في عالم تتكاثر فيه المبادلات كما لم يسبق لها مثيل من قبل في تاريخ البشرية وتظهر فيه أيضا أشكال متعددة من التنافر والتوتر بل والصراعات الجديدة. يبدو التقارب الضروري بين دول حوض البحر المتوسط أمرا بديهيا جليا, لن يكون لبلداننا وثقافاتنا وهي وريثة تاريخ طويل مشترك وتراث ثقافي استثنائي مستقبل إلا ضمن حيز متوسطي متقاسم تعززه وحدته وثراؤه وتنوعه. في هذا الدرب المليء بالآمال, تلوح مراحل مهمة بالنسبة لمصر, ففي يونيو المقبل, سيجتمع رؤساء الدول والحكومات في برشلونة, في القمة الثانية للاتحاد من أجل منطقة البحر المتوسط, التي سيسبقها هذا العام أيضا اجتماع وزراء ثقافة كل هذه الدول, يعبر هذا التسلسل السعيد في اللقاءات, الذي يتخطي مجرد الرمز, عن ضرورة حقيقية: كي نبني تحركا مشتركا وطموحا في البحر المتوسط, يتعين أولا: وبهذا أن نستعيد حس التبادل والتقاسم في الرأي الذي تعد الثقافة أداة التعبير عنه وهي أيضا محفزه الرئيسي, وفي هذه العملية تلعب وسائل الإعلام دورا أساسيا. بهذه الأفق سيتم تنظيم المؤتمر المتوسطي الدائم للوسائل السمعية والمرئيةCopeam في باريس, من8 إلي11 أبريل الحالي, تحت رعاية رئيس الجمهورية, يأتي هذا الموعد الذي يجمع بين مهنيين سيأتون من مصر ومن كل دول المنطقة في سياق موات بوجه خاص لمصالح تدعيم التعاون بين كل هذه الدول, فبالفعل, هناك تطورات واحدة باتت تلحق اليوم بقطاع السمعيات والمرئيات في جميع البلدان علي اختلافها: تعميم شبكة الإنترنت وتقنية التليفزيون الرقمي التي باتت في متناول الجميع, التطور المذهل في وسائل الاتصالات اللاسلكية وفي الخدمات الإعلامية التي تقدمها هذه الوسائل, ظهرت قنوات إعلامية بات لها إشعاع دولي.. وفي مواجهة هذه الرهانات الجديدة, بات من العاجل العمل علي تحديد قواعد مشتركة كي يتسني للسوق المتوسطية الواعدة للسمعيات والمرئيات أن تفي بجميع وعودها. فإلي جانب تطوير البنية التحتية( الدخول علي شبكة الإنترنت بوحدات سرعة عالية واستخدام الألياف البصرية) هناك أمر ضروري أضحي يفرض نفسه: وضع إطار مشترك للحماية القانونية بهدف تعظيم تداول الأعمال السمعية والمرئية مع حمايتها ضد القرصنة, بل ويتعين أن نتخطي هذا الجهد الضروري الخاص بصياغة الضوابط المشتركة بهذا الشأن من أجل إطلاق مبادرات طوعية قادرة علي بعث الحياة مجددا في ثقافتنا المتوسطية التي هي ثمرة تراث عتيق يرجع إلي قرون عديدة, وفي هذه الذهنية, سيتم في أثناء المؤتمر طرح ثلاثة مشروعات مهمة ترمز لهذا التحرك. يدور المشروع الأول حول إنشاء جامعة المتوسط للسمعيات والمرئيات, التي تهدف إلي إرساء جسور في هذا القطاع بين المهنيين المتخصصين والطلاب الآتين من كل دول المتوسط كي يتسني لهم ليس فقط التكيف معا مع التطورات السريعة في هذا المجال, بل وأيضا تعلم كيفية مواجهة التحديات وإثراء خبراتهم في مجال الوسائل السمعية والمرئية, أما المشروع الثاني الذي نقترحه علي جمهور أوسع فهو يتعلق بإنشاء موقع جديد علي الإنترنت, بعنوانMeDMeM, ويهدف إلي تعظيم فرص معرفة الآخر ويتضمن أرشيفا سمعيا ومرئيا لجميع القنوات التليفزيونية العامة في المنطقة كلها, أو بمعني آخر مكتبة اسكندرية جديدة وحديثة وذات ذاكرة مفتوحة ومتقاسمة ولكن علي الإنترنت. وهكذا, ستكون مصر محطا للأنظار علي سبيل المثال من خلال صور لمتحف أم كلثوم علي هذا الموقع أو من خلال مقتطفات من إنتاجها التليفزيوني الذي يعالج بروح الدعابة الأوضاع الاجتماعية المصرية أو حتي صور لكبري المواقع السياحية في القاهرة. يتعلق المشروع الثالث, وربما يكون هو المشروع الأكثر طموحا, في إنشاء قناة تليفزيونية ثقافية دولية متعددة اللغات, إنه بإمكاننا تحقيق, علي مستوي منطقة البحر المتوسط, ما سبق أن أنجزته قناةARTE في مجال التعاون الفرنسي الألماني والأوروبي, من شأن هذه القناة, التي ستتم تغذيتها بإسهامات من جميع دول المنطقة, إن تحول الحيز الأورومتوسطي إلي حقيقة ملموسة, ألا تعد هذه القناة وسيلة رائعة لتجنب تلك اللعنة القديمة التي أصابت أهل بابل بأن جعل الله أهل الأرض كل يتحدث بلسان مختلف عن الآخر بعد أن كانوا من قبل شعب واحد ؟. قد يرد البعض بأن هذه المشروعات لا تمثل الأولوية, وبأنه في هذه الأوقات التي يعاني فيها العالم من أزمة عامة تطال الجميع, يمكن للثقافة أن تنتظر قليلا, علي العكس, نحن نري أننا نستطيع بفضل الثقافة بوجه خاص أن نمضي قدما وأن نجعل من الاتحاد من أجل منطقة البحر المتوسط حقيقة لكل شعوب المنطقة, لو أتيحت لي الفرصة مجددا لبدأت بالثقافة, نحن نعلم أن هذه العبارة هي مقطع شعري من وحي خيال الشاعر جان مونيه, ولكن لا يعد ذلك سببا كيلا نأخذها علي محمل الجد.