من الأمور التي تلفت الانتباه اليوم ما نشعر به ونلمسه من ظواهر تعكس عدم فهم الغرب بشكل دقيق لواقع حياتنا كعرب وكمسلمين, عبر شواهد عديدة تناولتها الأدبيات التي أشاعت مصطلحات من قبل صراع الحضارات وصدام الحضارات علي مدي عدة عقود, وهو ما نراه, جليا كذلك, في علاقة الغرب بآسيا, مجسدا في الوقائع الحربية والصراع الممتد في أفغانستان مثلا, أو في توتر علاقاتها بباكستان, أو غيرها من دول آسيا. واللافت للانتباه أيضا أن الغرب كان هو المستعمر لعالمنا العربي لسنوات طويلة, كما فعل الأمر نفسه في دول آسيا. ومع كل تلك السنوات الطويلة من الاستعمار وما استتبعه من استنزاف لثروات الدول المستعمرة, لم تحدث فيه علي ما يبدو, أي محاولة لفهم علمي لطبيعة الشعوب التي استعمرها وثقافاتها بشكل حقيقي, لا في منطقتنا العربية, ولا في منطقة آسيا علي امتداد جغرافيتها. وقد تسبب هذا الاستعمار, في الوقت نفسه, في قطيعة بين العالمين العربي والآسيوي, تبدو للبعض اليوم كأنها فجوة تاريخية, لكن الواقع التاريخي, وكل متابعيه يعرفون أن أواصر العلاقات العربية- الآسيوية التاريخية قامت علي مدي عقود علي عوامل عدة, كونت لنشأة الأواصر العريقة بين البلدان العربية في المشرق والمغرب, وبلدان الشرق الأقصي, ووسط آسيا, واستمرت نتيجة عوامل تاريخية وثقافية وتجارية وحضارية ودينية, دعمت تلك الأواصر بين أطراف الشرق الأقصي والأوسط والأدني. وبسبب الاستعمار الغربي عاني الطرفان طويلا, وتأثرت سياسات واقتصادات, فتغيرت وتبدلت لغات وأبجديات, وتحولت ممالك, وسادت حضارات وبادت أخري, لكن بين كل تلك المتغيرات تجلت حقيقة أن العلاقات والمصالح بين الشعوب أقوي من أن تنمحي, وظلت الأواصر بين الدول أمتن من أن تنهار, ولذلك استبدل بطريق الحرير التاريخي طرق أخري برية وبحرية وجوية, وباتت الرغبة في التواصل مجددا مشروعا لا تخمد جذوته بين الجانبين. إن مظاهر التواصل هذه ليست من فراغ, بل تعبر عن البعد التاريخي لتلك العلاقات التي جسدتها إمبراطوريتان تاريخيتان كبيرتان متزامنتان هما الإمبراطورية الإسلامية في بغداد, وإمبراطورية الصين التي عرفت باسم إمبراطورية تانج في آسيا( حكمت أسرة تانج خلال الفترة من618-907 م). كما لعب انتشار الدين الإسلامي في آسيا في تلك المرحلة التاريخية دورا كبيرا في زيادة مساحة التأثير المتبادل بين المنطقتين, إذ أدي ذلك إلي انتشار الثقافة العربية, التي عرفت بنهضتها الفكرية والعلمية آنذاك, وتحولت شعوب كثيرة إلي تعلم لغة الدين الجديد, وهو ما أسفر عن ظهور علماء في التخصصات كافة, ممن تأثروا بالثقافة العربية, مثلوا رموز الحضارة الإسلامية. وتكاملت أواصر العلاقات بين الجانبين عبر الدور الاقتصادي الذي مثلت التجارة بين الجانبين فيه العامل الأكبر, وما استتبع ذلك من زيادة التأثير بين الثقافتين. وقد أدت تلك العلاقات وامتداد سلطات ونفوذ الدولة الإسلامية إلي الكثير من الانتقالات بين مواطني الثقافتين, وهجرة بعض منهم إلي الطرف الآخر, مما أسفر عن الكثير من مظاهر الاختلاط والتجاذب الثقافي. ومن مظاهر الاختلاط تلك استقرار هجرات واسعة لتجار اليمن الأوائل في القرن التاسع الميلادي في بعض الجزر الآسيوية, وبينها إندونيسيا, مما أسفر عن استقرار للتجارة في تلك البلاد الآسيوية, الذين لعبوا دورا كبيرا في انتشار الإسلام وفي تجارة تلك البلاد. ومن مظاهر الانتقال العربي لآسيا أيضا انتشار اللغة العربية في آسيا الوسطي, وهي مجموعة من تنويعات اللغة العربية المحكية في أوزبكستان وطاجيكستان التي تواجه الانقراض حاليا. فقد كانت هذه اللهجات محكية بين مجتمعات عربية كثيرة من البدو والحضر الذين سكنوا مناطق سمرقند وبخاري وقشقدرية وسرخندرية( في أوزبكستان المعاصرة) وختلون( في طاجيكستان المعاصرة) وكذلك في أفغانستان. وقد تسبب في تأثير اللغة العربية في المنطقة وصول الموجة الأولي من المهاجرين العرب إلي تلك المناطق في القرن الثامن الميلادي مع الفتوحات الإسلامية, ولحقت بهم مجموعات من عرب بلخ وأندخوي( في أفغانستان المعاصرة), وبسبب تأثير الإسلام أصبحت العربية لغة العلوم والآداب في تلك الحقبة, وقد عاش معظم عرب آسيا الوسطي في مجتمعات خاصة بهم, ولم يؤثروا الزيجات المختلطة( لكنها وجدت) مع الجماعات المحلية, وقد ساعد هذا اللغة علي البقاء في مجتمعات متعددة اللغات حتي القرن العشرين. القطيعة والتبعية للغرب لكن مع اضمحلال الدولة الإسلامية, وضعف إمبراطوريات آسيا الكبري في الصين والهند, كان الغرب بالمرصاد, حيث انتهز هذا الضعف والتضعضع لمصلحته, فدخلت جيوشه إلي تلك الدول وسيطر علي ثرواتها وحكوماتها, وبالتدريج ارتبطت المنطقة, في آسيا, وفي البلاد العربية, بالمصالح الغربية والأمريكية, وهو ما أسفر عن تبعية المنطقة العربية للغرب. واليوم, بعد انحسار السيطرة الغربية, نشهد نهضة كبيرة في دول المنطقتين, وبعضها نهضات كبيرة وطموحة. والحقيقة أن التجربة الآسيوية تضم العديد من تجارب التنمية المهمة واللافتة, أعادوا بها بناء مجتمعاتهم ونظم التعليم الأساسي والجامعي لديهم, ما يجعل منها تجارب جديرة بالتأمل والبحث, ويعلي من قيمة وأهمية التعاون التنموي بين المنطقتين, الذي سيكون بمنزلة استعادة لعلاقات تاريخية مشتركة, لكن علي أرضية الحداثة التي ظهرت آثارها علي مدي العقدين الماضيين بجلاء, وأرضية المستجدات التقنية والاستثمارية والثقافية لدي كلا الجانبين, إضافة إلي التاريخ المعاصر من العلاقات التجارية المشتركة بين الطرفين. إن استعادة هذه العلاقات والأواصر المشتركة ذات البعد التاريخي تقتضي وجوب إسراع العرب في إعادة التعرف علي آسيا; ثقافيا وعلميا واجتماعيا وسياسيا, لدعم هذه العلاقات, لأننا, ووفقا للعديد من المتغيرات نحتاج إلي دعم هذه العلاقات لارتباط مصالحنا بهذا النمو العلمي والاقتصادي والتجاري, ما يجعل من تبادل المنفعة بيننا أساسا لهذه العلاقة المشتركة. فالعلاقات بيننا وبين آسيا بهذا المعني تعني أنها علاقات تتسم بالسلمية, لا يشوهها التاريخ بأي من مظاهر العداء المتبادل أو الأحقاد أو الرغبات الانتقامية. وهو ما يعني أن الجسور بيننا وبين آسيا بالفعل ممهدة, خصوصا أن هناك الكثير من المشتركات التي تجعلهم أقرب إلينا, خصوصا علي المستوي الثقافي. إن النهضة الآسيوية بإمكانها بالفعل أن تكون ملهمة لتجارب التنمية العربية في بقاع مختلفة, ويمكن للتقارب العربي الآسيوي أن يصبح أملا لمستقبل مختلف لكلتا الثقافتين, وربما في المستقبل القريب جدا لو صلحت عوامل التقارب والحوار بين المنطقتين, كما أن المستقبل العربي بما يتضمنه من آمال تحقيق التنمية التي تستحقها الشعوب العربية, سيجد في تجارب آسيا, ما ينعش آماله بأن إخلاص النوايا, وحسن الإدارة, والتوقف عن التفكير بمنطق نظرية المؤامرة, كفيل بأن يحقق كل ما قد يبدو اليوم صعبا أو مستحيلا.