"عندما يتعلق الأمر بالأمن بالقومي، فلتذهب حقوق الإنسان إلى الجحيم"، مقولة روج لها البعض على اعتبار أنها جاءت على لسان ديفيد كاميرون رئيس الوزارء البريطاني، واعتبروها تبريرا للقمع والاضطهاد، بما أنها صادرة عن رأس دولة ديمقراطية كبيرة مثل بريطانيا، تتشدق بالحريات واحترام حقوق الإنسان. وعلى الرغم من النفى البريطانى «الرسمي» لهذه المقولة، والتأكيد أنها لم ترد على لسان كاميرون، فإن رئيس الوزراء البريطانى وقادة أوروبا وأمريكا يعملون على أرض الواقع لتحويل هذه المقولة إلى حقيقة ملموسة، خاصة بعد الهجمات الدامية التى ضربت قلب فرنسا، وتزايد خطر تجنيد المقاتلين الأجانب لداعش، والتى أثارت الفزع فى الغرب، وأول شيء يمكن الحديث عنه الآن هو حق التجسس ومراقبة وسائل الاتصالات حماية للأمن القومي. بداية، يشار إلى أن كاميرون ووزيرة داخليته تيريزا ماى يريدان تغيير قانون حقوق الإنسان البريطانى منذ 2011، وصنع قوانين جديدة باسم "القوانين الإنجليزية للحقوق"، وهو ما أثار جماعات حقوق الإنسان باعتبار ذلك "عارا"، وكما قال تيم هانكوك مدير فرع منظمة العفو الدولية فى المملكة المتحدة وقتها، فإن : "تيريزا ماى تتحدث فى كثير من خطاباتها عن حماية حقوق الإنسان فى الخارج، لكنها تنكر مثل هذه الحقوق فى الداخل". كما أشار كاميرون فى أكثر من مناسبة إلى أن "الثابت أن حقوق الإنسان مارست تأثيرا سلبيا على السلوك والأخلاق بطريقة تهدم المسئولية الشخصية". وعلى مدى الشهور الماضية، أعطى ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي، وحادث شارلى إبدو، والتهديدات التى توجه سهامها إلى أوروبا والولاياتالمتحدة، الفرصة لإجراءات احترازية غير مسبوقة فى التاريخ الغربي، وتفعيل قوانين "ديكتاتورية" بالمعنى الحرفى للكلمة، ضد حقوق الإنسان والحريات والقيم. ووسط حالة من التخبط والفوضي، تسابق القارتان الأوروبية والأمريكية الشمالية الزمن من أجل اتخاذ إجراءات ووضع قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، ومن بين هذه الإجراءات وضع الجيش وقوات الأمن فى حالة تأهب لمواجهة أى عملية إرهابية فى وقتها، ونشرت فرنسا وبلجيكا بالفعل قوات الجيش خشية وقوع اعتداءات، كما أعلنت الدول الأوروبية زيادة ميزانيات تسليح الشرطة، وتوسيع صلاحيات المخابرات والأمن، ووضع قوانين جديدة لتقييد وسائل التواصل الاجتماعى ولتفعيل "التجسس" على الشبكة العنكبوتية، وذلك على الرغم مما كشفه إدوارد سنودن المتعاقد السابق فى وكالة الأمن القومى الأمريكى من فضائح تنصت واشنطن على الحلفاء قبل الأعداء، وعلى مئات الملايين من مواطنيها. والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هو : ما هى الخطوات التى سيتبناها الغرب لتفعيل قوانين التجسس لتصبح أكثر قوة من أى وقت مضي؟ على الرغم من اكتشاف أن الزعماء الغربيين كانوا ضحايا لعمليات التجسس الأمريكي، فإن هؤلاء الزعماء أنفسهم، وعلى رأسهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ينادون بعودة الرقابة على محتويات الاتصالات الهاتفية والإنترنت، وذلك فى الوقت الذى رفضت فيه المحكمة الأوروبية العليا هذه المراقبة باعتبارها انتهاكا للخصوصية. ويبدو أن قاعدة بيانات "تايد" الأمريكية السرية التى تضم تضم نحو مليون شخص تعتبرهم الولاياتالمتحدة إرهابيين محتملين، سوف تتسع لتضم مئات الملايين المشتبه فيهم كإرهابيين محتملين أيضا. ووسط هذا التواطؤ الغربى من الدول والمنظمات الحقوقية، أصبحت الخصوصية والحرية الفردية فضاء مباحا للانتهاك والتدخل من قبل العيون والآذان الكبيرة، فضاء مسموحا فيه بأى شيء باسم محاربة الإرهاب، بل أن "تحالف العيون الخمسة" أو "إف فى إيه واي"، الذى يعد أكبر تحالف جاسوسى فى العالم، والذى يضم الولاياتالمتحدة وأستراليا وكندا وبريطانيا ونيوزيلندا يعلن عقد اجتماع الشهر الماضى لبحث كيفية الرد على هجمات 11 سبتمبر الفرنسية. إذن فالجميع تحت المراقبة أينما كان وبلا استثناء، سواء فى بيته أو وهو يتحدث فى هاتفه، أو وهو يتجول فى الفضاء الافتراضي. وكل الدول الغربية تقريبا، اتخذت، أو فى طريقها لسن قوانين جديدة لمحاربة الإرهاب، فيها من البنود ما سبق أن انتقدته فى دول أخرى غير غربية. ومن بين الدول التى اتخذت هذه الإجراءات اللازمة لحماية أمنها القومي، الولاياتالمتحدة التى اعتبرت إحدى محاكمها أن مراقبة الإنترنت ضرورة لحماية الأمن القومي، وهناك أيضا بريطانياوفرنسا وألمانيا وكندا وأستراليا، وأخيرا إيطاليا، وامتد الأمر ليشمل دول مجموعة العشرين، وكلها إجراءات الهدف منها الحد من تجنيد الإرهابيين، ومنع انتقالهم إلى سوريا أو العراق، ومراقبتهم لدى عودتهم، وربما إسقاط الجنسية ومحاكمتهم، فضلا عن مراقبة الاتصالات والإنترنت، وقطع وسائل التمويل عنهم. أى أن الغرب أعلن الحرب ضد الإرهاب والحرية وحقوق الإنسان فى الوقت نفسه الذى يواصل فيه سياسته المزدوجة فى التعامل مع هذه الحقوق فى الدول التى لا تتلاقى مصالحه معها. وفى ظل هذه الحرب المستعرة ضد التكفيريين والتنظيمات الإرهابية، لن يتوانى الغرب للحظة عن إلقاء حقوق الإنسان فى الجحيم، من أجل وضع قيم جديدة تعود بالعالم للخلف لمئات السنين، ولكنه لا يعطى هذا الحق لغيره، وهذا أمر غريب!