فى سنوات المراهقة صفعتنا هزيمة 67 بقسوة، وعندما التحقت بجامعة القاهرة، كنت من بين اولئك الذين رفضوا أن تظل هذه الصفعة ملتصقة بوجوهنا، بعد أن أصبحنا مثارا لسخرية وإشفاق العالم كله، تحرك أبناء جيلى فى السبعينات للتعبير عن رفضهم حالة الهوان التى قادتنا الدولة إليها، دون الرجوع إلينا، نحن من سيدفع الثمن، وعندما جاء عام الحسم، لم نكن نتمنى أن ينتهى عبور 73 العظيم، بكل ما قدمه الشعب المصرى فيه من تضحيات،بالتفاوض على مسافة 100 كيلومتر من القاهرة. ولا أن نسلم كل اوراقنا بعدها الى العم سام، فى هذه السنين كان الطلاب يشكلون كتلة حيوية فى قلب المجتمع المصري، كتلة مقاومة سلمية، وطاقة وعى جديد، كانت التجربة معلما حقيقيا، جذبت الجانب الفعال من أبناء جيلى الى العمل العام وورثتنا هموم السياسة التى لم تفارقنا الى الآن. كان أمل دنقل و تشى جيفارا وأنجيلا ديفيز وجون لينون ومرسيدس سوزا وفيروز ومحمود درويش ونجم والشيخ إمام هم أبطالنا،وكنا نردد مقاطع ونحفظ جملا لهم تجسد تطلعاتنا، وسوف أتوقف عند ناظم حكمت شاعر تركيا الرائع الذى كتب: لن نغنى إذا لم نغن معا ، ولن نضحك إذا لم تنته دموع العالم، هذا المقطع رددناه كثيرا، كان شاهدا على ما يدور فى أرواحنا، كنا نحلم بعالم يشارك البشر فى صنعه، كغناء جماعى لا يقصى أحدا، عالم يحتفل بطاقة الحب والابتسام والضحك، ولكن مع تقدم العمر، تلاحقت الهزائم كبيرة وصغيرة، بدأنا نحلم بما هو أقل، اصبحت امنياتنا أن يكون العالم أقل قسوة، وبعد أن شاهدنا بأعيننا خيبات اليسار وموت البديل، وصعود اليمين وتوحش السوق، وتغول الإرهاب، أصبحنا نحلم فقط بالأمان، وبأيام أقل رعبا، تخلو من مشاهد المحترقين والغرقى والمدن المنهارة فوق أصحابها. أروى صالح أيقونة محفورة فى وجدان هذا الجيل، الذى يتذكر رموزه بقوة :أحمد عبدالله وتيمور ومحمد سيد سعيد وسهام صبرى وغيرهم، اختارت أروى أن تتركنا بقسوة، اختارت أن تلقى بجسدها ليرتطم بهذا الواقع العنيد، وكأنها تقدم إعلانا كاملا لرفضها له، ولعجزها عن الحياة داخل شروطه القاسية، كانت لأروى ضحكة لا يمكن نسيانها، وكانت ترى أن هناك من نجا وسط هذا الجيل من المبتسرين، كما وصفتنا فى كتابها، وكانت تقصد أولئك الذين لم يستسلموا للاكتئاب أو العدمية أو المخدرات او الانسحاب من كل شىء وكانت ترى أن من اختار الفن والثقافة بشكل عام، أمسك بطوق نجاة، ربما كان اللجوء إلى الإبداع، هو الخندق الذى حفره البعض ليواصل الحياة داخل هذا الواقع، الذى عجزنا عن حتى عمل خدوش على قشرته، ربما قدم لنا الفن بالفعل مساحة للتخفف عبرالخيال من هذه الأثقال، و لبناء عوالم أخف وأرشق، وسمح بتحقق البعض داخل مساحة للحرية شديدة الفردية، تكمن قوتها فى تفردها. هذا جيل خابت آماله، ومر عمره تحت خيمة الاستبداد والفساد والفشل، ورأى جمال مدنه وهو يتآكل أمام عينيه لتصبح مرتعا قذرا للفوضى والنهب المبارك، وراى التدين يصبح لحية ونظرة كراهية، والاحتشام يصبح نقابا أسود، وشاهد الدعاة وفاقدى الشىء وهم يمسحون عقول البسطاء، امتدت خيبة الأمل هذه بالفن أو بدونه ستين عاما، تم تتويجها مؤخرا بتحولات أكثر إيلاما، فقد داعبتنا فى هذه المرحلة من العمر بارقة أمل وكأننا على وشك أن نرى فى حياتنا جملة جديدة، لحظة طالما انتظرناها، سنرى وجوها أخرى ونسمع كلاما، هذا ما فعله بنا التحرير فى يناير 2011، أحداث يناير قدمت لى هدية شخصية، فقد خلصتنى من خوفى وترددى وهواجسى الدائمة، هزت قلبى الذى كبر بالفعل فبكيت وضحكت وهتفت مع الآخرين، هدية يناير أنقذنى ولو لأيام من يأسى وقلة حيلتى، ولكن هذه البهجة غادرت روحى بسرعة، شفيت من حمى يناير العارضة، وعدت والحمد لله، لأراقب رجوع الثقل والرتابة والأكاذيب وتكرار الوجوه البلاستيكية والعبارات التى لازمت أيامى كقدر يوناني. وأنا لا أملك سوى حياتى هذه القصيرة مهما طالت، لا يخفف من خيبة الرجاء، الوعى بأن التاريخ له إيقاع آخر، وأن التغيير قادم لا محالة، وأنه فى النهاية لن يصح إلا الصحيح. أدرك أن هزيمة ابناء السبعينيات هى جزء من هزيمة مجتمع بأكمله، بل وربما كانت أيضا محصلة تراجعات فى التجربة الإنسانية كلها، وأعرف أن من نجا بشكل أو بآخر قد نجا وهو داخل إطار الهزيمة، وكان يمكن أن يقدم عطاء مختلفا فى شروط اكثر إنسانية، ولكن ما مدى مسؤليتنا نحن عما وصل إليه حالنا؟ وماذا فعلنا لهذا البلد؟ أعتقد أننا وضعنا انفسنا خارج دائرة التقييم من البداية، وكأننا قديسون، أو حراسا لذلك الجانب المضىء من التاريخ ، ولم نضع أيدينا بشجاعة على مناطق ضعفنا الذاتية، وحساباتنا الخائبة، واكتفينا بالكشف والإدانة، وقعنا ضحية تكويننا الهش، ضحية الإدعاءات والأيدولوجيا والتثاقف، ولذا لم نتحول الى ممارسة بديلة فى الواقع، بما يحتويه من طاقات غير منظورة، ولذا برعنا فى توزيع التهم على الجميع، بدءا من أجهزة القمع والنظام القائم والطبقات المهيمنة، والفساد والإمبريالية العالمية والإعلام المضلل، مرورا بالتاريخ والجغرافيا ووصولا الى اللغة والشعب والجينات والحشيش والأغانى والعاطفية. لا أملك رغم كل ما جرى إلا مواصلة احلامي، وأتمنى أن نبدأ حوارا واسعا حول تجربة الجيلين اللذين جمعهما التحرير معا، وأن يواصل أبناء يناير مسيرتهم، فقد هز قيامهم المذهل العالم بأسره، وليكن ميراث جيلنا مادة للتأمل، حتى لا تكرروا أخطاءنا، فأنتم فى النهاية من يملك القدرة على تحريك قلوبنا من جديد. لمزيد من مقالات عادل السيوى