ستكون هناك خلافات هائلة بين مصالح الدول المتقدمة ونظيرتها النامية فى قمة المناخ فى باريس، ومع ذلك من المرجح أن تكون هذه القمة محطة مفصلية فى التوافق العالمى بشأن قضايا التغير المناخي، ليس فقط للإعداد الجيد للقمة وجدول الأعمال، وإنما لتغير الوضع الدولى عنه فى يونيو 1992 حين عقد مؤتمر «ريودى جانيرو» فى البرازيل، وللتطور العالمى المذهل الذى تحقق على صعيد الابتكارات والعلوم، وعلى صعيد كفاءة الطاقة ونشر استخدامات الطاقة المتجددة والنظيفة، وشيوع مفاهيم «الطاقة الخضراء» و«الاقتصاد الأخضر» فى خطط ومشروعات الدول المتقدمة. لذلك من المرجح أن يجرى التوصل إلى اتفاق يسمح باحتواء ارتفاع درجة الحرارة على الكوكب وإبقائها دون عتبة الدرجتين مئويتين، مقارنة مع مستوى ما قبل الثورة الصناعية. المناخ و«نظرية مالتس» منذ قمة البرازيل برز طغيان المصالح الخاصة بالدول الصناعية على موقفها من مسألة التغير المناخي؛ فحرصت على تجنب تقييد نفسها بالتزامات بخفض انبعاثات الغازات الدفيئة. ولكن بعد ما يقرب من ربع قرن أخذ موقف هذه الدول يتغير، وأصبح الاحتباس الحرارى ليس فقط مسألة تقديرات جزافية وتوقعات علمية حول مستقبل الأرض، وإنما برزت تجلياتها مع واقع التغير المناخى الذى يستشعره ويلمسه حاليا كل سكان الكوكب، على نحو ما يتبدى من الفيضانات والجفاف والعواصف والأعاصير والاضطرابات غير المسبوقة فى دورات المناخ، والتى عمت أرجاء المعمورة فى فصول العام الأربعة. وبنفس أطروحة روبرت مالتس، الباحث السكانى والاقتصادى الإنجليزي، الذى اشتهر بنظريته حول التكاثر السكاني، والذى اعتبر أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية، بينما يزيد الإِنتاج الزراعى وفق متوالية حسابية، مما سيؤدى حتماً إلى نقص الغذاء والحروب التى سينتج عنها نقص السكان، وهى النظرية التى عبرت عن أقصى درجات التشاؤم فى النظرإلى المستقبل، فإن التحليلات والتعامل العالمى السائد اليوم مع مسألة التغيرات المناخية ليست هى ذاتها عام 1992، ليس فيما يتعلق بمخاطر الانبعاث الحراري، وإنما فى نوعية الأفكار المطروحة لمواجهتها، وحجم التطور العالمى الذى تحقق بين 1992– 2015، وهى الفترة الصغيرة زمنيا، لكنها الكبيرة من ناحية حجم الابتكارات الجديدة، مقارنة بعالم «مالتس» الذى عاش فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. الدول المتقدمة وتحولات المصالح لا تزال الدول الصناعية الكبرى مثل الصينوالولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى والهندواليابان أكثر الدول من حيث الانبعاثات الناجمة عن استهلاك الوقود الأحفوري. وتشير تقديرات الأطلس الدولى للكربون لعام 2013 إلى أن الصين تحتل المرتبة الأولى فى قائمة البلدان التى تنتج كميات كبيرة من غازات الاحتباس الحراري، وحدها أطلقت 9٫977 مليون طن من الانبعاثات (تقريبا ربع الغازات المتسببة فى ظاهرة الاحتباس الحراري)، بينما الولاياتالمتحدة 5٫233 مليون طن، الهند 2٫406 مليون طن، روسيا 1٫812 مليون طن، اليابان 1٫246 مليون طن، وألمانيا 759 مليون طن. ولكن بعدما كان وعى هذه الدول بالظاهرة وخطورتها فى الماضى أقل، فإن إدراكها اليوم لمسؤوليتها أكبر، وهو ما يتضح من دولة مثل الصين التى كانت تنكر تحميل نفسها أى تبعة أو التزام يحد من قدراتها على التطور، بذريعة أنها لا تزال دولة نامية ولن تتقيد بالتزامات تحد من معدلات التنمية والتصنيع بالداخل، حيث أعلنت الانتقال إلى اقتصاد نظيف، وأبرمت اتفاقا ملزما مع فرنسا بشأن المناخ، وأكد رئيس الوزراء الصينى أن التنمية الاقتصادية الخضراء تعتبر «واجبا على الصين» بالنسبة لسائر العالم، وأن الصين تبذل جهودا لإعادة التوازن إلى نموذجها للنمو القائم تقليديا على الصناعة الثقيلة والعقارات والبنية التحتية وكل القطاعات المستهلكة للوقود. والآن تعول فرنسا على الصين فى إقناع الهند، التى لاتزال تعارض وضع التزامات بيئية عليها خشية انكماش اقتصادها الذى اقترب معدل نموه السنوى من 7% لعدة سنوات متتالية. وتنعقد قمة باريس فى ظل إقبال كثيف من جانب الدول الصناعية على خطط ومشروعات الطاقة النظيفة (الرياح والشمس والمياه.. وغيرها)، وتسيطر دول مجموعة العشرين على 75% من إجمالى الاستهلاك العالمى للطاقة المتجددة فى حين تخطط للاستحواذ على 70% من حجم الاستثمار فى مجال الطاقة المتجددة من الآن وحتى عام 2030. وفى اجتماعاتها الأخيرة أكدت الالتزام بنشر الطاقة المتجددة أكثر من أى وقت مضى، واعتماد أدوات ذات نهج مستدام نحو تعزيز هذه النوعيات من الطاقة حول العالم. الأوانى المستطرقة للأزمات ولم يقتصر الدافع على التحول فى قضايا المناخ على تطور التكنولوجيات، وإنما على حقيقة التوازن البيئى الطبيعى الذى يتدخل قسرا لتغيير المفاهيم، وعلى سبيل المثال، فإن أحد العناصر الدافعة إلى تغيير مواقف الدول الصناعية (خصوصا دول الاتحاد الأوروبي) من قضايا المناخ، ليس فقط التطور التكولوجي، وإنما تجلى حقيقة العيش فى ظل نظرية الأوانى المستطرقة للأزمات فى العالم. وعلى سبيل المثال، فإن قضايا مثل الإرهاب والدول الفاشلة والهجرة الجماعية واللجوء من جانب قطاعات سكانية كاملة من أماكن الاضطراب إلى أماكن الاستقرار فى أوروبا وأمريكا يشكل أوضاعا ضاغطة على الدول المتقدمة للتجاوب مع أفكار ومقترحات خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، حيث إن استمرار موقفها المعاند يعنى اضطرارها لاحقا لمواجهة مشكلات أكبر فى صميم أمنها الخاص، ما يعنى أن ما ستسعى لتجنبه على صعيد الخسائر الاقتصادية والتنموية اليوم برفضها تخفيض انبعاثات ثانى أكسيد الكربون، ستضطر لمواجهته فى الغد على صعيد استقرارها الداخلي، وربما وجودها السياسي. تجنب الارتدادات وعلى سبيل المثال، أدى عدم الاستقرار فى العديد من دول الشرق الأوسط وإفريقيا إلى نزوح الملايين صوب الشمال الأوروبى فى قوارب الموت، علما بأن هذه الاضطرابات ليست ذات صلة بتغير المناخ الطبيعي, وإنما بالمناخ السياسى فى المنطقة، فماذا يمكن تصوره من موجات النزوح والفرار الجماعى من جراء التغير المناخى إذا وقع، وهو المرجح أن يجرف معه أمواج بشرية إلى غير مواطنها وبلدانها، لتخرج ب «سفن نوح» الساعية إلى البقاع الآمنة فى أوروبا وأمريكا. ومن ثم لم يعد من الممكن للدول المتقدمة الاكتفاء بتجنب الارتدادات السيئة للتغير المناخى عليها بإعادة توطين التكنولوجيات الرديئة والصناعات الثقيلة فى الدول النامية، لأنها سوف ترتد عليها فى النهاية فى ظل تقلص وصغر الحجم الافتراضى للكوكب. من المفارقات، أن الدول المسؤولة عن أكثر الانبعاثات الحرارية هى أيضا الأكثر تطورا فى التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحرارى فى السنوات الماضية، وهو ما يحد من إمكانية إلزامها بالمزيد؛ فمثلا الصين التى تحتل المرتبة الأولى كمصدر للانبعاثات الاحترارية، تشارك فى قمة باريس ولديها أوراق تجعل منها البلد الرائد فى مجال التصدى لظاهرة الاحتباس الحراري، حيث التزمت بخفض الانبعاثات الغازية فى مجال عملية الإنتاج بنسبة تتراوح بين 60 و65% فى غضون عام 2030 مقارنة بنسب 2005، كما أنها تحتل المرتبة الأولى فى قائمة البلدان المستثمرة فى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة. أما الولاياتالمتحدة التى تحتل المرتبة الثانية فى قائمة كبار البلدان الملوثة، فتشارك فى القمة بالتزامات بخفض الانبعاثات بنسبة تتراوح بين 26 و28 عما كانت عليه عام 2005، ورئيسها (أوباما) هو أول رئيس أمريكى يولى المسائل المتصلة بالبيئة اهتماما على المستوى الخطابى والتشريعي. بينما دول الاتحاد الأوروبي، التى تحتل المرتبة الثالثة فى قائمة البلدان المنتجة لغازات الاحتباس الحراري، هى أول طرف التزم بخفض 40 % من الانبعاثات فى حدود عام 2030 عن النسبة التى كانت مسجلة عام 1990، وأصبحت بلدان أوروبية كثيرة منها ألمانيا وإسبانيا يضرب بها المثل فى مجال الانتقال من الطاقة الأحفورية إلى الطاقة الخضراء. معضلة التمويل وتبقى مشكلة التمويل، والحاجة للمساعدة المالية من جانب دول الشمال إلى دول الجنوب لتمويل سياساتها المناخية والأهداف الطويلة الأجل، وتوزيع الجهود بين الدول الصناعية والناشئة والفقيرة لمكافحة الاحتباس الحرارى ورفع سقف التعهدات التى قطعتها الدول للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، عراقيل وعقبات أساسية أمام قمة باريس. وعلى الرغم من وعود دول الشمال بصرف 100 مليار دولار سنويا لدول الجنوب اعتبارا من 2020 تاريخ تطبيق اتفاق باريس، إلا أن هناك حاجة إلى زيادة حصة التمويل المخصص للتأقلم مع التقلبات المناخية، فى ظل التقديرات التى تشير إلى الحاجة إلى 5 تريليونات دولار من الاستثمارات الإضافية لمصلحة الطاقة النظيفة حتى عام 2020. وبعد ذلك، لاتزال التباينات بين مصالح الدول الصناعية حول المناخ، تخلق إمكانية لتوظيفها سياسيا والمساومة بها فى حل وتسوية خلافات أخرى فيما بينها، ومن ثم تخضع حماية مناخ الكوكب لشروط سياسية قابلة للمساومة والمناورة، وهو ما يهدد الالتزام العالمى الفعلى إزاء قضية المناخ. وبالتأكيد، لن يكون الطريق معبدا إلى اتفاقيات ملزمة فى باريس؛ فلاتزال هناك خلافات كبيرة بين الدول المتقدمة نفسها، ولا يزال الموقف الأمريكى عند مستوى أدنى من التحلى بالمسؤولية، حيث كررت الولاياتالمتحدة أنها لن توافق على التقيد قانونيا بأهداف تتعلق بحجم الانبعاثات الكربونية فى أى اتفاق يصدر عن القمة، وكان مجلس الشيوخ قد سمح لواشنطن بالمشاركة فى اتفاقية الأممالمتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ عام 1992 شريطة عدم مساندة فرض قيود معينة على انبعاثاتها الكربونية .ولهذا السبب وغيره، لم تصادق الولاياتالمتحدة على بروتوكول كيوتو للتغير المناخى عام 1997. وعلى الرغم من أن الهند أعلنت أنها سوف تقلل انبعاثاتها الكربونية بحلول عام 2030 بنسبة 33 إلى 35% من مستويات عام 2005، إلا أنها أكدت أنها سوف تعارض مسودة المعاهدة الدولية الجديدة بشأن المناخ، معربة عن الاستياء من الأهداف التى تدفع بها الدول الغنية. لوبيات الضغط لكن على الرغم من العقبات والعراقيل، هناك تطورات عالمية إيجابية، وفاعلون جدد فى الدول الصناعية، أصبح لهم نشاط وتأثير ودور مذهل على الصعيدين المحلى والعالمي؛ فهناك منظمات المجتمع المدنى المعنية بالمناخ والبيئة، وهذه المنظمات يتطور بينها مفاهيم الوعى بالكوكب بشكل يتجاوز السياسيين، وهؤلاء يشكلون لوبيات ضغط تطلق حملات عنيفة ضد الحكومات غير الملتزمة. تكنولوجيا خضراء وينشط الكثير من هؤلاء فى الدعوة إلى تبنى آليات جديدة للتعامل مع مشكلة الحد من الانبعاثات، بحيث لا تقتصر على الجهد الحكومي، وإنما تعمل على بناء شراكات حكومية مع القطاع الخاص، بهدف تكثيف استخدام وتوظيف التكنولوجيات والخدمات الجديدة، وتطبيق حلول مبتكرة لزيادة كفاءة الموارد والانتشار العالمى للتكنولوجيات الخضراء، ونماذج مشروعات وأعمال الاقتصاد الأخضر والتمويل الأخضر والتجارة العالمية فى صادرات وخدمات المستهلك الأخضر، وكلها مفاهيم وعبارات جديدة زاحفة تكتسب أرضيات جديدة كل يوم فى الحوار الاجتماعى والسياسى والفكرى العالمي.