, ويستكمل ما ينقصه ليصبح جديرا بالحياة في العصر الذي يعيش فيه. والإثنينية كما أشرت أمسية ثقافية تعقد يوم الاثنين من كل أسبوع, ومن هنا اسمها الذي يذكر بمقالات الناقد الفرنسي سانت بوف التي كان ينشرها يوم الاثنين فسماها أحاديث الاثنين وعلي غرارها سمي طه حسين مقالاته التي كان ينشرها في جريدة السياسة يوم الأربعاء حديث الأربعاء, وهو العنوان الذي كان حاضرا في وجداني حين اخترت الأربعاء موعدا لنشر مقالاتي في الأهرام. وقد بدأت الإثنينية نشاطها منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما, استطاعت خلالها أن تحقق حضورا قويا لمسته فيمن لبوا الدعوة وحضروا الأمسية, وهم شعراء مثل عبد الله الصيخان, وعلي الدميني, وسعيد السريحي, وأساتذة مثل الدكتور رضا بن محمد سعيد عبيد المدير السابق لجامعة الملك عبد العزيز والرئيس الحالي لمؤسسة اليمامة, والدكتور عبد المحسن القحطاني أستاذ الأدب ورئيس المنتدي الأدبي الذي أدار الحوار بيني وبين الحاضرين ودعاني في اليوم التالي لحضور افتتاح الموسم الثقافي للمنتدي حيث تعرفت علي الدكتور عبد العزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام, وهو شاعر أيضا. ولا أنسي الدبلوماسيين العرب الذين رأيت في مقدمتهم السفير علي العشيري قنصل مصر في جدة. أما صاحب الإثنينية فرجل مثقف محب للثقافة وإن لم يشتغل بالكتابة, علي عكس الذين يشتغلون بالكتابة دون أن يحبوا الثقافة. وفضيلة أخري هي قدرته علي أن يحب صاحب الرأي دون أن يوافقه دائما فيما يري, وأن يدافع عن حق من يختلف معه في أن يعبر عن رأيه بحرية. وقد تأكد لي هذا في الأمسية التي أقامها تكريما لي وهو يعلم أن في بلاده وبلادي من يضيقون بالحرية ويرفعون الدعاوي ضد من يختلفون معهم ويطلبون مصادرة ما يقولون وما يكتبون! في هذا الجو المفعم بالمودة ورحابة الصدر والتقدير المتبادل تحدثت عن نشأتي, وعن التحولات الكبري في حياتي, عن هجرتي إلي القاهرة, وعن إقامتي الطويلة في باريس. وعن الشعر كيف أقرأه وكيف أكتبه, وعن مساهمتي في تجديد القصيدة العربية, وعن المعركة التي اشتعلت بيننا وبين الأستاذ العقاد, والقصيدة التي قلتها في هجائه. لماذا قلت هذه القصيدة؟ ومتي قلتها؟ هذه القصيدة قيلت في أواخر عام1961, أي منذ نحو نصف قرن. وكان العقاد, وهو عضو دائم في المجلس الأعلي للفنون والآداب ومقرر للجنة الشعر في المجلس, قد اعترض علي وجودي أنا وصلاح عبد الصبور ضمن الشعراء المصريين المشاركين في مهرجان الشعر العربي الذي كان يقام في دمشق خلال سنوات الوحدة في شهر سبتمبر من كل عام. وكنا قد شاركنا أنا وصلاح في مهرجان العام السابق بقصائد نظمناها علي الطريقة التقليدية فلم يعترض العقاد مما شجع يوسف السباعي علي أن يعيد الكرة في العام التالي ويضمنا للوفد المسافر الي دمشق دون أن يشترط علينا الالتزام بالشكل التقليدي, خاصة وقد وجد أن لنا جمهورا في سوريا وأن الوفد المصري يستفيد من وجودنا فيه, غير أن الأستاذ العقاد اعترض وأبرق من القاهرة يهدد بالاستقالة من المجلس الأعلي لو شاركنا في المهرجان بشعرنا الجديد. وأسقط في يد السباعي الذي أطلعنا علي موقف العقاد وصارحنا بأنه لا يستطيع مخالفته, وإذن فلن نلقي أشعارنا في المهرجان! والواقع أننا لم نفاجأ, فالمعركة قديمة متصلة تتسع ساحتها كل يوم ونكسب فيها كل يوم أرضا جديدة لكن منعنا من المشاركة في المهرجان بعد أن نزلنا دمشق كان ضيما لا يحتمل. ثم كانت الفاجعة الكبري التي انتهي بها المهرجان هي وقوع الانفصال الذي خرجنا به من سوريا أجانب مطرودين, وقد دخلناها منذ أسبوع مواطنين! لقد أحسست بأن وراء هذه الأحداث كلها سببا جوهريا أسميه الطغيان, وفرض الرأي بالقوة, والتنكيل بالمخالفين سواء في الثقافة أو في السياسة. وهكذا كانت قصيدتي تعبيرا عن شعور بالقهر والظلم تجاوزت فيه الحد فرميت العقاد بكل نقيصة وأنكرت عليه كل فضيلة, لكني قلت ما قلته في إطار الشكل التقليدي الذي يتعصب له العقاد حتي أثبت له ولقرائي ولقرائه أني قادر علي أن أبلغ في الشعر ما يبلغه التقليديون, لكني أتجاوزه إلي ما أبلغه وحدي, ويستطيع القارئ العزيز أن يقرأ القصيدة كاملة في مجموعتي الثانية أوراس. لكني أشير هنا إلي أبيات رد العقاد علي ما قلته فيها مخاطبا إياه. تعيش في عصرنا ضيفا وتشتمنا أنا بإيقاعه نشدو ونطربه وأننا نمنح الأيام ما طلبت وفيك ضاع من التاريخ مطلبه وفيك لا أمسنا زاه ولا غدنا وفيك أبهت ما فينا وأكذبه! ويبدو أن العقاد تألم أشد الألم حين قرأ القصيدة منشورة في الأهرام فرد في حديث أجرته معه صحيفة المساء قائلا: بل هم الذين يعيشون في عصر العقاد! ومع أن العقاد لم يكن عادلا معنا, كما لم يكن عادلا مع شوقي قبلنا فقد صدق في رده علي, لأننا بالفعل كنا نعيش في النهضة التي صنعها هو وأبناء جيله الكبار, ولهذا تألمت لألم العقاد, وحاولت الاعتذار عما قلت, فذهبت لزيارته بصحبة سعد وهبة ورجاء النقاش, لكنه لم يمكني من الاعتذار. ثم رحل بعد عامين فرثيته بمقالة في روزاليوسف استعدت فيها أمجاده, ثم عدت فنظمت فيه قصيدتي الكروان. وإذن فالندم الذي عبرت عنه ليس طارئا ولا جديدا. ثم إني نادم علي ما انسقت إليه في القصيدة من عبارات جارحة, وكنت لا أزال في السادسة والعشرين من عمري, لكني لست نادما علي موقفي من حركة التجديد أو علي دوري فيها, بل أنا معتز بهذا الدور أشد الاعتزاز, وإن كنت أري الآن أن الحاجة ملحة للدفاع عن تراث الشعر العربي وهضمه والتمكن من أدواته واتخاذه زادا لابد منه في مغامرة التجديد حتي لا تتحول المغامرة الي مقامرة!