تعد معركة كتاب د.طه حسين “فى الشعر الجاهلي” من أشهر وأكثر المعارك الأدبية استمرارية وضراوة وخطورة فى تاريخ الأدب العربى الحديث، ذلك أن المحاضرات التى ألقاها د.طه حسين فى كلية الآداب بجامعة القاهرة وقدمها فى كتابه “فى الشعر الجاهلي” عام 1926 ثم أعاد طبعها فى 1927 تحت عنوان “فى الأدب الجاهلي” وتجددت فى سياقات متعددة على مدار القرن الماضي، ما تزال تبعاتها تطارد من يحاولون التفكير خارج الصندوق.. وفى دراسته لكتاب الشعر الجاهلى يقدم الناقد سامح كريم قراءة تحليلية دقيقة متأنية للنص المثير للجدل و لما دار حوله من تأويلات وتحوير للمعانى تسبب فى إثارة الرأى العام والأزهر وعدد من الكتاب والباحثين. فيوضح الكاتب عبر قراءته للنص أن طه حسين اعتبر القرآن الكريم النص العربى الوحيد والمرجعية المصدقة التى يمكن أن تكون استدلالاً ومقياساً حقيقيا لمعرفة واقع عصر النبوة وما سبقه وتبيان الحقيقة من الوهم فى أقوال الشعراء والخطباء وفى سجع وخيال الرواية، «فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلى ونص القرآن ثابت لاشك فيه –أدرسها فى القرآن وأدرسها فى شعر هؤلاء الذين عاصروا النبى وجادلوه، فى شعر الشعراء الذين جاءوا بعده». ويشرح كريم منهج طه حسين فى دراسة ما وصل إلينا من أشعار منسوبة للعصر الجاهلى واعتماده على التمحيص اللغوى لبعض الأشعار المنسوبة للعصر الجاهلى وقضية الرواية الشفهية والانتحال. ويجمع كريم الاتهامات التى لاحقت طه حسين منذ بدء معركة الشعر الجاهلى ويفندها بكلمات عميد الادب نفسه وبسطور كبار الكتاب الذين تصدوا لمن حاولوا تجريد طه حسين من شرف الريادة وزايدوا على دينه وعروبته، فيقدم الترجمة العربية لمقالة «مرجليوت»-نشأة الشعر الجاهلى –التى اتهم بعض النقاد طه حسين بالسطو عليها، إضافة لمقال «مرجليوت» الذى كتبه عام 1927 لتبرئة طه حسين من تهمة السطو على مقاله ولإثبات الاختلاف بين المنهجين. كما يستعرض الباحث أسباب الهجوم على عميد الأدب العربى والأجواء السياسية والمجتمعية التى صعدت حدة الأزمة سواء فى المرة الأولى فى عشرينيات القرن الماضى وما تلاها، سواء بالقراءة المنقوصة للكتاب أو باقتطاع كلمات أو فقرات من سياقها لتوحى بمعان لم يقصدها طه حسين، مما دفع بالأحداث فى المرة الأولى نحو إثارة القضية فى البرلمان المصرى وهجوم عدد من الوفديين على طه حسبن والمطالبة بمصادرة الكتاب وإعدامه، إضافة لإلغاء عمل طه حسين بالجامعة والتحقيق معه، وصولا للحظة الراهنة التى ما تزال تشهد ظهور كتابات تتهم طه حسين بمحاولة هدم اللغة العربية والزندقة والتخلى عن الهوية. ثم يستعرض سامح كريم الكتابات التى ساندت طه حسين قبيل دراسة د. عبد الرحمن بدوى فى كتاب «دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي» و الذى أثبت أن ما ورد على لسان طه حسين، جاء فى كتب وعلى لسان الأقدمين الذين أشاروا للاصطناع والانتحال وخيال الرواة وتشابه اللغة والمفردات فى عدد من أشعار العصر الجاهلى وبعد ظهور الاسلام. كذلك يطرح المؤلف رؤى د.محمد الانور فى كتابه «قضايا الادب الجاهلى والدرس الادبى المعاصر» الذى اعتبر ان كتاب طه حسين وقفة وتجربة بحثية لها اسبابها وعواملها وأثارها واستناده الى كتاب «مرآة الإسلام». ويرصد سامح كريم موقف أحمد لطفى السيد مدير الجامعة المصرية آنذاك ووزير المعارف على الشمسى الذى طالب مجلس النواب «أن تكون الجامعة مركزا طلقاً للبحث العلمى وأن لا يحكم على عمل أساتذتها إلا النقاد» ومساندة العقاد لطه حسين أمام البرلمان والجهات الرسمية لاعتقاده أن هزيمة الفكر فى تلك الأزمة سيعقبها «افتئات رجال الحكم على أصحاب الأقلام». ويخلص الباحث إلى أن طه حسين الذى شغل الدنيا والناس ما يقرب من قرن من الزمان يستحق منا أن نعيد قراءته من منظور منزه عن الغرض، لا من أجل طه حسين ولكن من أجل أمة يمثل طه حسين أحد دعائمها الثقافية سواء محلياً أم إقليمياً أم دولياً. وأخيرا فإذا كانت أوراق سامح كريم تؤكد أهمية إعادة قراءة الكتاب المثير للجدل بمنظور مختلف، فإنها أيضا تناشد ضمائرنا ألا نخضع صفوة عقول مصر لمحاكم تفتيش العصور الوسطي، بحثا فى ضمائرهم عما يقصدونه ولم يسجلوه أو يكتبوه صراحة.. لمزيد من مقالات سناء صليحة