منذ أن وقعت الجريمة الارهابية البشعة فى فرنسا على يد تنظيم داعش، وما تلاها من تهديدات وتحذيرات بوقوع هجمات انتحارية فى دول أخرى، وهناك اتجاه متزايد فى اوروبا نحو اتخاذ اجراءات استثنائية واسعة النطاق. وكانت أولى مؤشرات ذلك إعلان الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند أن بلاده فى حالة حرب، والعمل بقانون الطوارىء وتعديل الدستور الفرنسى من أجل إطلاق يد الأمن والقانون فى الحرب على الإرهاب، بالإضافة إلى ما اتخذته دول أوروبية أخرى من إجراءات استثنائية لمواجهة تزايد خطر تنظيم داعش فى هذه الدول. البعض يرى أن هذه الإجراءات لها ما يبررها لحماية أمن وسلامة البلاد والأفراد، إلا أن البعض الاخر يطرح أسئلة عما إذا كان ذلك يعنى تغيير المبادىء الأساسية التى قامت عليها الدول الغربية من احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصة أن هناك آراء أخرى تقول بأن الالتزام بهذه القواعد تم فى زمن مضى لم تكن فيه هذه الدول معرضة للإرهاب، وأن الالتزام المطلق بحقوق الانسان ساعد فيما سبق على إطلاق سراح إرهابيين وأشخاص مشتبه فيهم عندما قدموا للمحاكمة، بدعوى أن عدم إطلاق سراحهم فيه إضرار بحقوق الإنسان. والمفارقة أن الفترة القصيرة التى سبقت أحداث فرنسا كانت قد شهدت تحركات عديدة فى مختلف الدول الأوروبية تحاول التخلص من القيود التى تضعف قدرات الدولة على القضاء على الإرهاب بدعوى الإلتزام بحقوق الأفراد التى يرعاها القانون فى كثير من الأحوال. ففى فرنسا تبنت الحكومة فى الأشهر الأخيرة قانونا يسمح بإقتحام الحياة الخاصة للأفراد بدون إذن قضائى مسبق فى حالة وجود مشتبه بهم، هم ومن يكونون على إتصال بهم، سواء فى الحياة أو العمل أو حتى من يكونون قريبين منهم. وفى ألمانيا وافق البرلمان على قانون خاص بالمعلومات بدأ تطبيقه فى 16 أكتوبر الماضى، ويطلب من المختصين والمسئولين فى خدمات الإنترنت والإتصالات اللاسلكية الإحتفاظ بالمعلومات الخاصة أو بإتصالات الأفراد التى تجرى عن طريقهم لمدة عشرة أسابيع من أجل الإطلاع عليها فى حالة الإشتباه فى إجراء هذه الإتصالات للتحريض أو لإرتكاب أعمال إرهابية. وفى النمسا جرت مناقشة مشروع قانون يسمح لوكالة أمنية جديدة بالإشتراك مع جهات رقابية فى جمع وتخزين هذه المعلومات لمدة ستة أسابيع، كما يبحث المسئولون فى هولندا إصدار تشريع يسمح بالمراقبة الكاملة لكل وسائل الإتصال وإختراق أجهزة الكمبيوتر حتى لأفراد ليسوا حتى تلك اللحظة موضع شبهات، ولكن المسئولين يريدون التأكد من خلو تصرفات هؤلاء الأفراد من أى نية لإرتكاب أعمال إرهابية أو التحريض عليها. وتعلق صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية على هذا الإتجاه بأن الحكومة تعتقد أنه يمكن التضحية ببعض حقوق الإنسان من أجل ضمان أمن البلاد، وتضيف الصحيفة بأن هذا الإتجاه قد يعد خروجا على تقاليد سياسية وقضائية إستمر العمل بها طويلا، كانت تحمى الحياة الخاصة للأفراد. وقد شهدت بريطانيا بوجه خاص جدلا حول هذه القضية، عندما قدمت وزيرة الداخلية تريزا ماى مشروع قانون للبرلمان يسمح بالمراقبة الاستخبارية فى إطار ما وصفته صحيفة التايمز البريطانية بصلاحيات واسعة للتجسس، ويتضمن مشروع القانون خططا لتغيرات فى القانون الحالى الذى يسمح لجهازى المخابرات الداخلية والخارجية بالعمل فى إطار من السرية. وبمقتضى مشروع القانون الجديد تكون شركات التليفون المحمول والإنترنت مطالبة بتخزين سجلات الإتصالات عبر الإنترنت والإيميل لجميع العملاء لفترة عام على الأقل، حتى يتمكن رجال المخابرات من الإطلاع عليها، فى حالة ما إذا كان هناك أفراد يشتبه فى أنهم يخططون لارتكاب جرائم أو هجمات إرهابية. وتتمسك وزيرة الداخلية بأن يكون لها القول النهائى فى إعطاء أجهزة الأمن والمخابرات الداخلية الإذن بإعتراض الإتصالات الشخصية، وكانت الوزيرة ماى قد رفضت من قبل دعوات بإعطاء السلطة القضائية سلطة السماح لأجهزة المخابرات فى التنصت على الحياة الخاصة، وتمسكت بأن يكون هذا القرار للوزراء، كما أن الشرطة البريطانية نفسها كانت تطالب باعطائها سلطة مراقبة سجلات إتصالات كل فرد فى بريطانيا عبر الإنترنت، وذلك ضمانا لعدم تعطيل العمل فى القضايا العاجلة التى تمس الامن القومى، بالرغم من الاراء التى تفضل اعطاء هذه السلطة للقضاء، باعتبار أن ذلك سوف يدعم ثقة الناس فى أن أجهزة المخابرات لا تسىء استخدام هذه السلطات. وكان رئيس جهاز المخابرات الداخلية وغيره من مصادر أجهزة المخابرات الاخرى قد أوضحوا أنهم يحتاجون تفويضا بسلطات جديدة لمكافحة المتآمرين الإرهابيين الذين يتوسعون فى إستخدام الإنترنت فى التخطيط لهجمات ضد بريطانيا، ثم جاءت الهجمات الإرهابية الاخيرة لتخلق مناخا يدعم مطالب الأجهزة المخابراتية ويقوى مركزها لدى الرأى العام بزيادة سلطاتها. ونقلت صحيفة نيويرك تايمز عن مفوض مجلس أوروبا لحقوق الإنسان مايلز ميرنكيز قوله إن الإرهاب يمثل تهديدا حقيقيا ويحتاج لإجراءات فعالة، لكن إجراءات المراقبة بالصورة المقترحة والتى تقوض حقوق الإنسان وحكم القانون ليست هى الحل. هذا الجدل الذى سبق أحداث باريس بأيام، بالإضافة إلى سير حكومات أوروبية فى طريق سن قوانين جديدة تتجاوز ما كان يعتبر فى فترة سابقة من مبادىء حكم القانون وحقوق الإنسان، يشير بشكل واضح إلى الاستجابة لمطالب الرأى العام الذى لم يعد يقبل أن تكون هذه القواعد قيدا على قدرة الدولة وأجهزتها فى حماية الأفراد فى مواجهة حرب أعلنتها عليهم تنظيمات إرهابية تجردت من أى مشاعر إنسانية وتعدت على حكم القانون والإنسانية.