لقد نشأت التخصصات فى علوم الدين، وكذلك المذاهب الدينية المختلفة، تالية لنشأة واكتمال الدين ذاته بل وبعد رحيل من حمل إلينا الرسالة من السماء إلى الأرض. ينطبق ذلك على ديننا الإسلامى الحنيف كما ينطبق على غيره من الديانات السماوية؛ بل وكذلك بصورة قد تبدو مختلفة على العقائد الأيديولوجية الشاملة التى لم يزعم لها أصحابها صلة ما بوحى تلقاه منشئها من السماء كالماركسية أو البوذية أو الكونفوشيوسية إلى آخره. وإذا كان استيعاب كتاب بشرى متخصص أيا كان نوع تخصصه يحتاج إلى من يقوم بتبسيطه لكى يصل إلى عامة البشر، ولا يجد صاحب النظرية العلمية حرجا فى أن ينسب له العامة غموض نظريته وقصور أفهامهم عن استيعابها، باعتباره قد طرح فكرة متخصصة لأقرانه من المتخصصين، ومن ثم لا يجد أحد من العامة حرجا فى أن يطلب من مدرس للفيزياء مثلا أو متخصص فى تبسيط العلوم أن يشرح له نظرية النسبية أو الفيمتو ثانية بما يقربها من فهم العامة غير المتخصصين، كما أن أحدا لا يجد حرجا فى أن يوصف بأنه غير متخصص فى الفيزياء، وبالتالى فليس له أن يتوقع النظر إلى رأى يبديه فى هذا المجال، باعتباره حقيقة أو حتى فرضا علميا جديرا بالفحص والاختبار، وإذا ما اختلف علماء الفيزياء مثلا فى قضية معينة تدخل فى نطاق تخصصهم لم يجدوا بأسا فى الإعلان عن اختلافاتهم والاحتكام إلى التجربة العلمية فيصلا نهائيا فيما كانوا فيه يختلفون. ترى هل يمكن أن تنطبق مقولة «التخصص» بهذا المعنى المحدد على كتاب سماوى موجه للبشر كافة دون تمييز بين العامة والمتخصصين؟ هل يمكن القبول ببساطة بأن القرآن الكريم وقد أنزل بلسان عربى مبين؛ يتعذر حتى على من يتقنون اللغة العربية فهمه، ويحتاجون لمتخصص بل لمتخصصين فى «لغة القرآن»؟ وبصرف النظر عن الإجابة على تلك الأسئلة؛ فإن شواهد الواقع العملى التاريخى يجسد حقيقة أن كافة الأديان دون استثناء عرفت ظاهرة «المتخصصون» فى تفسير الكتب المقدسة وسير الأنبياء. و الجميع يعرف أيضا ما نجم عن ذلك من نشأة الفرق والمذاهب التى يتفق أصحابها على قدسية النص الإلهى وأنه موجه للبشر جميعا، ولكنهم يرون فى أنفسهم الأكفأ والأقدر على التوصل للتفسير الصحيح لمعانى ذلك النص، ثم يختلفون بعد ذلك فى تفسيراتهم لذلك النص الإلهى المقدس، وقد تلتزم خلافاتهم حدود الاختلاف الفكري، ولكنها كثيرا ما تصل إلى حد التكفير بل والتقتيل، و فى كل الأحوال يظل صاحب كل تفسير متمسكا بتفسيره محاطا بأتباعه لا يتنازل عنه قط، فلم يعرف التاريخ قط اندماجا فكريا لمذهبين أو فرقتين دينيتين بحيث ذابا فى بعضهما، وأصبحا فكرا واحدا، كما يحدث أحيانا فى مجال الأحزاب و الفرق السياسية؛ لكن ما يحدث دائما هو العكس بتوالى الانشقاقات والانقسامات. ولعله مما يستوقف النظر أن تلك الانشقاقات والانقسامات المذهبية لم تظهر فى عصر العصور الأولى للمسلمين أو للمسيحيين، بل ظهرت المذاهب السنية الأربعة، وكذلك المذاهب الشيعية بعد سنوات طوال من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وكذلك الحال بالنسبة للكنائس المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية التى لم تتمايز إلا بعد عقود من عصر السيد المسيح. ولعل أمر تلك الانقسامات كان محدودا بدرجة أو بأخرى فى عصر وسائل الاتصال الشفاهية و المكتوبة، و لكن فى ظل عصر ما يعرف بالانفجار الإعلامي، وما تضمنه من يسر غير مسبوق فى بث المعلومات واستقبالها، كان من الطبيعى أن تتعدد القنوات والبرامج الدينية، ومن ثم تتعدد الفتاوى الدينية بل وتتضارب فى كثير من الأحيان، ويصبح الكثير من العامة فى موقف فكرى مربك: إنهم حريصون على تبين الرأى الدينى «الصحيح» فى أمور حياتهم، وهم فى نفس الوقت لا تتوافر لديهم المعرفة «المتخصصة» التى تمكنهم من المفاضلة بين الفتاوي، ولكل فتوى أسانيدها، وبذلك لا يصبح أمامهم سوى واحد من تلك السبل: الاعتماد على تقديرهم الذاتى لشخص الداعية وجاذبيته الإعلامية وسمعته الشخصية. الاعتماد على مدى اقتراب «الفتوي» من استعدادهم وتكوينهم النفسي. الاعتماد على مدى اقتراب «الفتوي» من توجهاتهم السياسية. الاعتماد على ما تحمله «الفتوي» من تبرير لممارساتهم الحياتية الفعلية. أن يولى المرء ظهره لتلك الفتاوى جميعا، وأن يقدم على «مخاطرة التفسير الذاتي» للنص المقدس، وهو ما يلجأ إليه البعض. خلاصة القول إن تلك الظاهرة لم تعد اليوم مجرد ترف فكرى أو جدل نظري؛ بل لقد تحولت إلى مطية يستخدمها من شاء لإعمال قوى القتل والتدمير لتفتيت الأمم، وإشعال الحروب؛ ولعل ما شهدناه أخيرا من أحداث إرهابية يجسد ما نرمى إليه. لمزيد من مقالات د. قدري حفني