ونحن ما زلنا نبحث في كيفية تشكيل لجنة لوضع دستور للبلاد بدأ الحديث عن المباديء التي يجب أن يتضمنها الدستور الجديد. وفي هذا المقام هناك من يعرض الأخذ بدستور1971 خاصة الأبواب الأربعة الأولي فيه نظرا لضيق الوقت علي انتخاب رئيس الدولة. ومثل هذا التفكير المتعجل الذي يبدو أصحابه وكأنهم يفكرون للصالح العام يتجاهل كثيرا من الحقائق لعل أبسطها أنه بفتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة في ضوء إعلان دستوري صدر في عجالة(30 مارس2011) وثارت ضده تحفظات, يجعل وضع الدستور قبل الانتخابات أمرا لا فائدة منه, ولو كانت هناك أهمية في أن يأتي الرئيس بناء علي دستور لكان من المفروض ارجاء فتح باب الترشيح للرئاسة بعد إصدار الدستور. أما وأن باب الترشح قد افتتح قبل إصدار الدستور, فلم يعد هناك معني للتعجل في إصداره قبل انتخابات الرئاسة. أما الأبواب الأربعة الأولي من دستور1971 التي يري البعض أنه لا غبار عليها, فإنها تضم مواد محل خلاف وجدل بفعل ثورة25 يناير مثل المادة(2) الخاصة بالشريعة, والمادة(11) التي ترتبط بها لأنها تنص علي أن الدولة تكفل التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع, ومساواتها بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية دون إخلال باحكام الشريعة الاسلامية بينما المادة(2) تتحدث عن المباديء وليس الأحكام. والمادة(40) تتناقض مع هاتين المادتين حين تنص علي إن المواطنين لدي القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة وواقع الأمر إن دستور1971 كان يعكس الظروف السياسية التي صاحبت إصداره, فالرئيس السادات كانت لديه رغبة في التخلي عن نظام حكم جمال عبد الناصر دون أن يصرح بذلك, فجاءت كثير من مواد الدستور متناقضا بين نظام عبد الناصر ورغبات السادات. ومن أمثلة ذلك التناقض حتي في المادة الواحدة أن المادة(4) تقول: إن الاقتصاد يقوم علي تنمية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وكفالة الأشكال المختلفة للملكية والحفاظ علي حقوق العمال, وهذا جمع بين أهداف متضادة لا يتحقق أحدها إلا علي حساب الآخر. وأيضا المادة(7) التي تقول: يقوم المجتمع علي التضامن الاجتماعي, وهي كلمة رجراجة وغير محددة, فالتضامن يمكن أن يتحقق عن طريق البر والإحسان وموائد رمضان وكفالة اليتيم.. إلخ, وأمره متروك للأفراد دون سياسة من الدولة. وفي الوقت نفسه تقول المادة(8) إن الدولة تكفل تكافؤ الفرص لجميع المواطنين, وهكذا فإن تناقضات ذلك الدستور كثيرة بسبب الأغراض التي ينطوي عليها في ضوء الظروف المصاحبة, وهي ليست موضوعنا الآن. فإذا كنا سوف نستعيد دستور1971 بدرجة أو بأخري, فإن هذا يعني أن ثورة25 يناير لم تقم, وأن ما حدث كان مجرد إزاحة لرأس النظام وبقي النظام بفلسفاته بإحلال أشخاص جدد وكأننا نقدم مشروبات قديمة في قوارير جديدة. أما إذا أردنا أن نضع دستورا يعبر عن شعارات ثورة يناير في الخبز والكرامة والعدالة الاجتماعية فالطريق إلي ذلك معروف ومحدد, ولا يتم إلا إذا استلهمت لجنة المائة المنتظرة شعارات الثورة, وعملت علي استيعاب آمال قوي المجتمع, بحيث تجد كل قوة نفسها في مواد الدستور فيحدث التماسك الاجتماعي والوطني, ويتفرغ الجميع للبناء وليس للثأر أو محاولة صياغة سلوك الإنسان المصري وفق مباديء مستمدة من ثقافات غير مصرية مهما كانت عظيمة في بابها, ذلك أن الإنسان ابن ظروف مجتمعه وليس ابن ظروف مجتمع آخر. والشعوب التي وضعت دساتيرها ابتداء من دستور الثورة الفرنسية في1791 لم تستلهم مواده من ثقافات مجاورة غير فرنسية بل إن الدستور استلهم شعار الحرية والإخاء والمساواة الذي رفعه ثوار يولية1789, فمثلا مبدأ الإخاء في شعار الثورة جاء لأن المواطن الفرنسي قبل الثورة هو فقط الكاثوليكي العقيدة لا لشيء سوي أن الملك كاثوليكي والناس علي دين ملوكهم أو ينبغي لهم ذلك, وكان هذا يعني أن غير الكاثوليك في فرنسا من البروتستانت واليهود يعيشون علي هامش المجتمع, ومن ثم جاء المبدأ لتوحيد الأمة الفرنسية في مواجهة سلطة الحكم المطلقة, وهو أمر قريب من الوحدة الوطنية التي نقول بها في مصر. وهكذا فإن كل دستور يستمد فلسفته من واقع الظروف المصاحبة وليس بتكرار مواد من دساتير سابقة أو محاكاة لشعوب أخري وإهمال جميع المتغيرات. وفي هذا الخصوص لا يجوز أن تقع لجنة المائة فيما وقعت فيه لجنة الخمسين التي قدمت مشروع دستور1954 حين لم تضع في اعتبارها قيام ثورة ضد الإقطاع وسيطرة رأس المال علي الحكم, ومن ثم نص ذلك المشروع في المادة رقم(34) علي أن المصادرة العامة للأموال محظورة; ونصت المادة(35) علي أن النشاط الاقتصادي الفردي حر علي ألا يضر بمنفعة اجتماعية. والمادة رقم(37) تقول: إن القانون يكفل التوافق بين النشاط الاقتصادي العام والنشاط الحر تحقيقا للأهداف الاجتماعية ورخاء الشعب. أي أن واضعيه استعادوا روح دستور1923 رغم تغير الظروف. والمادة رقم(90) اشترطت فيمن ينتخب رئيسا للجمهورية, ألا تقل سنه يوم الانتخاب عن خمس وأربعين سنة. وكان هذا معناه إبعاد جمال عبد الناصر وكل أعضاء مجلس قيادة الثورة عن اعتلاء كرسي الرئاسة لأنهم كانوا جميعا أقل من سن الخمسة والأربعين, ولا تتاح الفرصة إلا لمحمد نجيب الذي كانت عناصر الثورة المضادة قد تحلقت حوله منذ قيام جمال عبد الناصر بإلغاء جماعة الإخوان المسلمين في14 يناير1954, وتصريحات نجيب بعودة الجيش للثكنات وعودة الأحزاب السياسية.. إلخ. والخلاصة.. ينبغي أن يتضمن الدستور الجديد ما ينص علي الفصل بوضوح بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية, وهذا لا يتأتي إلا بإلغاء السلطات المطلقة للرئيس المتمثلة في المواد: رقم137, ورقم144-146 في دستور1971, والتي تنص علي أن الرئيس يضع بالاشتراك مع الوزراء السياسة العامة للحكومة في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية ويشرف علي تنفيذها, وله حق الاعتراض علي القوانين وعلي إصدارها. والأهم بعد إصدار الدستور أن تصدر القوانين متماشية مع مباديء الدستور لا أن تتناقض معها وتفتح الباب للتقاضي, وألا تتناقض اللوائح التنفيذية لكل قانون مع نصوص القانون وروحه, وألا تتناقض الإجراءات الخاصة بتنفيذ القانون عن لائحته التنفيذية لأن هذه التناقضات إحدي آفات التشريع في بلدنا, وذلك احتراما لثورة يناير وتقديرا لدم شهدائها وكل الشهداء الذين راحوا ضحية وقوفهم ضد الاستبداد. المزيد من مقالات د.عاصم الدسوقى