لم أتصور يوما أن أعيش الموقف الغريب الذى أحياه الآن، خصوصا فى مرحلتى المتقدمة من العمر، وأرسل إليك بحكايتى راجية أن تشير عليّ بالتصرف السليم إزاءها، فأنا سيدة فى سن الثامنة والستين، كنت أعمل موجهة بالتعليم الثانوى قبل خروجى إلى المعاش، وعشت حياة هادئة مع زوجي، وكان يعمل مهندسا، ويتمتع بأخلاق عالية وأدب جم، والشهامة، والرجولة، وهى الصفات التى دفعتنى إلى الموافقة عليه بين خمسة عشر عريسا جاءونى لطلب يدى من أبى فى أثناء دراستى الجامعية، وبعد تخرجي، وأنجبت منه ولدين صارا ذا شأن كبير فى المجتمع، وقد توفى زوجى العام الماضى فبكيته كثيرا، ولم أجد حولى أحدا بعد انصراف ولدّى إلى حياتهما.. صحيح أننى قريبة منهما لكنى افتقدت الابنة التى تكون دائما سندا لأمها. وملاذا لها، وبالمصادفة تعرفت على سيدة شابة تصغرنى بخمسة وعشرين عاما، حدثتنى عن حياتها، فقالت إنها تعمل بالمحاماة، ومتزوجة من رجل فى سن التاسعة والأربعين، وحاصل على دبلوم المدارس التجارية، ولم يكن ارتباطها به اختياريا، وإنما تزوجته ارضاء لوالدها رحمه الله، إذ كان صديقا مقربا لأبيه، وأنجبت منه بنتا وولدا، وابنها طالب فى الثانوية العامة هذا العام، وحالتها المادية متوسطة بمعنى «اللى بيجيلها على قد اللى بيروح منها فى المصاريف الشهرية»، وليست لديها أى مدخرات، وتنقصها أشياء كثيرة لا تستطيع أن تشتريها، وكانت هذه التلقائية فى الحديث بيننا عاملا قويا فى صداقتنا التى وصلت إلى حد اننى اعتبرتها ابنتي، واعتبرتنى هى أما لها، وتملك الحب قلبينا، وفرحت بخصالها الحميدة، وصفاتها الرائعة، ووجدتها أيضا قريبة من الله، ولا أبالغ إذا قلت لك إننى أحسست بأنها «نفسي»، ولمست الشعور نفسه لديها بأننى «نفسها»، وحتى العادات والتصرفات المشتركة بيننا تكاد تكون متماثلة، وكذلك الأشياء التى نحبها، والأخرى التى نكرهها، وهى أيضا قريبة من البسطاء، وتساند ذوى الحاجة قدر استطاعتها، ولا تتقاضى أتعابا من موكليها الفقراء، ويعلم الله أننى ساعدتها قدر استطاعتي، وأعاملها كأنها ابنتى تماما، وأصبحت واحدة من أفراد أسرتها، وهى أيضا صارت من أبناء أسرتي. وقد فوجئت منذ ثلاثة أشهر بالموقف الغريب الذى وقع عليّ كالصاعقة، إذ اتصل بى زوجها على الهاتف الأرضي، وقال لى أنه يحبنى ويعشقني!، فرددت عليه «أنت بتهزر والا ايه؟».. يا ابنى أنا فى سن والدتك، وعندى أحفاد.. »، فقاطعني، وأقسم أنه «لا بيضحك، ولا بيهزر»، واننى إذا ابتعدت عنه، فسأكون قد حكمت عليه بالموت! فقلت له فى حدة «أرجوك يا...» اعرض نفسك على طبيب نفسي، فأنا لست مراهقة، وأنت أب وزوج، كما أن الله وهبك زوجة عظيمة ومكافحة، وتعرف الله جيدا، وأنا أحبها بشدة، أرجوك انس الكلام اللى قلته، واهتم بزوجتك وأبنائك».. فأعاد قسمه بأن الحب الذى شعر به نحوى ليس له يد فيه، وليست لديه مصلحة عندي، فأنا لا أملك مالا ولا عقارات، ولا أى شيء يمكن أن يطمع فيه، واننى إذا ابتعدت عنه، فإن هذا يعنى تدميرا تاما له! «فنظرت إلى نفسى فى المرآة، فلم أجد فى شكلى شيئا يجذب شابا يصغرنى بتسعة عشر عاما.. حقا لقد كنت جميلة، وأنا شابة وتسابق الشباب وقتها لطلب يدى.. والحمد لله عشت حياتى كلها مع زوجى فى سعادة غامرة واستمرت علاقتنا على مدى اثنين وأربعين عاما، حتى رحيله، ولم يعكر صفوها شيء، ومازلت فخورة به، وأتذكره فى كل المواقف والمناسبات.. وها أنا أقترب من سن السبعين، ولن أسمح أبدا بمثل ما يفكر فيه هذا «المجنون»، وتدبرت الأمر وحدي، فهذا الموقف وأمثاله تقتضى من المرء التريث والحكمة للمحافظة على سمعة الأسر، والحذر من كلام الناس، وتوصلت إلى حل قاطع بأن أبتعد عن أسرة «المتيم» بى رويدا رويدا، وتعللت لصديقتى بأن لدىّ مشاغل كثيرة، وأن وقتى كله أقضيه مع ابنّى وأحفادي، لكنها داومت الاتصال بى وفى كل مرة تبكى وتشكو لى من الحالة العصبية الغريبة التى أصابت زوجها، إذ أحال حياتهم إلى نكد مستمر، وأنها سوف تنفصل عنه إذا لم يتوقف عن معاملته السيئة لهم، وتقول لى «مش عارفة جرى له ايه»؟! والحق اننى أتمزق من داخلي، فالسبب فيما يفتعله من مشاجرات يومية، هو أننى لم أعد أرد على مكالماته، فرنين جرس التليفون لا يتوقف، ويطلبنى بجنون، ومع هذا الالحاح الذى لم أسمع له مثيلا من قبل قررت أن أواجهه بما قد يجهله عني، ورفعت سماعة الهاتف عندما اتصل بى، وأفهمته اننى أعرف الله حق المعرفة، ومن المستحيل أن أرتكب خطأ بالانجراف نحو علاقة عاطفية وأنا فى هذه السن، واننى سأكون دائما سيدة محترمة فى نظر نفسي. ونظر جميع الناس، وأن زوجته ابنتى وهو أيضا، وفوق كل ذلك فإننى لست المرأة التى تقيم علاقة مع زوج صديقتها، وأنا لهما بمنزلة الأم، فرد عليّ بأنه لا يطلب منى أن أحبه أو أن أكون عشيقة له، وإنما يريد فقط أن أسمع منه ما يشعر به نحوي، ومضى قائلا «أننى أشعر أن سنى قريبة من سنك، وأن حبى الشديد الذى لا حدود له من الله، وليس لى يد فيه، وابتعادك عنى سيدمرني، وقد أفكر فى الانتحار»!! اننى أتمزق فى داخلي، ولا أعرف حلا لهذه المشكلة الغريبة التى اقتحمت حياتى وأنا على وشك الدخول فى سن السبعين، فبعد أن مات زوجى لا أفكر أبدا فى أى رجل حتى ولو أراد أن يرتبط بى وكان فى مثل عمري، وأؤدى الصلاة فى مواعيدها، وأقرأ القرآن قبل صلاة الفجر، وأستعد للقاء ربي، وليس بداخلى أى دافع إلى أن أعيش سن المراهقة من جديد، فماذا أفعل وزوجته تلقبنى ب «أمى الحبيبة» وتربطنا علاقة الأم بابنتها؟.. وهل زوجها هذا يعانى مرضا نفسيا دفعه إلى هذا الشعور الغريب؟.. وكيف أعالج هذه المشكلة بحيث لا أدمر أسرة فى حاجة إليه؟ وهل حقا هناك من يعشق امرأة تكبره بتسعة عشر عاما وعلى مشارف السبعين؟.. انه يرجونى بشدة ألا أبتعد عنه حتى لو أن مشاعرى تجاهه، مشاعر أم نحو ولدها، أو أخت لأخيها الصغير، أو صديقة لصديقها.. انه يريد أن يُسمعنى يوميا كلمات الحب والعشق، وأنا بلغت من العمر سنا انتهى معها هذا «الكلام الفارغ»، وفى الوقت نفسه، أريد أن أحافظ على علاقتى بالانسانة التى أحببتها وأحبتنى مهما يكن الثمن، فبماذا تنصحني؟ ولكاتبة هذه الرسالة أقول: قد يقع شاب فى غرام امرأة تكبره بسنوات عديدة فيتزوجها، لاقتناعه بأن بنات جيله ممن يعرفهن لا يتمتعن بالنضج والحيوية اللذين تتمتع بهما محبوبته، وهنا لا يشكل فارق السن عائقا، مادام الإثنان قد اقتنعا وتيقنا أن سعادتهما فى ارتباطهما، وأن الشقاء سيلاحقهما اذا ابتعدا عن بعضهما، وهناك أمثلة عديدة على نجاح الزواج من هذا النوع مادام الطرفان لا يضمران سوى الحب المتبادل والرغبة فى استكمال مسيرة الحياة معا.. أما القصة التى أنت بصددها الآن فهى مختلفة تماما عن هذا النموذج المثالي، فهذا الرجل فى سن الخمسين تقريبا، ومتزوج من سيدة تصفينها بالفاضلة والمتميزة فى كل الوجوه لدرجة أنك ترين فيها نفسك، وتمضى حياته معها على ما يرام، ولم يعكر صفوها شيء، وقد تزوجت منه برغبتها، ولم تتوقف عند مسألة المؤهل الدراسى التى لم تكن عائقا أمام الصفات الأخرى التى رآها والدها متأصلة فيه، واستمرت حياتهما كل هذه السنوات بلا مشكلات، ولم تشك إليك من معاملته لها، أو أى شيء آخر، بل انها تساعد الآخرين قدر استطاعتها، ودخلها يكفيها، والحياة تسير بأسرتها هادئة.. إذن ما الذى غيّره تجاهها، وما ذنبها لكى يحيل حياتها الى عذاب مستمر لمجرد أنك ابتعدت عن أسرته بعد مكالماته الغرامية؟.. فى حقيقة الأمر، وكما توحى وقائع قصتك، فإن هذا الرجل يريد ايقاعك فى بحر الرذيلة، فالطريق إليها يبدأ بالكلام المعسول، ومع تكرار الاتصال بك وبث كلمات الغرام على مسامعك، ستأتى تلقائيا مرحلة التطبيق العملي، بإيهامك بأنه يريد أن يراك، لكى يطمئن عليك، وبالطبع سوف تعود زياراتك الى صديقتك، وسيعود هو الآخر إلى زيارتك فى إطار العلاقات الأسرية التى تربطكما معا، وهكذا سوف تنجرفين اليه، وستقعين فى براثنه إن عاجلا أو آجلا، فمعظم النار من مستصغر الشرر، وليس طلبه الاكتفاء بأن تسمعى منه كلمات الحب والعشق يوميا، سوى الشرارة الأولى التى يطلقها لنيل أغراضه الدنيئة منك.. ولا استبعد أن تكون صديقتك هذه على علم ببعض خيوط خطته، للحصول على المال منك، باعتبار أنك ساعدتيها ماديا من قبل، وما حدث من حكاية الشجار المستمر الذى استجد فى حياتهما بعد تعرفك عليها، سوى حيلة جديدة لكى تضخى إليها المزيد من المساعدات، فهناك أناس بهذا السلوك، ولا تظهر عليهم ألاعيب الخداع والسكينة إلا بعد الإنخراط فى التعامل معهم، والانجراف الى تيارهم، والوقوع فى شباكهم.. نعم هذا احتمال وارد، كما أن وصول علاقتك بصديقتك الى هذه المرحلة من العلاقات الأسرية خلال فترة وجيزة موضع استفهام، ثم ما هى المصادفة التى تعرفت عليها فيها، وما دخل زوجها فى هذه العلاقة؟.. وكيف جرؤ على أن يفاتحك فى غرامه بك، وهو لا يدرك رد فعلك؟.. أخشى ما أخشاه أن يكون «الزن على الودان أمر من السحر»، كما يقولون، بدليل أن كلام العشق الذى قاله لك جعلك تنظرين فى المرآة، فوجدت علامات الزمن قد كست وجهك إلا من بقايا جمال الشباب، وهذا هو مكمن الخطر الحقيقي، واذا تماديت فى الكلام مع هذا الرجل فسوف تكون النهاية كارثية. فاقطعى صلتك به فورا، وابلغى زوجته بأمره ولا تبادليه أى كلمات فى التليفون أو وجها لوجه، فقد يسجل ما تقولين ثم يساومك على هذه التسجيلات بأنك إن لم تستجيبى له فسوف يرسلها الى ابنيك أو معارفك، الى غير ذلك من الممارسات اللاأخلاقية التى يلجأ إليها أمثال هذا الشخص، ولا تترددى فى الإقدام على هذه الخطوة، وإقطعى علاقتك بصديقتك هذه، واذا أرادت أن تستمر صداقتكما معا، فليبتعد زوجها تماما عنك. إن الوضوح فى هذه المسائل هو الطريق الأوحد نحو الخلاص من شرور الآخرين، أما عن الحب الذى يتحدث عنه زوج صديقتك، ويقسم لك أنه ليس بيده، فهو مجرد كلام يحاول أن يجرك به الى علاقة غرامية، وللأسف فإنك كدت تصدقينه، ناسية أو متناسية أن الحب إحساس نبيل، مقره القلب، وقد أوجده الله سبحانه وتعالى فينا لاتمام معنى الفضيلة فى تصرفاتنا، فإذا خالفت تصرفاتنا هذا المعني، فإنها لا تنتسب إليه، وإذا كان هذا الرجل يحبك من باب أنه أخ أصغر، أو حتى ابنك فإنه لا يليق بالإبن ولا بالأخ أن يكون عاشقا لأمه أو أخته، فليكتم هذا الحب فى قلبه إن كان صادقا فيما يدّعيه، فمن تناقض تصرفاته المعنى السامى للحب، يصير الى نعت آخر، وينجرف الى عالم الرذيلة. وأرجو أن تحسمى أمورك مع هذه الأسرة، فإذا أرادت صديقتك أن تتواصل معك بعيدا عن زوجها فلتزورك فى بيتك، أو فى أى مكان للتنزه، بشرط ألا يكون زوجها أو مشكلاتها معه مثار نقاش بينكما، وإلا فإن قطع هذه العلاقة هو الحل الناجع والذى لا بديل عنه، ولا داعى أبدا لأن تتذرعى بأى حجج، فالمواجهة الحاسمة هى أفضل الطرق لحل المشكلات، وعلاج الأزمات.. اسأل الله لك الطمأنينة، وراحة البال، وما أكثر الصديقات الطيبات اللاتى تزخر بهن الحياة، وسوف تجدين ضالتك مع إحداهن، والله المستعان.