نخلع قفازات الحرير وكلماتها المعسولة، وليست لدينا غيرها من حديد وكلمات جافة .. ولكن لدينا فقط جلد الحقيقة والصبر .. فالعلاقات بين مصر وأثيوبيا هى وبأى معيار فى أى زمان عبر الزمان علاقات طبيعية وأخوية مثلما هى مع سائر الشعوب والدول الأفريقية الشقيقة، تربطها وشائج صلبة قائمة على المنافع والمصالح المتبادلة فضلا عن الجينات القارية والزيجات والهجرات والتداخلات التى يصعب حصرها وتصنيفها عبر التاريخ. . واذا نظرنا الى التاريخ المعاصر نجد تقاربا كبيرا بين مصر بعد ثورة 23 يوليو وبين اثيوبيا, وبالنسبة لدولة اثيوبيا تحديداً فقد أولاها جمال عبدالناصر عناية خاصة، وبسببها كان هو الذى اقترح ان تكون أديس أبابا .. مقراً لمنظمة الوحدة الأفريقية الاتحاد الأفريقى بعد ذلك رغم ان تياراً قوياً كان يرى ان القاهرة أحق بذلك لدورها فى حركة التحرر وفى انشاء المنظمة .. وهكذا .. مضت العلاقات طيبة بل انها لم تتراجع بعد محاولة اغتيال الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك فى أديس أبابا فلم تكن إثيوبيا طرفا فاعلا وانما كانت مسرحا للجريمة .. أما اذا كانت قد حدثت بعد ذلك مشكلات فى الاستثمار وبالذات فى استيراد اللحوم التى تمثل سلعة تصديرية أساسية لأديس أبابا فاننى أشهد أن الموقف الرسمى للحكومة المصرية كان مع الاستيراد وتنمية التجارة، غير أن ألاعيب «مافيا» اللحوم كان لها رأى آخر!! اذن .. ما الذى حدث؟ ما الذى حدث حتى يتلبد الجو بالغيوم؟ اننى هنا لا أريد الانزلاق الى مسائل صغيرة ترددها حناجر مشروخة وأقلام مسمومة معادية لشعوب افريقيا .. اذن فهل تجمعت هذه الغيوم نتيجة المؤتمر السخيف الذى كان قد عقده الرئيس الأسبق محمد مرسى الذى يحاكم الآن دليلا على أن سياساته كانت ضد ارادة الشعب وأهدافه؟ وألم تعرف أثيوبيا وسفارتها فى مصر ان الشعب بمختلف شرائحه ضد هذا العبث اللامسئول؟ اننا لا ندافع عن الموقف المصرى فهو كما أسلفنا ونكرر معروف وصفحاته ناصعة، وهذا هو الذى يجلعنا مندهشين عندما نقرأ ونسمع تصريحات لمسئولين إثيوبيين أقل ماتوصف به انها مستفزة .. ولاينبغى ان يكون لها مكان فى العلاقات الثنائية بين البلدين التى يمكن أن تتأثر سلبيا .. بل إن التأثير السلبى ينعكس أيضا على مباحثات «سد النهضة» وسط تكهنات بأنها ستطول وتمتد حتى يكتمل بناء السد!!ومن هنا .. فان مصر لا تمانع بل ترحب وتساعد أية مشروعات تنموية فى إثيوبيا وأى دولة افريقية ولا تمانع فى اقامة سدود طالما انه ليست لها آثار سلبية، وبالنسبة لسد النهضة تحديدا، فاذا شاء الحق سبحانه وهطلت سيول وأمطار غزيرة بحيث تملأ بحيرة السد 74 مليار متر مكعب فى أقصر فترة ممكنة وبدون انتقاص من المياه المتجهة الى دولة المصب فانه لا بأس من هذا .. أما اذا كانت السيول محدودة والرغبة فى امتلاء السد متسرعة، فان هذه بالضرورة ستؤدى الى الاضرار بدولتى المصب! وتأكيدا للمطلوب فانه اذا تعهدت إثيوبيا بأنها فى كل الأحوال ستحرص على عدم الانتقاص من حصة السودان ومصر.. فإن جاءت السيول وفيرة ستستفيد منها .. وان جاءت عادية ستوازن . وهنا وبهذا التحديد ستنتهى المشكلة المفتعلة بين الدولتين الكبيرتين. ولذلك يطرح السؤال نفسه: هل تريد إثيوبيا الحاق الضرر بالشعب المصرى الذى يعتمد على مياه نهر النيل ومن ثم تريد معاداته؟؟ ان الشعب المصرى كما قلنا واكدنا يرحب ويسعد بأى تنمية لدولة إثيوبيا ويقدم خبراته لها .. لكن يغضبه الى أقصى درجة ان يصحو يوما فلا يجد المياه التى هى مصدر الحياة ويعتمد عليها فى كل أنشطته ويعتبر أن هذه مسألة مصيرية حياتيه! وبديهى ان حصة مصر خمسة وخمسين مليار متر مكعب سنويا ليست فقط مقررة وفق الاتفاقيات الدولية واجبة الاحترام والالتزام انما أيضا حسب احتياجاتها الضرورية من حيث المساحة والكثافة السكانية والأنشطة المشروعة التى تقرها القوانين والأعراف الدولية المستقرة والمطبقة فى المجارى المائية سواء فوق سطح الأرض أو فى جوفها، والتى تخدم اكثر من دولة. واكثر من هذا .. فان الاحتياجات المصرية تستوعب كل ايراد النهر الحالية وهناك احتياج شديد لكميات اضافية . وكان المأمول من الصديق الإثيوبى ان يتعاون مع الشقيق المصرى ومع خبراء دوليين اذا لزم الأمر لحسن ادارة المياه التى تأتى بها السيول سنويا وتقدر باكثر من الف مليار متر مكعب: تهدر وتذهب بلا جدوي!! والخلاصة .. اننا نود القول: ان سد النهضة بالتفاهم الأخوى المدعم قانونيا يجب تنفيذه وفق الاتفاق الذى وقعه رؤساء مصر والسودان وأثيوبيا .. والذى ينص فى مقدمته على احترام ومراعاة الاحتياجات الحالية والمحتملة للدولة .. وبذلك يفتح السد .. الطريق أمام علاقات سوية قوية نافعة بين الدول، لا أن يسد الطريق فى وقت نحتاج فيه نحن الأفارقة الى مزيد من التعاون لمواجهة تحديات النظام العالمى الجديد بما يتضمنه من أطماع بلا حدود فى القارة ، السمراء لاستنزاف خيراتها من مياه ومعادن وأراض وغيرها .. كما استنزفوها من قبل .. والأولة شاخصة منشورة علنا فى العقدين السابقين .. ونحن هنا فقط نقوم بالتحذير والتنبيه وندق أجراس الخطر.. قبل ان يفوت الأوان!! لمزيد من مقالات محمود مراد