كثير من القائمين على الثقافة العربية الرسمية يعيشون تناقضا عجيباً. يستخدمون الأمثال الشعبية فى أحاديثهم اليومية، ويربون أولادهم، مثلما تربوا، على حواديت الشاطر حسن وست الحسن وفرط الرمان، ويضحكون على النكات الشعبية، ويتداولونها، ويتنافسون فى حل الألغاز، و يمارسون عادات وطقوسا اجتماعية فى المناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة، ونجدهم فى الوقت ذاته يعارضون تدريس الأدب الشعبى فى جامعاتنا. ويعادون العلم الذى يدرس هذه الأنواع الأدبية الشعبية. وتتنوع أسباب رفضهم، فالدراعمة ورجال الدين – معظم الأزهريين وخطباء المساجد – يرون فى دراسة الأدب الشعبى خطرا كبيرا على اللغة العربية، التى هى لغة القرآن الكريم. وللأسف هذه النظرة ليست مقصورة على مصر وحدها، بل تجاوزتها إلى عدد كبير من الدول العربية. وهم يرون أن تدريس الأدب الشعبي، الذى يستخدم العامية، يهدد مكانة الفصحي، ومن الأولى برأيهم الاستفادة بالوقت الذى يصرف فى تدريس هذه المواد فى عمل يخدم الطلاب والإسلام. والرد ببساطة عليهم أن الأدب الشعبى يستخدم، فى معظم الأحيان، العامية فى التواتر والتناقل بين الناس، لكننا نُدرِّسه بالعربية الفصحى فى الجامعات، ونتعامل معه بوصفه نصوصا أدبية، وتقدم الرسائل العلمية حولها بالفصحي، شأن الظواهر الأدبية الأخري. والأمر الآخر، أن الأدب الشعبى ليس دائما مكتوبا بالعامية، فهناك نصوص شعبية كثيرة، خاصة الدينية، تستخدم الفصحي، وهذا التخوف على الفصحي، وهى بالفعل تواجه مخاطر حقيقية ليس الأدب الشعبى من بينها ، أدى لاستبعاد تدريس الأدب الشعبى من معظم الجامعات المصرية والعربية. والعدد القليل جدا الذى يسمح بتدريسه، غالبا ما يقوم به أساتذة غير متخصصين، كأنه تخصص مشاع، يمكن لأى فرد أن يتحدث فيه، وهو أمر يسيء إلى التخصص، وإلى غير المتخصصين أيضا لأنهم غير مؤهلين. ويرى تيار النهضة فى الثقافة الشعبية مصدر رجعية وتخلف، وإجهاض لأى مشروع نهضوي، لأن الفولكلور/ المأثورات الشعبية بنظرهم تدل على الماضي. والرد على هذا الرأي، أن المأثورات الشعبية صدى الماضي، وصوت الحاضر، واستشراف للمستقبل، فأبرز خصائصها المرونة، لأن المواد الشعبية قادرة على تطوير نفسها؛ ومواكبة الظروف الاجتماعية والثقافية والحضارية الجديدة، مثل الحواديت والسيرة الهلالية وبعض العادات والتقاليد، الخاصة بالموالد. وبالرغم من انتمائها إلى الماضي، تمكنت من مسايرة الظروف الاجتماعية المتغيرة، فاستمراريتها تأتى من قدرتها على أداء وظائف حية، ليست ماضوية. والمأثورات الشعبية التى لا تطور نفسها تكتسب وظيفة تاريخية، ترتبط بهوية المجتمع ووجوده، وتصبح جزءا من تراث الأمة، مثل سير “ذات الهمة” و”سيف بن ذى يزن” و”عنترة”، شأن الشعر الجاهلى وكتابات الجاحظ وابن قتيبة وابن خلدون وغيرهم. ويتهم البعض من دارسى المأثورات الشعبية بالعمالة وخيانة مجتمعاتهم لصالح الغرب. وكان لهذه التهمة حضور أكبر فى القرن الماضي، بحكم وجود الاستعمار فى الدول العربية. ويرى أصحاب هذا الرأى أن الدارسين يهدون إلى الأجانب – بقصد أو بلا قصد – تفاصيل حياتية وفهما لطبائع وخصوصيات اجتماعية وثقافية تيسر لهم السيطرة علينا واحتلالنا ثقافيا أو سياسيا. وهذا اتهام يمكن تفنيده ببساطة. أولا: كل دول العالم بها تخصصات تفوق ما لدينا فى دراسة مأثوراتها الشعبية. والدول المتقدمة، التى تحترم نتائج العلم، تتخذ هذه الدراسات وسيلة للنهوض بمجتمعاتها؛ لأنها الأقدر على تبيان طبيعة الإنسان ومشاكله وظروفه. ثانيا: صحيح أن المدخل الفولكلورى والاجتماعى من المداخل المهمة للسيطرة على الشعوب، وهذا ما انتهجه المستعمر الغربي، عندما أحضر معه مجموعة من العلماء الاجتماعيين والأنثروبولوجيين والفولكلوريين، لتجميع المعلومات المهمة من سائر أنحاء البلاد، ليحددوا من خلالها منهج التعامل مع هذه الشعوب. هكذا فعل الفرنسيون، والإنجليز حين احتلا مصر، لكن هذا لا يجعلنا نهمش ثقافة الناس بسبب خوفنا من استغلال الآخر لها، خاصة إذا توافرت سبل قيام الآخر بهذه الدراسات فى بلادنا بكل سهولة ويسر. وهذه الدراسات لها دور مهم فى إحداث نهضة بالبلاد، إذا استغلت نتائجها على نحو صحيح، وإهمالها يعنى تقويض فرص بناء نهضة حقيقية، لأنه يهمش عنصرا أساسيا من عناصر بناء النهضة، وهو “ ثقافة الناس”. ومن المشاكل المعروفة فى هذه المأثورات الشعبية سوء ظن حفظتها بالباحثين. فرُوَاتها يعتقدون أن قيمة مأثوراتهم لا تتجاوز النطاق الجغرافى الذى يعيشون فيه. ولا أنسى جملة سمعتها مرارا أثناء تجاربى الميدانية لجمع المأثورات الشعبية من أماكن متفرقة، حيث ردَّد بعض الرواة: “هى الحكومة بقت هايفة قوى كده، وفاضية علشان يبعتوك تاخد مننا أمثال وحواديت؟!”، وبعضهم ظن أنى مخبر للحكومة، أو جاسوس لقوى غربية، فراحوا ينفون عن أنفسهم “تهمة” حفظ المأثورات الشعبية، ظنّاً أن موافقتهم على التسجيل معى ستجلب لهم مشاكل كثيرة، هم فى غنى عنها. كل هذا، وغيره الكثير بالطبع، حدث وأنا أعد رسالتيَّ للماجستير عن “الحكاية الشعبية فى الفيوم/ 2003”، والدكتوراه عن “السيرة الهلالية فى قنا/ 2007”، وأبحاث أخرى فى غير مكان. كان الناس لا يصدقون اهتمام الحكومة بما لديهم من إبداعات، بل لا يصدقون أى شخص من خارج نطاقهم الجغرافى وسياقهم الاجتماعي، فكيف نرمم هذه الثقة بين الناس والدارسين، أو مسئولين؟! وآخر كلامى إلى الاتجاهات التى تقلل من قيمة مأثوراتنا الشعبية بالقول إن إسرائيل بنت دولتها على هوية ثقافية مزيفة، من مأثوراتنا الشعبية التى نهبتها نتيجة إهمالنا لها، فكانت أول دولة فى المنطقة تمتلك أرشيفا للمأثورات الشعبية. وما تجريه من دراسات فولكلورية عن العرب يفوق بكثير ما يجريه كل العرب من دراسات عن مأثوراتنا الشعبية العربية، وأعتقد أن هذا ليس تخلفا ولا رجعية. ودول العالم التى لا تملك تراثا رسميا أو شعبيا، تتشمم رائحة أى تراث لها لتجعل منه ماضيا مجيدا، دون تفرقة بين الرسمى أو الشعبي، ربما لأن ليس لديهم لغة عربية فصحى يخافون عليها !!. فهذه هى الولاياتالمتحدةالأمريكية تهتم بتسجيل تاريخها الشعبي؛ ليحظى بأهمية تاريخها الرسمي، وهو ما تفعله ألمانيا وبريطانيا وفرنسا فى الأمور المشابهة. وكذلك كان الاهتمام بالمأثورات الشعبية، وجمعها وتسجيلها، سببا فى استقلال بعض الدول التى كانت محتلة. ففنلندا مثلا، التى أفقدها المحتل الروسى ثم السويدى هويتها الثقافية واللغوية، وجدت الخلاص من هذا المحتل، بجمع ملحمة “الكاليفالا”، التى أيقظت شعور الفنلنديين بهويتهم الوطنية، فسجلوها بروح قومية، ونالوا الاستقلال والحرية بسببها. وأظن أن هذا الخيط الشعبى هو ما يحتاجه الفلسطينيون؛ لكى يحموا هويتهم، وينالوا تحررهم، فالمأثورات الشعبية توحد الناس وتجمعهم، فيما تعجز عنه وسائل أخرى كثيرة. هذه إذن الثقافة الشعبية، بكل زخمها، الوطنى والعلمي، فى إحدى كفتى الميزان، والآراء المعارضة لها فى الكفة الأخري، ولنرى أيهما سينتصر له المستقبل؟!!