هانت عليه روحها وتناسي أن الدم الذي يسري في عروقها هو نفس دمه، وأنها رضعت من نفس الثدي الذي ارتوي منه لمدة عامين، وغاب عن عقله ذكريات خمسة وثلاثين عاما بحلوها ومرها، كانت له فيها الشقيقة والأم والصاحب والرفيق تلهو معه وتداعبه وتقضي طلباته رغم صغر سنوات عمرها. وكبر الشقيقان ورحل الأب وبعده الأم وبدلا من أن يكون لها السند والحماية لعب الشيطان بعقله حتي ارتدي عباءته وبدم بارد أزهق روحها ودفنها في المكان الذي كانت تلهو فيه معه وهما صغيران. انفرطت عقود فرحتها في آبار الشجن والألم منذ ولادتها فلم تمنحها الأقدار الجمال وخفة الظل مثل باقي أطفال القرية وكبرت الصغيرة ومعها ازدادت هموم أمها فهي الابنة الوحيدة وذهب عنها الجمال والدلال بالاضافة إلي أسياخ الفقر الذي كان يحيط بالأسرة الصغيرة ورحلت عن "البنت" كل مقومات الزواج. مرت السنوات وكبرت الطفلة واشتد عودها ووقفت طوابير العرسان أمام منازل كل بنات القرية الصغيرة بسوهاج بينما لم يطرق باب الفتاة شاب واحد ودفنت الأم أحزانها بين ضلوعها خشية علي مستقبل ابنتها وخاصة بعد أن بدأ شبح العنوسة يحوم حولها. أثقل الهم قلب الأم وطرق المرض بابها وهي تصارعه وتتوسل إلي ملك الموت أن يغفل عنها حتي تطمئن علي ابنتها وتزفها إلي شقة الزوجية ولكن جاء أجل الأم قبل تحقيق الأمل البعيد ورحلت بالحلم الكبير الذي دفن بجوارها. مرت الأعوام ونخور المرض في عظام الأب المزارع وهو يحمل هموم ابنته علي كتفيه ويتمني أن يطرق بابه أي رجل ويطلب يد ابنته حتي يسترها قبل وفاته وكان يسهر الليالي رغم الآلام التي تنخر في جسده ليتضرع إلي الله بالدعاء ويتوسل إليه أن ينزل عليه عريسا لابنته ولكن الأب مات قبل أن تتحقق المعجزة. دفنت الفتاة أحلامها وأمنياتها داخل صدرها المملوء بالهموم فهي خلال أعوام قليلة فقدت أبويها ولم يتبق لها في الدنيا سوي شقيقها الذي يكبرها بخمسة أعوام وعاشت في كنفه داخل منزل والديهما حتي بلغت الثلاثين من عمرها وأيقنت أنها حملت لقب "عانس" لأن الفتيات اللاتي في مثل عمرها رزقن بطابور من البنين والبنات واستسلمت الفتاة لقدرها وطلبت من شقيقها أن يتزوج حتي تحضر عروسه للمنزل وتؤنس وحدتها وحتي ينجب البنين والبنات وتلهو وتلعب معهم وبعد توسلات منها وافق علي طلبها وطرق باب إحدي قريباته وتزوج منها. إلا أن القدر أبي أن يدخل الفرحة علي قلبي الأخوين ومر العام الأول على زواج الشقيق في هدوء وبعدها حولت زوجته حياته إلي جحيم بسبب تأخر الانجاب وكانت تتشاجر مع شقيقته بدون سبب وتتهمها بالعنوسة حتي ضاق منها وفشل في إصلاح سلوكها وطلقها، عاشت الشابة مع شقيقها سنوات وهي تندب حظها تارة وحظه تارة أخري وعندما كادت آلام الوحدة تفتك بها كانت تخرج من المنزل للسير وسط الحقول لتشم رائحة والديها في النبت الأخضر وتغرس أحزانها في ثري أرض أبيها، تعدد خروج الشابة للحقول للسير بمفردها أوت الشابة إلي فراشها بعد أن أعدت طعام العشاء لشقيقها الوحيد وراحت في النوم العميق واستيقظت فجأة علي نصل سكين مغروس في قلبها وشقيقها يسبها بأقظع الألفاظ وأبشع الاتهامات ولم تستطع الرد عليه فقامت بتقبيل يده اليسري بينما اليمني تستمر في تسديد الطعنات حتي فارقت الحياة. خرج الأخ إلي مكان قريب من المنزل ليلا وقام بعمل حفرة كبيرة وحمل شقيقته القتيلة داخل جوال وألقاها في الحفرة ودفنها أسفل الثري في البقعة التي شهدت سنوات طفولتهما ولهوهما حيث كانا يجلسان معا أمام باب المنزل يضحكان ويلعبان أمام أعين والديهما. في صباح اليوم التالي زعم الشاب أن شقيقته خرجت ولم تعد وتزاحمت خطوات الأهل والأقارب للبحث عنها وبعد ثلاثة أيام فاحت الرائحة العفنة من أمام المنزل وفوجئ أحد الجيران بيد آدمية تخترق الثري وتخرج منه، وتم إبلاغ المباحث حيث تمكنوا من استخراج جثة الشابة وحامت الشبهات حول شقيقها حتي تمكنت مباحث سوهاج من ضبطه واعترف بتفاصيل جريمته وأمرت النيابة بحبسه.