يشهد عالمنا العربي اليوم ظاهرة لافتة للانتباه, عصية علي الفهم, تتمثل في السعي الحثيث للتقهقر الي ألوان من التشظي أو التفتت الطائفي والقبلي والعرقي, في مقابل سعي العالم للتكتل في كيانات كبري تحاول أن تجد مشتركات لتعايش قوميات متباينة ومتعددة. لقد أثبتت العولمة, بالرغم من كل الصراعات التي شهدها العالم علي مدي العقدين الماضيين, أن الهويات القومية لن تندثر, بل بإمكانها أن تتناغم في إطار حياة مشتركة يتعايش فيها العالم بحيث تصبح العولمة دعوة للتعايش, وليس أداة تنافر وتنابذ واستعداء, أي أن هذه الهويات أو التعدديات الثقافية هي التي تشكل المجتمع العالمي الذي يجب أن يسوده السلام. لكن المدقق في الواقع العربي المعاصر سيجد أن هذه الرؤية العالمية غائبة عنا, نحن العرب, بشكل تام, كأننا لا نعي أي مسار تتخذه حركة التاريخ البشري الآن, وهي حركة تاريخية تسير وتتقدم وتتشكل, وتتجاوز الصراعات والاختلافات والصدامات في سعي حثيث باتجاه صورة لعالم واحد تجمعه المصالح البشرية, وأسس التعايش المشترك كاختيار وحيد كما يبدو حتي الآن للحفاظ علي حياة واستمرار البشرية. فاليوم يشهد العالم حركة اتصال متبادل لم يشهدها من قبل, سواء عبر وسائل التنقل الحديثة برا وجوا وبحرا, بوسائل تجعل من انتقال البشر بين القارات عملا روتينيا يوميا, أو عبر وسائل الاتصال الحديثة التي استطاعت بالفعل أن تجعل من الكرة الأرضية كرة صغيرة جدا, وتحقق نوعا من ضغط الزمان والمكان لم يكن متاحا بمثل هذه الصورة من قبل. وبينما تتقدم البشرية نحو تشكيل المجتمع العالمي الجديد وفقا لهذه المتغيرات, فإننا نجد أنفسنا نحن العرب ننكفيء بشكل يدعو الي الدهشة عن حلم الدولة الواحدة الذي تخطي عمر طرحه الآن أكثر من قرن من الزمان, الي ألوان من التشظي, والتفتت, ليس علي مستوي الدول فقط, بل علي مستوي القبيلة الواحدة التي يتم اختراقها بدعاوي التفتت, ولا علي مستوي الأديان أو الطوائف, بل علي مستوي المذهب الواحد الذي يتفتت أيضا الي مذاهب جديدة بشكل متسارع, وعداء مميت. ولا ينطبق هذا علي العالم العربي فقط, بل ينسحب علي المنظومة الإسلامية, والنماذج ساطعة من العراق الذي يشهد فتنا طائفية أشعلته تحت مظلة الديمقراطية المزعومة, وفلسطين المنكوبة التي تتصارع فيها حماس مع منظمة فتح, الي اليمن الذي أشعل الحوثيين فيه نيران الصراع المذهبي بين ليلة وضحاها, ومن أفغانستان التي تتصارع فيها قوتان رئيسيتان, إحداهما مدنية والأخري دينية متشددة, الي باكستان التي تتمزق والصومال التي تتحول من دولة الي شظايا من العصابات والقراصنة. استغلال التقنيات الحديثة في التنافر وبالإضافة لكل دعاوي التنافر والفرقة القومية والمذهبية الطائفية وغيرها, فقد شهدت المنطقة العربية علي مدي العقدين الأخيرين موجة من العنف الداخلي الذي مارسه المتناحرون فيما بينهم, لدرجة أنهم استمرأوا انتقال فكرة التفجير الذاتي في عمليات انتحارية كانت موجهة في البداية الي الإسرائيليين من قبل بعض الشباب الاستشهاديين الفلسطينيين, بحيث أصبحت اليوم احدي وسائل التقاتل حتي بين أبناء البلد الواحد والقبيلة الواحدة والمذهب الواحد. بل إن التفتت القبلي شهد ظاهرة جديدة تماما حيث أدت مباراة في كرة القدم بين مصر والجزائر قبل شهرين الي اشعال شرارة نزاعات قبلية وشوفينية انتقلت من الجمهور لتتحول الي أزمة سياسية بين البلدين. واللافت أيضا أن التقنيات الحديثة التي نشهد بسببها ثورة اتصالات غير عادية والتي يفترض أن تكون منبرا, أو وسيلة لتجاوز الانغلاق الفكري, والانفتاح علي الثقافات والأفكار المتباينة التي تتيحها هذه الوسائل الجديدة, مثل الفضائيات والإنترنت, تستخدم في العالم العربي بمنطق معكوس, إذ إن العرب, غالبا, يختارون ما يتناسب فقط مع أفكارهم سلفا, ويعتادون المتابعة أو المشاهدة لما يغذي ما يؤمنون به من مذهبية أو انغلاق, أو يتحمسون لما يعتقدونه ويفكرون فيه. وبالتالي فإن الحاصل هو المزيد من الفتن, ومزيد من المعارك الصاخبة بين أبناء الحضارة الواحدة, والثقافة الواحدة, والدين الواحد, بل واللغة الواحدة, إضافة الي المزيد من العنف وما يسفر عنه من قتل وسفك للدماء علي حساب البناء والتنمية والتطور الحضاري. الشرعية واليأس ولبحث الأسباب العميقة للظاهرة أظن أن هناك نقطتين رئيسيتين ينبغي أخذهما في الاعتبار, هما: تجذر مفهوم الهزيمة وتحوله الي يأس يعبر عنه الأفراد والجماهير بالغضب والعنف الذي نستطيع أن نلمس آثاره في عشرات من الشواهد العربية يوميا, أما النقطة الثانية فتتعلق بمفهوم الشرعية ومدي تحققه للسلطات العربية الحاكمة, ليس من وجهة نظر السلطة, إنما في أعماق وأفكار تلك الجماهير علي نحو خاص. العنف نتيجة لتلاشي الهوية ولعل الانجذاب الي المشروعات السياسية التي حاولت أن ترث المشروع الناصري, وأقصد بها التيارات الإسلامية, هي واحدة من مظاهر رد الفعل علي فكرة غياب الشرعية, ومحاولة الإيعاز بأن وصول تلك القوي ذات التوجهات الدينية هي الشرعية البديلة. تجارب الدول ذات الأعراق المختلفة إن الدول والمنظمات العربية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضي الي مراجعة ودراسة الأسباب التي أدت الي التقهقر وميل الأفراد الي التشرذم والتعصب والتمسك المريض بنعرات المذهب والطائفة والقبيلة, علي حساب منطق الدولة التي تقوم علي مبدأ التعايش والتسامح في إطار من الحرية. وينبغي الأخذ في الاعتبار في دراسات من هذا النوع, النظر الي تجارب الدول التي تضم أعراقا وثقافات مختلفة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية مثلا, وكيف تمنح الحريات للأشخاص بحيث تمنح السلطة لنفسها الشرعية من جهة, ولمحاولة ترسيخ ثقافة التنوع لدي مواطني تلك الدولة. إن التعليم والثقافة العربيين يتحملان مسئولية كبيرة في صياغة مفاهيم جدية للأفراد للتعايش بغرس أهمية وضرورة الثقافات الأخري في نفوس الأطفال منذ نعومة أظفارهم والاهتمام بتعليمهم اللغات الأخري, بحيث يتكون لديهم شغف بالمعرفة بثقافة أخري علي الأقل, وتشكيل وعيهم علي الانفتاح علي الآخر والثقافة والتعليم وحدهما القادران علي أن ينقذا العرب من واقع موغل في التخلف والجهل ومستقبل غامض, ويضعاه علي بر التعايش والنجاة, وليس لنا من خيار آخر.