خسائر الاحتلال الإسرائيلي.. ارتفاع القتلى ل662 وآلاف يطلبون مساعدات نفسية    بينها دولتان عربيتان.. 9 دول إسلامية تحتفل بأول أيام عيد الأضحى اليوم    عصام السقا يحتفل بعيد الأضحى وسط أهل بلدته: «كل سنة وأنتم طيبين» (فيديو)    موعد ومكان عزاء الموزع عمرو عبدالعزيز    للحجاج.. تعرف على سعر الريال السعودي أمام الجنيه المصري اليوم    مصطفى بكري يكشف سبب تشكيل مصطفى مدبولي للحكومة الجديدة    شهيدان و13 مصابا جراء قصف الاحتلال منزلًا في حي الزرقا شمال مدينة غزة    «الناتو» يبحث وضع الرؤوس الحربية النووية للحلف في حالة تأهب    ترتيب الدوري المصري قبل مباريات اليوم الإثنين    إيهاب جلال يُعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة إنبي    منافسة إنجليزية شرسة لضم مهاجم إفريقي    أسعار اللحوم والدواجن والأسماك في الأسواق المحلية اليوم 17 يونيو    وفاة الحالة السادسة من حجاج الفيوم بالأراضي المقدسة    افتتاح المرحلة «ج» من ممشى النيل بمدينة بنها قريبًا    البيت الريفى.. الحفاظ على التراث بمنتجات ومشغولات أهل النوبة    بعد إثارته للجدل بسبب مشاركته في مسلسل إسرائيلي.. من هو الممثل المصري مايكل إسكندر؟    دعاء فجر ثاني أيام عيد الأضحى.. صيغ مستحبة رددها في جوف الليل    حكم الشرع في زيارة المقابر يوم العيد.. دار الإفتاء تجيب    دعاء الضيق والحزن: اللهم فرج كربي وهمي، وأزيل كل ضيق عن روحي وجسدي    تقتل الإنسان في 48 ساعة.. رعب بعد انتشار بكتيريا «آكلة للحم»    الرابعة خلال ساعات، وفاة حاج مصري من الشرقية أثناء تأدية المناسك، وابنته تنعيه بكلمات مؤثرة    وقوع 4 هزات أرضية في جورجيا في يوم واحد    البيت الأبيض: المبعوث الأمريكي الخاص أموس هوكشتاين يزور إسرائيل اليوم    نتائج مزوّرة، حزب زوما يطعن بانتخابات جنوب أفريقيا    مدفعية الجيش الإسرائيلي تستهدف بلدة "عيترون" جنوب لبنان    حلو الكلام.. يقول وداع    "تهنئة صلاح وظهور لاعبي بيراميدز".. كيف احتفل نجوم الكرة بعيد الأضحى؟    جثة مذبوحة وسط الطريق تثير ذعر أهالي البدرشين    عبير صبري: شقيقتي مروة «توأم روحي» و«لسه بتاخد مني عيدية.. فلوس ولبس وكل حاجة»    «زي النهارده».. وفاة إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوى 17 يونيو 1998    انخفاض درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حال. الطقس خلال أيام العيد    زيجته الثانية أشعلت غضبهم.. الأبناء وأمهم يحرقون مسكن والدهم في الوراق    مدرج اليورو.. إطلالة قوية لجماهير الدنمارك.. حضور هولندي كبير.. ومساندة إنجليزية غير مسبوقة    يورو 2024 - دي بروين: بلجيكا جاهزة لتحقيق شيء جيد.. وهذه حالتي بعد الإصابة    عيد الأضحى: لماذا يُضحى بالحيوانات في الدين؟    حظك اليوم برج الجوزاء الاثنين 17-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    الكنيسة الكاثوليكية تختتم اليوم الأول من المؤتمر التكويني الإيبارشي الخامس.. صور    أسباب رفض «زيلينسكي» مقترح السلام الروسي الأخير    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى ثانى أيام العيد الإثنين 17 يونيو 2024    فوائد إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية فوق أسطح المباني.. تقلل انبعاثات الكربون    أجهزة مراقبة نسبة السكر في الدم الجديدة.. ماذا نعرف عنها؟    كيف يمكن التعامل مع موجات الحر المتكررة؟    القافلة الطبية «راعي مصر» تصل القنطرة شرق بالإسماعيلية    لم يتحمل فراق زوجته.. مدير الأبنية التعليمية بالشيخ زايد ينهي حياته (تفاصيل)    العيد تحول لمأتم، مصرع أب ونجله صعقا بالكهرباء ببنى سويف    إيرادات حديقة الحيوان بالشرقية في أول أيام عيد الأضحى المبارك    إيلون ماسك يبدي إعجابه بسيارة شرطة دبي الكهربائية الجديدة    وفاة خامس حالة من حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    هل يجوز بيع لحوم الأضحية.. الإفتاء توضح    عاجل.. موعد اجتماع لجنة تسعير المواد البترولية لتحديد أسعار البنزين والسولار    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    تعرف على حكام مباراتى الجونة والبنك الأهلى.. والإسماعيلى وإنبى    مانشستر يونايتد يجدد الثقة في تين هاج    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال الطويل..وفدي غنى للناصرية..وتجمعى حضر اجتماعا واحدا للحزب..اعترف لى بمؤامرة عبدالوهاب على السلام الجمهورى.. وكشف تقارير الملحنين الى الحكومة

«والله زمان ع الجنود.. زاحفة بترعد رعود.. حالفة تروح لم تعود.. إلا بنصر الزمااااان .. والله زمان يا سلاحي».
صدح صوتى ملعلعاً إلى درجة لم أنتبه معها إلى إثارتى فضول (الباتلر) والسفرجية، بما إستدعاهم إلى التكأكأ خلف الستارة التى تفصل بين الصالون وبقية الغرف فى منزله كمال الطويل بشارع العزيز عثمان فى الزمالك، محاولين استطلاع الأمر ومعرفة كنه وحقيقة ذلك الضيف، وقد أخبرهم رب الدار- قبل وصوله - أنه: صحفي.. جورنالجي.. كاتب، ثم فوجئوا به يقف إلى جوار (الأستاذ) كمال الطويل الذى راح يعزف على البيانو، فيما الضيف يغنى ما عرفوه لعقدين من الزمان - تقريبا - بوصفه السلام الجمهورى أو النشيد الوطني.قبل ذلك اليوم، وقبل الحوار الذى دار بينى والموسيقار العملاق بأربعة حوارات، كنت تورطت فى اعتراف خطير أمامه مفادة أننى أحب الطرب، وقد تعودت غناء بعض أعماله وبالذات: (بين شطين وميه) لمحمد قنديل، وساعتها رفع الموسيقار حاجبيه دهشة، وأشار بطرف سبابته إلى البيانو على نحو آمر حازم لا يناسب طبيعته الرقيقة التى عرفته بها، أو ضحكته عالية الصوت التى يطلقها معبرة عن فرح طفولى يعد أحد الملامح الأساسية التى ميزت شخصيته. وبعد تردد وتلعثم نهضت لأخطو تجاه البيانو، وقام الموسيقار (الطويل) بالفعل ليعزف، كان الرجل أحد صديقين إرتبطت بهما لزمن طويل وإشتركا فى صفة إنتمائهما- بالمولد والنشأة - إلى مدينة طنطا فى قلب دلتا النيل، وأعنى بهما رسام الكاريكاتير الرائع حجازي، وكمال الطويل أيضاً، إلا أن حجازى كان ابناً لأحد سائقى القطارات، أما كمال فكان إبن محمود بك زكى الطويل رأس أسرة وفدية كبيرة.

ويومها غنيت (بين شطين وميه) ورحت أختلس النظرات بطرف عينى إلى وجه الملحن العتيد علنى ألمح بعض تقدير وإعتراف بموهبتى الغنائية، ولكن ذلك لم يحدث، لا بل لم تتبادر إلى سحنته أى بادرة إستحسان على أى نحو يمكن قراءته، فلما فرغنا من المطلع والكوبليه الأول، توقف كمال- بغته- وإلتفت نحوى مرتكزاً على كرسى البيانو الدوار، وقال: «مش بطال .. بس صوتك وشخصيتك يليق عليهم الغناء الحماسى أو الوطنى أكثر»!!

وخرجت من ساحة ذلك اللقاء والحوار، وأنا أشعر أننى تلقيت طعنة فى سويداء القلب، إستهدفت رومانسيتى وشاعريتى ونزعت عنى إرتباطى الشخصى بأغنية من أبدع ما سمعت، وهى التى إختارتها صديقتى المخرجة إنعام محمد علي- فيما بعد- لتكون إشارة بدء عملية الضفادع البشرية التى بثتها الإذاعة المصرية (فى فيلم الطريق إلى إيلات)، وإستقبلهتا الضفادع فى الأردن وقادة البحرية فى القاعدة بالأسكندرية بقلق وفرح وأمل ودعاء، قبيل العملية .

على أى حال .. راحت أيام وجاءت أيام، ونسيت ما كان من رأى كمال الطويل، وغنوة محمد قنديل، والشطين والمية اللذين عشقتهم عيناى لأجل خاطر أهل إسكندرية!

وفى إحدى مكالماتى للأستاذ كمال الطويل حكيت له عن أننى تلقيت عدة نسخ من مجموعة شرائط لأهم ثلاثين عمل موسيقى كلاسيكى فى التاريخ، وأننى أرغب فى إرسال واحدة له، كما أريد إجراء حوار جديد معه لإحدى المطبوعات العربية/ الدولية (بان آراب)، ووافق الأستاذ كمال من فوره.

وجلست إليه وسلمته مجموعة الشرائط التى استقبلها باحتفاء كبير، وأعددت المسجل، وانتظرت حوالى عشر دقائق حتى أحضر لى أحد العاملين فى المنزل فنجان قهوة سادة - بن محوج كما تعودت وتعودوا، وقد أمضيت تلك الدقائق فى حديث يتلكأ (حتى تصل القهوة)، حول أحوال البلد السياسية، ولدهشتى وجدت كمال الطويل يتذكر حكاية الشطين والمية، ويقول لي: (ما تيجى نجرب أداءك لعمل إثارى أو وطني) ولم ينتظر أن يسمع رديء، ولكنه بادر بسؤالي: (حافظ.. إنى ملكت فى يدى زمامي)، فأطرقت موافقاً، وجلس كمال الطويل من جديد إلى البيانو، وبدأ عزف لحنه الشهير الذى غناه عبد الحليم حافظ من كلمات مأمون الشناوى عام 1956.

إنى ملكت فى يدى زمامى .. وإنتصر النور على الظلام.. وغردت حمامة السلام.. إنى ملكت فى يدى زمامي).

هنا- بالضبط - إنفرجت أسارير الأستاذ كمال، وبدت عليه معالم اعتراف كنت نسيت المطالبة به، وما أن فرغنا من تلك الغنوة حتى فؤجئت به يسألني: (هل تحفظ شيئاً من نفس تلك النوعية؟) فأجبت: (خلى السلاح صاحي) وكنت أحب تلك الأغنية لأسباب سياسية لا نغمية أو طربية، إذ لم يك وقف إطلاق النار فى أكتوبر 1973، أو فى حرب الإستنزاف مطلع سبعينيات القرن الماضي، أمراً محبوباً لدى شاب إمتلأ- مدفوعاً بثقافته الوطنية - بمشاعر مقاومة غامرة وخضع- لفترة طويلة - لعمليات حشد وتعبئة تجهز البلد للقتال والإنتقام ممن أذلوا مصر فى هزيمة 1967 المروعة.

كانت (خلى السلاح صاحي) من كلمات لأحمد شفيق كامل- الذى ألف (حكاية شعب) و(مطالب شعب) ولحن كمال الطويل تعنى المواساة الوحيدة التى شعرنا بها، حين وجدنا فيها توقعاً لغدر العدو، وإستتئنافاً محتملاً للحرب، وتأكيداً على ضرورة جاهزية الجيش.

وغنيت فى كبرياء، على نحو إستقطرته من اعتراف كمال الطويل بي.. ثم كان حوارا آخر وزيارة جديدة، فؤجئت فيها بكمال الطويل ويدعونى إلى أداء واحد من أعماله فى نفس النوع الغنائى وهو (والله زمان يا سلاحي) التى غنتها السيدة أم كلثوم إبان العدوان الثلاثى عام 1956 من كلمات صلاح جاهين.

وكان ما كان من غنائى لذلك العمل الذى أشعر حين أسمعه وأغنيه أن تياراً راعداً قوياً يهز أرجائي، وأن عروقى تنبض بدفقات دماء يضخها الحماس فى جهازى الشعوى والنفسى بنحو ودرجة نادرين.

نهايته .. لم تك تلك المرات هى الوحيدة التى غنيت فيها أثناء إجراء حواراتى الصحفية، فقد كان أحد أحاديثى مع الشيخ سيد مكاوى فضاء انتهزته لمزاولة تلك (الخصلة)، وربما تشجعت بأننى رأيت سيد مكاوى (طفلاً) فى منزلنا ومسقط رأسى بحى منيل الروضة وقد جاءنا مع صلاح جاهين الذى كان يسكن نفس الحي- وقتها- (وكذلك كان كمال الطويل- بالمناسبة - منيلاوى أصيل)

المهم أنني- بعد حوار صاخب- محوره أن الملحن ثقيل العيار (ضد كهربة الموسيقى .. واستخدام الجيتار الكهربائى والأورج الكهربائي) وأنه لا يستبعد (مع سيادة ذلك الاتجاه استخدام الأسانسير فى الألحان والأغاني)!! .. همست إلى سيد مكاوي: (والنبى تغنى لى القافية يا شيخ سيد)، فابتسم- فى مكر- قائلاً: (طب هات العود من ع الكنبة وتعال غنى معايا)، وأحضرت العود وبدأنا الغناء: (يطلعوك م البيت بعجينة .. ويفرقوا على روحك بمب .. يكحلوا سيادتك بمرينه .. تقبض ماهيتك محشى كرنب .. وشك يا فالح مش مطرح إمبارح!)

وقهقهنا فسبقنا ضحكنا!!

ومع ملحن آخر هو المرحوم عبد العظيم عويضة الذى اخترع مع المخرج سمير العصفورى صيغة رائعة لما يمكن تسميته (مسرح غنائى مصرى جديد) وقد ظهرت تجلياتها فى عروض مسرح الطليعة: (الغول) و(مجانين ماراصاد) لبيتر فايس، و(مولد الملك معروف) لشوقى عبد الحكيم، و(دون كيشوت) لسير فانتس.

وقدم عبد العظيم عويضة- رحمه الله- كذلك أعمالاً مهمة لكورال الطليعة الذى غنى أعمال شعراء الأرض المحتلة محمود درويش وتوفيق زياد (أحبائي) و(وطنى يعلمنى حديد سلاسلى) كما أعمال فؤاد حداد (فى كل حى وعترة) وهى ما شدا به- مؤخراً- محمد منير.

المهم .. أننى كنت مواظباً على عروض كورال الطليعة التى كانت تقدم فى قاعة (الشعب) بالاتحاد الإشتراكى العربى وقد باتت فيها بعد مقر الحزب الوطني، ثم أصبحت مبنى محروقاً فى يناير 2011 تركته الإدارة فى مصر نصباً للقبح تنعب فيه البوم طيلة أربع سنوات من الكآبة الوطنية والتاريخية.

استمعنا فى قاعة الشعب عام 1968 إلى الإفريقية ميريام ماكيبا، وإلى أشعار السوفيتى إيجيفنى يفتشنكو، وتعلمنا كيف نحس بمعانى نصوص أدبية أو غنائية من دون أن نعرف حرفاً من اللفات التى استخدمها مبدعوها.

وغنينا مع عبد العظيم عويضة ما وسعنا الغناء، وفى إحدى زياراتى لمنزله فى شارع الجيش بالعباسية، وقفت نفس الوقفة إلى جوار البيانو وغنيت معه: (أحبائى برمش العين أفدى درب عودتكم برمش العين ..)

وفى موقف شبيه كنت فى زيارة للصديق الحبيب بليغ حمدى فى مكتبه بشارع بهجت على فى الزمالك، وهو مكان له درج تهبط إليه فتجد نفسك أمام علم مصر الأخضر القديم على الحائط وإلى جواره بيانو وعود وبضع قطع من الأثاث الأنتيكة ليس فيها معنى الفخامة، ولكن فيها حضور الأصالة.

وقد إصطحبنى الدكتور لويس عوض إلى ذلك المكان، وعرفنى بليغ حمدي، وكان يسمى موسيقاه (ورشة بليغ) إشارة إلى تجريبيتها وحجم الصخب الذى سادها (فى مرحلة معينة من إبداعه) .. وقد غنيت مع بليغ- يومها- «الشارع لمين» التى لحنها لفيلم (عودة الإبن الضال) من إخراج يوسف شاهين وتأليف صلاح جاهين.

وبمناسبة صلاح جاهين فقد كان يدعونا- فى كثير أحيان- إلى احتفال بعيد ميلاده فى 25 ديسمبر، وهو نفس يوم عيد ميلاد الرئيس السادات، وفى أحد تلك الأعياد ذهبنا- بربطة المعلم- مكرم محمد أحمد وسعيد عبد الغنى (الذى قدم لنا- ليلتها- فتاة جديدة تريد أن تصبح ممثلة هي- فيما بعد- رغدة) ومعهما سمير صبحى المخرج الصحفى الرائع فى الأهرام، وقعدنا حول صلاح على الأرض، بينما جلس هو بجلبابه الرمادى على المكتب وإلى جواره كلبته الكانيش، وقلت له حين رأيته: (شكلك يا عم صلاح وأنت قاعد والكلب تحت رجليك زى تمثال إله إغريقى للحكمة اسمه الإله كانيش)، ولكنه لم يضحك، إذ كان يراقب شاشة التليفزيون أمامه، وقد ظهر فيها الرئيس السادات بالعباءه مع الإعلامية همت مصطفى يدلى إليها بحديثه السنوى فى عيد ميلاده، وفجأه خبط صلاح بقبضة يده على زجاج مكتبه هاتفاً: (كل سنة يبوظ لى عيد ميلادى .. كل سنة يبوظ لى عيد ميلادي)!

ولم يهدأ غضب صلاح أو يحول دون إفساد سهرتنا سوى قدوم الملحن الجميل إبراهيم رجب، وهو واحد ممن لم يحتفل بهم هذا البلد كثيراً رغم أنه عاش فى ظلال عبقريتهم حين أنشد مع محمد حمام (يا بيوت السويس) أو مع عبد الحليم حافظ (يا بلدنا لا تنامي) أو أغانى مسلسل (الفلاح) الرائعة فى عمل لعبد الرحمن الشرقاوي، أو فى تلك الأغنية التى فوجئ بأننى طلبت منه إنشادها وسط الجمع الذى إلتأم، لأنها غير معروفة، وأعدها صلاح لبرنامج غنائى فى إحدى قنوات التليفزيون العربية، وأن لم تذع فى مصر كونها تحريضية وإثارية بأكثر مما ينبغي، وتلك الاغنية كانت دليلى على أن صلاح لم يتوقف عن إبداع الأغنية السياسية بعد 1967 كما يحب البعض تسويق ذلك المعني، وإظهار صلاح بأنه ندم على إبداعاته التى أشاعت وأذاعت الحلم الناصرى فى نفوس ووجدانات أجيال ثورة 23 يوليو.

كانت كلمات الأغنية التى رحت أغنيها مع إبراهيم رجب:

«هيه دى المسألة .. والمأساه والمهزلة .. معضلة مش معضلة .. مشكلة مش مشكلة .. إنما .. ولكنها .. هيه دى المسألة .. الأصيل فى الدنيا دى مالوش حظ .. والسعادة لكل قاسى قلبة فظ .. يا ترى نركع له واللا نقول طظ؟ .. نقوله طظ .. حتى لو رقبتنا تحت المفصلة .. هيه دى المسألة!!»

...............................................

وأرجع إلى كمال الطويل .. الذى سألته عن دور توزيع أندريا رايدر فى (والله زمان يا سلاحي)، وخصوصاً أن دور الموزع كان أساسياً فى معظم أعمال كمال الطويل الوطنية: (يا أهلاً بالمعارك .. المسئولية .. صوره .. بلدى يا بلدى .. الفوازير ..) التى قام بتوزيعها الموسيقار على إسماعيل شقيق الممثل جمال إسماعيل وقد كان- رحمه الله- من المعجبين المتحمسين لبرنامجى التليفزيونى (حالة حوار).

وأجابنى كمال الطويل:

«يجب أن يفهم الناس أهمية التوزيع الموسيقى بالنسبة للموسيقى العصرية، فلو أننى أقدم أغانى من ذلك النوع الذى كان الشيخ زكريا أحمد يبدعه، لا أكون محتاجاً لتوزيع أو غيره، أما الأغانى التى تعتمد على التعبير الموسيقى والحركة الموسيقية (بمعنى الأداء الصوتى وليس حركة الجسم أثناء الأداء) فإنها تحتاج إلى التوزيع .. والتوزيع علم قائم بذاته، ولا يستطيع كل ملحن أن يوزع، كما لا يستطيع كل موزع أن يلحن، فالملحن هو الذى يقوم ببناء العمل الفني، أما الموزع فهو الذى يضع اللون إذ يقوم بمهمة مهندس الديكور بالنسبة للعمل»

وقلت: «ولكن عمل الموزع بات يتجاوز مسألة الديكور، إذ يأتى أحد الملحنين ويقول للموزع: تيراارااى تربيتيت تو .. خذ هذه ووزعها لي، وهنا يتجاوز الموضوع التعامل مع خلق وإبداع الملحن ويصبح الموزع هو القائم بالخلق والإبداع»

فقال الموسيقار الكبير: «أنا لا اتفق مع أى ملحن يضع اسمه على عمل شاركه فيه أى مبدع آخر، هذا لا يدعو لاحترام الفنان لفنه فى النهاية، وسأضرب لك مثلاً بسيطاً، فعندما وضعت ألحان أغانى سعاد حسنى فى مسلسل (هو وهي) ذهبت إلى عمار الشريعي، وقلت له سيكون اسمنا على المسلسل بالمشاركة .. هذا هو المفروض، أما أن يأتى أحد الملحنين ويعطى الموزع جملة ميلودية، ويقول له: هيا- بلباقتك وظرافتك- إعمل لنا منها موسيقي، فهذا مالا أوافق عليه، وطوال عمرنا الفنى ونحن نسلم الموزعين الكبار- أمثال أندريا رايدر وعلى إسماعيل وفؤاد الظاهري- أعمالنا مكتوبة على النوتة».

ولعمرى لم أتقصد أن أكون خشناً أو مؤلماً مع أحد أصدقائي، ولكنني- بالفعل- أردت أن أعرف مشاعر كمال حين أقصى نشيده الوطنى (والله زمان يا سلاحي) بعد ما نال أكبر شرف يمكن أن يتحصله ملحن وهو أن تصبح أنغامه هى السلام الجمهورى لبلده.

وسألت كمال الطويل عن شعوره حين يستمع إلى النشيد الوطنى الجديد (بلادى .. بلادي)، فقال لي:

«وطنياً .. أشعر بكل ما يشعر به المصريون، أما فنياً .. فأقول لك اننى أحب سيد درويش جداً واستشعر عظمته ليس لأن موسيقاه هائلة، ولكن من خلال معرفة ما الذى كان يُغنى فى مصر وقتما قدم الرجل هذه الموسيقي، وبحث سيد درويش عن جماعية الأداء جعل أعماله لا تحتاج إلى مطربين، وهذا ما عجز الكثيرون منا- إلى اليوم- عن تقديمه.

وإذا كنا فى معرض المقارنة بين موسيقى السلامين الجمهوريين القديم والجديد، فإن نشيد بلادى .. بلادى يعبر عن مرحلة سادت فيها الخطابية فى الممارسة السياسية (لأن مطلعه من كلمات مصطفى كامل) وارتبط بحادث (عودة سعد زغلول) ولكنه- أبداً- لم يك إرتباطاً بحياة جيل كامل، أما (والله زمان يا سلاحي)فقد كان ارتباطاً بجيل لا يزال هو الفاعل رقم (1) فى مصر (كان ذلك الحوار- بالذات- عام 1986)، لابل وبأعظم معارك هذا الجيل وهى حرب السويس، ومن جانب آخر فإن (بلادي- بلادي) يتحدث عن معانى رنانة، أما (والله زمان يا سلاحي) فيقدم صور مليئة بالإحساس والحركة مثل (زاحفة بترعد رعود) .. التى غنيتها معى الآن».

واستسلمت للغواية الصحفية فواصلت الضغط على كمال متسائلاً عن الدور الذى لعبه محمد عبد الوهاب فى تغيير السلام الجمهورى فقال:

«أتكلم معك بكل الموضوعية، وقد ترددت فيما بحث فيه كثيراً حتى لا يقول أحد إن كمال موتور أو حاقد أو ناقم .. ولا أعرف- حقيقة- من الذى أفتى للرئيس السادات (على المستوى السياسي) بأن النشيد الوطنى لا يجوز أن يستمر مغنياً للحرب، بعد توقيع معاهدة السلام، إذ أن حمل السلاح دفاعاً عن الوطن إذا تعرض لتهديد أو خطر هو معنى لا يختفى أو يصبح خطيئة لا ينبغى لأحد أن يقترفها إذا وقعنا معاهدة سلام ..»

وأستعيد- الآن- تلك المعانى ومصر تخوض معركة ضروس ضد الإرهاب، وتلملم نفسها وتحتشد من جديد، ونرى الجنود الزاحفة بترعد رعود، حالفة تروح لم تعود إلا بنصر الزمان .. وأقر فعلاً إخضاع النشيد الوطنى ليصبح أداة فى تسويق تحول سياسى معين هو أمر معيب وخطأ تاريخى كبير جداً.

على أى حال واصل كمال الطويل حديثه: «أما- فنياً- فلقد علمت أن محمد عبد الوهاب فى إحدى زياراته للرئيس السادات قال له: (ياريث .. أصل والله زمان يا ثلاحى ده فيه حته روثى شوية) أو: «يا ريس .. أصل والله زمان يا سلاحى ده فيه حته روسى شوية»

يعنى عبد الوهاب استغل الحالة النفسية والمزاجية للسادات ومعركتة التى انخرط فيها ضد موسكو، وحاول أن يوحى إليه بأن إثارية وحماسية والله زمان يا سلاحى مستلهمة من الأناشيد الروسية التى رافقت الثورة البلشقية أو تماهت مع معاركها .. فشعر السادات بأنه يكره (والله زمان يا سلاحي) يرفضه .. يعنى (سياسياً) و(فنياً) أحس السادات أنه يريد نشيداً جديداً .

وبعد أن أنفذ عبد الوهاب مؤامرته وغير السلام الجمهورى وقاد فرقة الموسيقات العسكرية بنفسه بعد أن إرتدى بدلة ضابط وتقلد رتبة العميد فى إستقبال الرئيس السادات بالمطار، لم يشعر المصريون بنفس الحماسة التى تعودوا الإمتلاء بها عند سماع نشيدهم الوطني، حتى أن الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم قال لى حين دعانى مع حمدين صباحى إلى طبق فول فى مطعم فلفلة يوم 5 يناير 1984- بمناسبة حصولى على الدكتوراه فى الليلة السابقة- «ما قدمه عبد الوهاب ليس نشيداً وطنياً وليس بلادى .. بلادى .. أنا شعرت أن الآلات النحاسية تعزف رز بلبن»!!

المايسترو شعبان أبو السعد درس فى روسيا وتعود قيادة الأوركسترا فى عروض الفرقة القومية للفنون الشعبية وكان المعادل الموضوعى لعلى إسماعيل مع فرقة رضا .. وربما كان أشهر بروجرام له هو ما فاد فيه الفرقة القومية حين قدمت (البمبوطية) و(البدو) و(الحصان) عام 1969.

وقد شعر شعبان أبو السعد بما شعرنا به حين إستمعنا إلى السلام الجمهورى الذى قاد عبد الوهاب مؤامرته، وإن كان موزعه- فى الحقيقة- هو مختار السيد.

فقام شعبان أبو السعد بإعادة توزيع بلادى بلادى بايقاع أسرع، وفخامة أوركسترالية كبيرة، وقدم النص الموسيقى الجديد للسلام الجمهورى إلى رئاسة الجمهورية، وإستمع إليه السادات وأعجب به، ولكن زيارة أخرى من عبد الوهاب للسادات كانت كفيلة بوفاة ذلك التوزيع وبالذات حين أشار عبد الوهاب- مرة أخري- إلى دراسة شعبان أبو السعد فى روسيا، والبصمة التى تركتها الموسيقى الروسية على توزيعه و(إحنا يا ريث مش عاوزين حاجة تفكرنا بالروث فى المرحلة دى)!!

ولا أعرف .. وربما لا يعرف أحد أين ذهب توزيع شعبان أبو السعد للنشيد الوطني: (بلادى .. بلادى).

وفى أى أضابير الرئاسة إختفى.

.........................................................

كمال الطويل يمثل- بأنغامه وموسيقاه- جزءاً هائلاً من الحالة الشعورية والعاطفية التى إستغرق فيها جيلى من خلال أغانى «ليه خلتنى أحبك» / ليلى مراد، و«أسمر يا أسمراني» / فايزة أحمد، و«الناس المغرمين»/محمد عبد المطلب، ومع عبد الحليم حافظ فى باقة هائلة من الأغاني: «راح .. راح» و«الحلوة» و«بلاش عتاب» و«جواب» و«بتلومونى ليه» و«قولو الحقيقة» و«الحلو حياتي» و«هى دى هيه» و«كفاية نورك» و«بعد إيه» و«صدفة» و«فى يوم من الأيام» و«لا تلمني» و«على قد الشوق» و«خدنى معاك يا هوي» ومع ذلك كله كانت درة أغانى عبد الحليم العاطفية «فى يوم فى شهر فى سنة» من تأليف مرسى جميل عزيز.

كل تلك الحمولة العاطفية الزاخرة- مع كل أهميتها وأرجحيتها تجئ فى المرتبة الثانية بالنسبة لإبداعات ذلك الموسيقار الرائع الذى صاغ الوجدان الجماعى لجيلي.

إذ كانت أغانى كمال الوطنية هى التى تتربع على عرش المرتبة رقم واحد بين ألحانه أجمعين.

المرحلة السياسية التى لمع فيها كمال الطويل امتزجت بألحانه وكلمات صلاح جاهين، حتى جاوزت- فى تأثيرها- ما نعرفه عن الغناء، وصارت وثائقاً للتأريخ السياسى والوطنى والإجتماعى وعلى نحو باتت فيه نقطة إشارية دالة على عصر المعارك الوطنية والقومية الكبري، أو ما إصطلح على تسميته: عصر جمال عبد الناصر.

لا بل تجاوزت ألحان كمال الطويل فى تأثيرها جيلى وإمتدت لتصوغ إحساس الملايين الهادرة فى 30 يونيو دون أن تعيش عصر عبد الناصرأو تراه .. وجميعهم غني: «إحنا الشعب» و«بالأحضان» و«المسئولية» و«يا أهلاً بالمعارك» و«صورة»، لابل نتذكر جميعاً فى معاركنا وقتالنا ضد أى عدو يتربص بنا الدوائر: «إبنك يقولك يا بطل» و«أحلف بسماها وبترابها».

وقد أغرانى ذلك التراث الوطنى والسياسى الزاخر أن أطالب كمال الطويل بتقديم تقرير حالته السياسية لى فى أحد حواراتنا وقد دار فى حديقة فندق ماريوت بالزمالك، وكان كمال يرتدى كوفية حريرية فخيمة لفت رقبته من تحت ياقة القميص، فقلت له: «باشا جداً .. على فكرة إزاى إنت ملحن الثورة وأنت لابس كوفية زى دي، وإزاى بتقرا لهيكل وأصدقائك هما مصطفى أمين وأنيس منصور وأحمد رجب؟ ثم أنت جاى من أسرة وفدية إيه اللى ربطك بجمال عبد الناصر؟»

وكأنما بوغت كمال الطويل بذلك الهجوم سريع الطلقات، فأطلق ضحكته عالية الصوت من عقالها وسألنى دهشاً: «إيه الحكاية يا عم عمرو داحنا حبايب».

ولكنه استدرك: يحركنى شعور كبير ويتلبسنى إلى حيث أجد الكيان أو المجموعة السياسية التى تتوافق مع ذلك الشعور .. يعني- مثلاً- أنا وجدت نفسى معارضاً للرئيس السادات فى بعض أفكاره وسياساته، وللتعبير عن وجهة نظرى إنضممت إلى ثلاثة أحزاب، ولكننى خرجت منها واحداً تلو الآخر، وظللت قلقاً لا أجد ما يعبر عن (نوع) معارضتى للرئيس السادات .. حين دخلت التجمع ولم أحضر فيه سوى جلسة واحدة وقفت فيها وقلت: (لست ماركسياً وقد بلغنى أن إخواننا الماركسيين هم الذين سيقودون هذا الحزب)، فخاطبنى الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله قائلاً: (أحب) أطمن الأخ كمال أن نسبة الماركسية فى الحزب لا تزيد عن ثلاثة فى المائة)، ولكننى رأيت أنهم ثلاثة فى المائة فعالين جداً، فلم أحضر أى اجتماع بعد ذلك، وبعدها وجدت أن حزب العمل الإشتراكى مضطهد جداً فبعثت برقية إلى رئيسه المهندس إبراهيم شكرى وقلت له: أنا معك، وحضرت اجتماعين، فوجدت محاولة تلفيقية جداً بين الإسلامية والإشتراكية، وتوقفت عن حضور الجلسات، وأخيراً ذهبت إلى الوفد ولكننى لم أجد فيه الصورة التى إرتسمت فى ذهني- تاريخياً- عن ذلك الحزب.

الإنضمام إلى الاحزاب لا يضيف للفنان شيئاً، ولكنه يعوق تعبيره بحرية عن رأيه حتى فنياً ..

إرتباطى بأصدقائى ليس سياسياً ولكنه علاقة أبناء جيل واحد بعضهم ببعض، فوقت أن ظهرنا كنا جزءاً من تيار يلبى ندا مصر التى كانت تفور بالرغبة فى شيء جديد، ظهر فى وقتنا أنيس منصور، ومصطفى محمود، وفتحى غانم، وعشرات من الكتاب والرسامين والفنانين، وعلى فكرة الحال الآن هى نفس الحال، ومصر تفوز بالرغبة فى شيء جديد.. مصر تمد يدها للعدالة لأن ما مضي، وما نسمع عنه فى الصحف لا يخلق إلا المرارة، والمرارة لا تولد فناً، والسعادة قد تخلق فناً، أما المرارة- فهى وليدة عدم الإحساس بالعدل- فهى لا تخلق فناً بل تقتله!

أحب ذوى النفوس الصافية وأقترب منهم ولا أصاحب مصطفى أمين وأحمد رجب لأننى متفق معهم سياسياً، ولكننى أقرأ هيكل لضرورة التعرف على أفكاره .. وحالياً أطالع كتابه: (وقائع تحقيق عند المدعى الإشتراكي) وعندما سألت كمال الطويل عن الأغنية الوطنية التى يمكن أن تعبر عما يجيش بنفسه، وتحمل مطالبنا- جميعاً- إلى الرئيس تحت عنوان : «عايزين»؟ (مرة أخرى كان ذلك عام 1986) فقال: (عايزين) على المستوى السياسى .. العدالة الإجتماعية بمعناها الحقيقى .. (عايزين) تعديل الدستور ليصبح كل شيء، وكل منصب بالانتخاب الحر المباشر .. (عايزين) تغيير حقيقى يلحق بالأحزاب المصرية التي- بكل لأسف- أحزاب عاطلة باطلة فكراً وممارسة .. (عايزين) جبهة تضم كل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة تعمل لصالح مصر .. (عايزين) إسراع فى إجراءات العدالة القضائية، وتوفير وضع اجتماعى ملائم للقضاة حتى تأتى أحكامهم عادلة فعلاً»

وحين استدعيت أوراقى القديمة وكتبى وشرائطى وبعض مذكراتى لكتابة سطور هذا النص لم أك أتصور أننى سأتجمد أمام ما قاله كمال الطويل تحت عنوان: (عايزين) وأعيد اكتشاف هذا الفنان من جديد، إذ بدا وكأنه يوجه كلامه لنا اليوم، وعن واقع نعيشه الآن.

....................................................

وربما لم تلق أغانى كمال التى لحن فيها نصوصاً من الشعر العربى الفصيح نفس نجاحات أغانيه التى قدمت لنا إبداعات عامية جديدة ورائعة لصلاح جاهين ومرسى جميل عزيز ومأمون الشناوى حسين السيد والأبنودي، ولا إستثني- هنا- سوى نص: (إنى ملكت فى يدى زمامي) لمأمون الشناوى الذى ذاع وشاع محققاً شهرة كبيرة، أما نصوص الفصحى الأخرى التى لحنها كمال فلم يعرضها الكثيرون ومنها (لغيرك ما مددت يداً) و(غريب على باب الرجاء) للسيدة أم كلثوم وكلمات طاهر أبو فاشا.

أما أغنية (سمراء) لعبد الله الفيصل و(لقاء) لصلاح عبد الصبور، فقد جاءا ضمن موجة من الغناء المصرى الفصيح شملت (أنت قلبي) و(لا تكذبي) و(أيظن) و(حبيبها) فأصابت أغنيتا كمال الفصيحتين (سمراء) و(لقاء) بعض النجاح بسبب التيار الذى خلقته أغانى نزار قبانى وكامل الشناوى والتى لحنها عبد الوهاب ومحمد الموجي.

وعن تلك الظاهرة حكى لى كمال الطويل مرة: «المسألة ترتبط بأن من لحنت نصوصهم العامية كانوا يمثلون موجة تجديدية وتعبيرية درامية هى التى شكلت مزاجى والإحساس العام السائد وقتها.

ولذلك حين أحسست بغربة عن المزاج العام الجديد فى مصر فإن ذلك دفعنى إلى إعتزال التلحين فى منتصف السبعينيات.

دائماً كانت الأغنية الدرامية هى الملاذ الآمن لى لأنها تعصمنى من التفاعل مع واقع جديد ربما لا أجد نفسى فيه أو معه.

ومن هنا كان إنفعالى بغنوة (آدى اللى كان .. وآدى القدر) لماجدة الرومى فى فيلم (عودة الإبن الضال) وهى التى إعتزلت التلحين بعدها، ولكن يوسف شاهين- مرة أخري- أعادنى للتلحين حين ألح فى أن أضع له موسيقى فيلم «المصير» .. (وبالمناسبة فقد أعاد يوسف شاهين تقديم موسيقى المصير فى فيلمه: «إسكندرية- نيويورك» الذى حمل إهداء خاصاً إلى إسم كمال الطويل بعد رحيله).

وأرجع إلى كمال الطويل والغنوة الدرامية التى اعتصم بها فى وجه واقع جديد لم يحبه، إذ وجدت كمال يتصل بى مرة فى بواكير الصبح، ليسألني: «عندك نص ساعة النهاردة»، فأجبته «ساعتين يا أستاذ كمال» وقال لي: «طيب عدى عليا الساعة 12 عاوز أسمعك حاجة» .

وكانت تلك الحاجة هى أغنية فيلم (اليوم السادس) التى أقرأنى صلاح جاهين نصها حين وضعه فوجدته مفعماً باحساس فلسفى حزين قاتم يلائم حكاية الفيلم: «بعد الطوفان .. إيه اللى فى الإمكان .. يا هلترى فى الدنيا بر أمان .. واللى إنكتب له يبعد عن الحياة .. إزاى يعود للحياة .. بعد الطوفان يابا بعد الطوفان؟!».

وحين أدار كمال الطويل جهاز التسجيل ليسمعنى ما صنع بتلك الكلمات، بُهرت، وبيقين فإن متابعتى لمراحل صياغة تلك الأغنية، جعلتنى أرتبط بفيلم اليوم السادس، وأشاهده- مدققاً- أكثر من مرة، لابل وحرصت على إلتقاء مؤلفته الأديبة الشاعرة الفرنسية- مصرية المولد- أندريه شديد حين جاءت لمصر بعد حصولها على الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأمريكية، وأمضيت عدة ساعات مع تلك المرأة الرائعة فى فندق شيراتون القاهرة وأجريت معها حواراً مطولاً كان مدخله تلك العلاقة الملتبسة ما بين الأدب والقالب الفنى أو الإبداع والأيدولوجيا وقد قالت لى أندريه شديد: «أظنه عملاً يتسم بالحماقة، ويتناقض مع طبيعة الفن أن يحشر الأديب كلماته فى سترة ضيقة إسمها القالب الفني، وأظنه عملاً يتسم بالقهر، ويتصادم مع وظيفة الكتلة أن يقوم الناس بتعبئة الأديب وكلماته فى سترة أكثر ضيقاً اسمها الولاء السياسى أو التعبير عن طبقة اجتماعية».

وساءلت أندريه شديد عن روايتها (بعد اليوم السادس) التى صارت فيلماً بعنوان: (اليوم السادس) فقالت إنها لاحظت رد فعل شباب المدارس حين قرأوا (اليوم السادس)، إذ أثارت العديد من أسئلتهم التى تعلقت أكثر ما تعلقت برغبتهم فى معرفة المزيد من التفاصيل عن المجتمع والجو الذى وقعت فيه أحداث الرواية .. أنا أشعر برغبة عارمة ودائمة أن أجوس فى عوالم لم أخبرها قبلاً، وأن أتطلع إلى ما وراء كل باب مغلق، وفى كل شخصية أكتب عنها، أو موقف أنفعل به، وهذا هو الحق الذى أعترف به لكل مبدع آخر .. ولذلك أعتقد أن فيلم (اليوم السادس) هو رؤية خاصة لمخرجه.»

....................................................

نعم .. كانت غربة كمال الطويل عن الواقع الجديد والرديء سبباً فى عزلته وتوقفاته الطويلة، وإلتجائه إلى النصوص الدرامية .

وعن ذلك الواقع الجديد الذى أعطب واحدا من أعظم الملحنين المصريين قال لى كمال الطويل:

«لابد أن نسأل أنفسنا ما هو العنصر الحاكم فى ظاهرة الأغنية، ومن الذى يملك القدرة فى الحكم عليها، وسنجدهم- دون أدنى شك- تجار الكاسيت فهؤلاء هم ترمومتر الحركة الغنائية فى مصر، ويقولون- ضمن مقولاتهم المتداولة- أن أكبر عدد من مبتاعى الكاسيت هم من العمال المصريين المسافرين إلى البلاد العربية، والذين باتت لهم إمكانات مفاجئة لشراء جهاز التسجيل وشرائطه، وقد فرضوا ذوقهم على السوق .. هل تعرف أن أكثر الأغنيات مبيعاً هذه السنة كانت أغنية نادية مصطفى من كلمات عبد الوهاب محمد، التى تخاطب أولئك الذين يسافرون للعمل وكلماتها تقول ما معناه: (سلامات .. سلامات على البلديات .. فيه غيركو سافروا .. ومهمناش غيرو واحد بس من اللى سافروا .. هوه إنت اللى سافرت علشان تعمل وتسوى .. كنت خليك قاعد يا شيخ» .. وضحك كمال الطويل كثيراً، وكلما أراد أن يكمل حديثه .. ضحك من جديد إلى أن نجح فى إكمال ما يبغى قوله: «المتلقى الذى يشترى مثل ذلك الكاسيت يجد فيه ما يعبر عن مشاعره بطريقة يفهمها، وبدأ تجار الكاسيت يعتنون- تماماً- بمطالب تلك الفئة، مضافاً إليهم الحرفيين، وهم- فى الواقع ليسوا حرفيين، فالمعلم (الأسطي) زمان كان عنده ذوق ويعرف كيف يتكلم وكيف يلبس، وله مزاج ظريف، أما الموجودون الآن فليس لهم (ذوق) حتى فى صنعة كل منهم، وقد أعجبنى للغاية محمود أبو زيد حين كتب سيناريو فيلم (الكيف) لأنه عبر عن كلمات الأغانى التى يمكن أن تعجب تلك الفئة .. هذان العنصران هما اللذان فرضا ذوقيهما على المجتمع المصري، لأنهم زبائن سوق الكاسيت .. المثقف لا يذهب- كثيراً- ليشترى شريطاً فهو كسول ويكتفى بسماعها مرة واحدة فى الراديو أو التليفزيون، ولكن الحرفى أو العامل المهاجر يستمع إلى الشريط الواحد عشرات بل مئات المرات، ويستخدم كلماته فى مخاطبة حبيبته وزميله وصديقه، وقد صار الغناء يبحث عن جمهوره وسط هؤلاء، ويخاطب سائقى التاكسى وزبائن المقاهي.

المثقفون يصرون على تحميل الغناء بأكثر مما يحتمل، وتجد الواحد منهم يتكلم عن وظيفة الأغنية فى المجتمع الناس، وحتمية أن تعطى الأغنية الأمل للأجيال القادمة .. خطبة- إذن- هى وليست أغنية.

العالم كله لا يعرف هذه التصنيفات فالأغنية- فى الدنيا كلها- تعبر عن مشاعر الحياة فى وطن، ومظاهرها، وتتكلم عن نوع الحب، وتفكير الشباب، ولكنها لا تتحول إلى خطاب سياسى إلى الأمة.

ولقد فهمت الغنوة بكل هاتيك المعاني، ورأيت أن الذوق السائد لا يلائمنى فإنسحبت.

أعجبني- للغاية- أحمد رجب حين كتب مرة أنه من خلال إستماعه للأغانى اللبنانية، أدرك أنه لا يوجد بلد فى العالم سوى لبنان .. تستمع إلى الأغنية فإذا الأوصاف تنسكب منها عن (لبنان الحبيب) و(لبنان قطعة سما) و(لبنان اللى بيتكلم عربي)، هذا كله بينما نعلم جميعاً أنه بلد مزقته الحرب الأهلية .. وأخشى ما أخشاه أن يدفع بعض المثقفين الأغنية عندنا لتصبح مثل ذلك النموذج، فالأغانى الوطنية غارقة فى (حبك يا مصر) و(خيرك يا مصر)، وأحلت التخيل والإطمئنان إليه محل الرغبة فى تغيير الحقائق وحل المشكلات .. ببساطة الناس تتخيل أن ما يغنونه بات حقيقة، وتحت تلك اللافتة الهروبية تغطى بعض الأغانى ضعفها بالتمرغ فى حب مصر .. التغير فى الإحساس العام فرض نفسه على الوطنية- كذلك- بحيث أصبح التعبير عن الوطنية تعبيراً فردياً ذاتياً يمكن أن يرتاح لعبارات المرمغة فى حب الوطن، دون أن يكون فى ذلك إلزام له بأى شيء .. أما الطبقة الجديدة التى كلمتك عنها فى بدايات حوارى معك، فإن موضوع الوطنية لا يهمها مادام لا يؤثر- كثيراً- على الأسعار والسوق ..

الأغنية المصرية الحالية فقدت كل مقوماتها شكلاً وموضوعاً ويبدو لى أن الغناء بذلك الشكل أصبح لا قيمة له ولا معني، فأنا أسمع الأغانى بدءً من عبد الوهاب إلى أصغر مغنى ولا أشعر بفارق، ولا أحس بمتعة فى الاستماع، فعندما أستمع إلى مقطع أو جملة أجد نفسى وقد توقعت الجملة القادمة تماماً، لابد أن نجد صيغة جديدة للأغنية تختلف كلماتها عن الحب والهجر والغدر، وأعتبر أن تلك هى أزمتى الحقيقية التى دفعتنى للإبتعاد.

والغريب أن الفنانين تعودوا حضور لجان ومؤتمرات للغناء وللإبداع، يرفعون بعدها مقرراتهم ونتائج مناقشاتهم إلى الدولة.

أزمة الأغنية لا يمكن حلها بتقرير يرفع للحكومة أو يكتب تحت رعاية الرئيس لأن الأغنية قضية شعبية وليست حكومية، فلا يوجد فنان يظهر بقرار جمهوري، ولكن ما يجب أن يفعله الرئيس وما ينبغى أن تقوم به الحكومة هو فتح النوافذ وإزالة العقبات التى تواجه الفنانين .. أما حينما يتحول الفنان إلى كاتب تقارير فذلك غير مفهوم لأن حل أزمة الأغنية يكون بممارسة الفن، وليس بتدبيج التقارير عن حالة الفن».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.