في الوقت الذي يجتمع فيه ثلاثون باحثا من مصر ومختلف الدول العربية، في الملتقي الرابع للمأثورات الشعبية الذي افتتح فعالياته أمس تحت عنوان (ظروف الحاضر وآفاق المستقبل)، نجد مادة الأدب الشعبي تتعرض للاغتيال في الجامعات المصرية حيث لم يتوقف الأمر علي عدم الاهتمام بها، بل امتد لإلغائها في إحدي كليات الآداب، لا أحد يختلف علي أهمية الدراسات الشعبية والأدب الشعبي الذي يتسع ليشمل العديد من أشكال الكتابة منها: شعر العامية والزجل والأغاني الشعبية والموال وفن الواو والشعر غير المعروف مؤلفه أو الذي قام بتأليفه مجموعة من الشعراء كألف ليلة وليلة، والسير مثل عنترة بن شداد والأميرة ذات الهمة والزير سالم وعلي الزيبق وغيرها. ظل الأدب الشعبي يدرس في جميع كليات الآداب بمصر، إلي أن صدر قرار بإلغاء تدريس تلك المادة من أقسام اللغة العربية في بعض الجامعات، ومنها كلية الآداب بجامعة المنوفية، وقد مر ست سنوات علي هذا القرار، والآن جاء وقت طرح هذا السؤال: هل من الممكن أن يتم -بكل هذه البساطة- إلغاء مادة بأهمية الأدب الشعبي؟ وإذا كان هذا حدث بالفعل، فلماذا لا نلغي مواد أخري؟ لن يحدث شيء، وسيظل الطلبة يحصلون علي شهاداتهم!! ولمعرفة أهمية تدريس تلك المادة ومدي تأثيرها علي التراث الأدبي الشعبي، وإمكانية تطبيق هذا القرار في باقي الجامعات، استطلعت "روزاليوسف" آراء بعض الأدباء والشعراء ورصدت رأيهم في هذا التحقيق: يقول الدكتور أحمد الشاذلي عميد كلية الآداب بجامعة المنوفية: مادة الأدب الشعبي تم إلغاء تدريسها منذ ستة سنوات، وفي ذلك الوقت لم أكن أتولي منصب العمادة بالكلية، ويرجع السبب في ذلك إلي تعديل اللوائح مع عدم وجود هيئة التدريس الخاصة بالمادة، فاللوائح تخضع للموجودين في القسم، وهذه المادة لم تكن موجودة في أول لائحة، ولكنها أضيفت بعد ذلك للائحة، فحينما قاموا بعمل لائحة جديدة لم تجد هذه المادة من يدافع عنها، فالكلية لا يوجد بها أستاذ متخصص في الفن الشعبي، ولذلك رأوا أن يستبدلوها بمادة أخري من الأدب الرسمي، أما عني فأنا شخصيا درست الأدب الشعبي، فهو من مكونات الإنسان، كما أنه يدخل في ثقافته، لأننا نستمد ثقافتنا من الأدب الشعبي، وأري أن مادة الأدب الشعبي يجب دراستها لأنها نوع مهم جدا من أنواع الأدب.. وأعتقد أن السبب في إلغاء هذه المادة يرجع إلي أن بعض الأساتذة بالكلية يرفضون تدريس الأدب الشعبي لأنه يذكي النظرة المحلية أو الإقليمية، بمعني أنه يمكن أن الاهتمام باللهجة يفوق الاهتمام باللغة العربية، لأنها عادة تتوافق مع رغبات عامة الشعب، أما الأدب إجمالا فلم يتقبله كل الشعب، والدليل علي ذلك أن القصائد التي تغني لا تجد رواجا بقدر الأغاني الشعبية التي تعتبر أكثر انتشارا من أي قصيدة من الأدب الرسمي. أما الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي فقال: لم يتم إلغاء مادة الأدب الشعبي من كلية الآداب بجامعة القاهرة، كما أنني لا أتوقع هذا مطلقا، ولا أصدق أنه يوجد عميد عاقل لكلية آداب، يقوم بإلغاء تدريس هذه المادة، فهو بالطبع غير مصري، ولا يعرف هذا الشعب، ولو ألغي أي عميد لكلية الآداب هذه المادة يجب أن يستقيل. كما أشار الدكتور عيد بلبع أستاذ النقد الأدبي ووكيل كلية الآداب بجامعة المنوفية لشئون التعليم والطلاب إلي إن إلغاء مادة الأدب الشعبي من أقسام اللغة العربية هو مظهر من مظاهر إهمال الأدب الشعبي بوجه عام علي مستوي الدرس النقدي تنظيرا وتطبيقا، فلا توجد نظريات أو مناهج نقدية لدراسة الأدب الشعبي تراعي خصوصيته، ولهذا فقد الأدب الشعبي الشرعية الأكاديمية، فلقد اعتاد دارسو الأدب المحدثون إفراد الأدب الشعبي بمسار هامشي خاص به، وارتباط الخصوصية بالتهميش انعكست علي دارسي الأدب الشعبي تهميشا، وجعلت النظرة إلي المشتغلين به كأنهم دارسون من الدرجة الثانية، ربما بتأثير الأيديولوجيا المهيمنة أو بتأثير التقاليد التي وجدت في مصر منذ القرن السادس الهجري، حيث تأسس ما يعرف بازدواجية اللغة. ولعل هذه الأسباب جميعها قد تضافرت علي إلغاء تدريس مادة الأدب الشعبي في بعض أقسام اللغة العربية، ويمكن أن نضيف إليها عاملا إداريا آخر يتعلق بمن يقومون بوضع لوائح التدريس في أقسام اللغة العربية، الذين يكون لهم في الغالب مواقف مدعمة بالأسباب التي ذكرناها، في غياب المتخصص الذي يمكنه أن يدافع إداريا عن وجود مادة الأدب الشعبي. أما الدكتور أحمد مرسي فأكد أنه: لو ألغيت مادة الأدب الشعبي من كلية الآداب، إذن يمكننا القول بأنها "رحمها الله، وهانطلع عليها الأرافة، وهانعمل لها سنوية"، لكنها لم تلغ، ولا تزال تدرس في جامعة القاهرة، بل وزاد عدد ساعات تدريسها، كما أنها تدرس في جامعات عين شمس، وبني سويف، وجنوب الوادي، وقناة السويس، والزقازيق، أما بالنسبة لإلغائها من جامعة المنوفية فهذا سيترتب عليه خروج جيل جديد ينقصه جانب مهم من معرفة ثقافته، لكنه سيعيش، كما ستعيش تلك المادة، لأنه يوجد معهد عال للفنون الشعبية تدرس فيه المادة، كما تدرس في كليات الفنون الجميلة والتربية الفنية والفنون التطبيقية، وكذلك بكلية البنات، لذلك فأنا أري أن الأمر مستقر. بينما قال الشاعر مسعود شومان مدير عام أطلس المأثورات الشعبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة: أري أنه رغم الأهمية الكبري للأدب الشعبي، فإنه يعاني من درجة كبيرة جدا من درجات التهميش والاستبعاد والإقصاء، حتي عندما كان يدرس، لأنه كان يدرس في سنة دراسية واحدة في بعض كليات الآداب، كما أنه يدرس في كتاب واحد يعرج علي أشكال الأدب الشعبي، فللأسف الشديد أنا أتوقع أن إلغاء المادة يعكس خللا كبيرا جدا في حياتنا الثقافية، كما يعكس الفصام الحاد جدا في شخصية المثقف والأكاديمي الذي يرث شيئا ثم يتنصل منه، ويرفضه حينما يصبح أستاذا أو مدرسا في الجامعة، كان يجب أن نقوم بتدريس هذه المادة للطلبة في المدارس وليس في الكليات فقط، فكيف ندرس الأدب العثماني والجاهلي والأموي ولا ندرس الأدب الشعبي باعتباره نوعا من ضمن أنواع الأدب؟!! وأضاف: أري أن هذا التهميش والاستبعاد قائم طوال الوقت قبل إلغاء تدريس المادة من جامعة المنوفية، لكن الأقدمين كانوا يهمشونها بشكل محترم، كعمل معاجم للعامية منفصلة حتي لا تلوث الفصحي "من وجهه نظرهم"، لكن اليوم نري أنهم يفصلونها تماما، وعموما إلغاؤها من الجامعة به خير كبير جدا، لأن عددا كبيرا جدا ممن يدرسون الأدب الشعبي في الجامعة أفسدوه، لأنهم لا يملكونه، فإلغاؤه إذا لا يترتب عليه أي ضرر، فهذه المادة لا يملكها أساتذة الجامعة ولا الباحثون إنما يملكها الناس، وطالما الناس والجامعات الشعبية موجودة سيحافظون علي مأثورهم الشعبي. ويري الشاعر والناقد الأكاديمي الدكتور شوكت المصري: أن إلغاء، أو حتي محاولة إلغاء مادة الأدب الشعبي من بعض أقسام اللغة العربية بكليات الآداب، أمرٌ شديد الخطورة، خاصة إذا انتشر الإلغاء في الجامعات المصرية كلِّها، والسؤال هو: ما الأسباب الحقيقية التي دفعت إلي هذا الإلغاء؟ ويجب أن تكون الإجابات هنا منطقية ومحكمة تماماً، لأننا نتحدث عن فرعٍ أصيل من فروع الأدب العربي، فالأدب الشعبي كما علمنا أساتذتنا لا يعني فقط بدراسة الأدب العامي المكتوب، وإنما يشمل الأدب الفصيح غير معروف المؤلف، سواءً انتقل إلينا مكتوباً أو توارثناه شفاهةً من ألسنة الرواة والحُفاظ، فنحن إذاً نتحدث عن تراثٍ عربي هائل من النصوص النثرية والشعرية التي يزخر بها إبداعنا العربي علي امتداد التاريخ، فكيف يمكننا ببساطة إقصاء السير الشعبية الشهيرة والأمثال والحكم والأغاني والأهازيج ومحوها من طريق دارسي الأدب العربي في أقسام اللغة العربية بكليات الآداب أو التربية. والأزمة التي نتحدث عنها هنا تتخطي تصورات يجاوزها الصواب عن الأدب الشعبي العربي، واعتباره أدباً غير رسمي في مقابل الأدب الفصيح، فهذا أمر فنّده الباحثون والدارسون من عشرات السنين، ولكن الأزمة الأكبر تتمثل في عدم الاهتمام الكامل بصناعة باحث جاد متخصص في هذا النوع من الأدب من جانب المؤسسات الأكاديمية والكليات والأقسام المتخصصة في اللغة وآدابها، وكأننا نعمد عمداً إلي طمس هوية الأجيال القادمة واجتزائها وتشويهها بإجهاضِ عنصرٍ أصيل ورئيسي من عناصر تكوينها.