الفرق بين صناعة سينما وأخرى يكمن فى القدرة على الاستجابة السريعة والفعالة للظروف. لقد عاشت السينما المصرية حالة من التذبذب منذ فترة طويلة، يطلقون عليها دائما اسم «الأزمة»، غير أن هذه التسمية قد تشير إلى ظرف طارئ، ولكنها عندما تصبح أزمة مزمنة، كما هى الحال الآن، فهذا يشير إلى خلل عميق فى بناء الصناعة ذاتها. لقد كانت هناك بوادر أزمة فى الستينيات، عندما ظهر التليفزيون كمنافس قوي، فأدى إلى تناقص عدد رواد السينما، كما تراجعت بعض الدول العربية لأسباب سياسية عن توزيع الفيلم المصرى، فجاء الحل من الدولة بإنشاء مؤسسة السينما، التى يكيلون لها الهجوم الآن وهى التى أنقذت الصناعة خلال فترة عصيبة، كما أنها الفترة التى شهدت بعضا من كلاسيكات السينما المصرية. وها هى الأزمة تمسك منذ زمن ليس بالقصير بخناق صناعة السينما، لكن الفرق أن الدولة الآن تخلت عن تقديم يد المساعدة الحقيقية لها، بحجة حرية السوق، بينما المواطن المصرى لا يملك رفاهية الذهاب إلى السينما بسبب أعبائه الثقيلة، بالإضافة إلى وجود منافذ تسلية أخرى لا تكلف شيئا تتمثل فى الفضائيات، ناهيك عن حالة سادت مؤخرا من السيولة أو الميوعة فى مواجهة المشكلات، وكأننا أول بلد فى العالم يواجه هذه المشكلة أو تلك. مشكلتنا الحقيقية هى أننا نميل إلى اختراع العجلة، بمعنى أننا لا نتعلم من تجارب الآخرين، وتلك التجارب هى فى الحقيقة رصيد لنا جميعا نستفيد منه. فمن المثير للدهشة مثلا أنه عندما ضرب «الكساد الكبير» الاقتصاد الأمريكى خلال أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، وعانت كل الصناعات من حالة مما يشبه الشلل، كانت هوليوود تعيش حالة من الانتعاش غير المسبوق!! ما السبب؟ إذ كان رواد السينما آنذاك لا يملكون رفاهية الذهاب إلى دور العرض الفاخرة، مرتفعة أثمان التذاكر، لكى يتفرجوا على أفلام مبهرة تتفاخر بالصوت الذى كان فى تلك الفترة هو «البدعة» الجديدة فى بدايات «السينما الناطقة»، فكيف لصناعة السينما أن تحقق أرباحا لم تعرفها أى صناعة أخرى؟! رصد صناع السينما فى هوليوود كل تلك الظروف، وكان رد فعلهم ذكيا، فتخلوا عن دور العرض التى كانوا يطلقون عليها «قصورا» فى المراكز التجارية الكبرى فى المدن، وركزوا على دور العرض المتواضعة رخيصة الثمن فى أحياء العمال الفقراء، الذين كانوا بدورهم يجدون فى الأفلام نوعا من التسلية والعزاء عن أحوالهم المتردية، لكن الأهم هو ذلك الاكتشاف العجيب الذى حمل اسما أغرب: أفلام حرف (ب)!! يبدو من هذا الاسم أن هناك أفلاما تحمل تصنيف (أ)، وهذا صحيح، فهذه الأخيرة هى الأفلام مرتفعة الميزانية، ذات القيم الإنتاجية العالية، التى كانت هوليوود تهتم بها منذ دخول تقنية الصوت فى النصف الثانى من العشرينيات، وعندما ضرب الكساد الاقتصاد الأمريكى تحولت شركات الإنتاج على الفور إلى إنتاج سلعة بديلة، هى أفلام حرف (ب)، الأقصر فى زمن عرضها، لكى تقدم للجمهور وجبة من «فيلمين فى برنامج واحد»، وهو الشعار الإعلانى الذى جذب مزيدا من الناس لدور العرض مرة أخرى. ظلت أفلام حرف (ب) طوال العقود التالية بعض السمات المهمة، فهى أقل بما لا يقارن فى ميزانيات إنتاجها، وكان المألوف أن يُستخدم نفس الديكور، وأحيانا نفس الممثلين وطاقم الفنيين، لصنع أكثر من فيلم، وهى الأفلام التى جاءت من كل الأنماط الفيلمية، خاصة التى تتميز بالإثارة والتشويق، مثل الأفلام البوليسية والويسترن (أفلام الكاوبوي) والرعب وحتى الخيال العلمي. وربما اندهش القارئ من أن أفلاما تحتاج إلى ميزانيات باهظة لتنفيذها، مثل الخيال العلمي، يمكن أن تُصنع بميزانيات قليلة، لكن فقر الإمكانيات وضعف الديكورات والمؤثرات البصرية كان يتم تعويضه بحبكات مثيرة، خاصة عندما يتم رسم شخصيات تصلح لأن تكون موضوعا لعدة حلقات متواصلة. الغريب أن هذه الأفلام – التى تبدو فى ظاهرها نوعا من الاضطرار والتراجع – كانت لها آثار إيجابية عديدة، فلأنه لم يكن هناك قدر كبير من المخاطرة لأن الميزانية متواضعة أصلا، فقد أصبحت أفلام حرف (ب) مجالا لتجريب كل ما هو جديد، وظهرت مدرسة كاملة تحمل اسم المخرج والمنتج روجر كارمن، أشهر من صنع هذه الأفلام، لكنه كان يتمتع بحاسة مدهشة فى التقاط المواهب الجديدة حيث يراها، لذلك أتاح فرصة الإخراج لمجموعة من جيل شاب آنذاك، هم الذين أصبحوا فيما بعد روادا للصناعة والفن السينمائيين فى أمريكا، مثل فرانسيس فورد كوبولا، ومارتين سكورسيزي، وأنطونى مان، وجورج لوكاس، وستيفن سبيلبيرج، ومن الممثلين جاك نيكولسون. ولو راجعت الأفلام المبكرة لهؤلاء السينمائيين، لأصابك العجب والاندهاش من أن قلة الميزانية أتاحت فرصة أكبر للتدريب والتجريب والإبداع. للأسف الشديد تحمل أفلام حرف (ب) فى السينما المصرية دلالات رديئة، إذ يطلقون عليها «أفلام المقاولات»، ونتناسى أن الأغلب الأعم من أفلام السينما المصرية طوال تاريخها كان نوعا من المقاولات ، وهناك أفلام عظيمة فى تاريخ السينما المصرية ليست إلا مقاولات، وهو الأمر الذى يحتاج إلى مناقشة تفصيلية أخرى!! إن جزءا من الحل لأزمة السينما هو عودة أفلام المقاولات بمعناها الفنى الحقيقى، الذى لا يحمل احتقارا ضمنيا، وعلى مؤسسات الدولة أن تتيح لمنتجين صغار دخول ساحة الإنتاج والعرض والتوزيع، وأن تطبق قانونا منسيا فى الأدراج اسمه «عدم الاحتكار». لمزيد من مقالات أحمد يوسف