دائماً ما نضرب المثل بالإعلام البريطاني في النزاهة، والاستقلالية، والدقة، والمساءلة، وندعو شباب الإعلاميين، ومحدودي الخبرة، ومنعدمي الكفاءة إلى متابعته، للاحتذاء به والتعلم منه.. لكن هل تصلح تغطية الصحف البريطانية لزيارة الرئيس السيسي إلى لندن، وما صاحبها من جدل حول مستجدات حادث الطائرة الروسية في سيناء، كنموذج يعضد هذه النظرية؟ أم يدحضها؟ لا مجال للشك في أن التغطية المحلية في مصر لهذا الحدث حفلت بالعديد من التجاوزات، على رأسها خطاب العنف والتحريض ضد الغرب، والسطحية والاستسهال، والتضخيم والحجب غير المبرريْن، والترويج لنظرية المؤامرة دون استناد لتحليل عقلاني أو دليل يقيني، وتوجيه السباب للغرب بوجه عام، ولبريطانيا بوجه خاص، واستدعاء ما قاله عبد الناصر في خطابه الشهير أواخر الخمسينات في سياق شديد الاختلاف، وهذه في تقديري رؤية إعلامية قاصرة، منقطعة الصلة بالسياسة الخارجية، التي لن تستغني بأي حال عن الانفتاح على العالم، وتعزيز القواسم المشتركة مع الغرب، وارتكاز قطاع السياحة بشكل أساسي على الوافدين من روسياوبريطانيا، حتى بدا الأمر كما لو كان بمقدورنا الاستغناء عن 10 ملايين سائح أجنبي، يأتون لمصر ب 7.5 مليار دولار في العام، ويمثلون دخلاً لنحو 16 مليون مواطن مصري، وتعويض ذلك بنقل استوديوهات القنوات التليفزيونية والمحطات الإذاعية إلى شرم الشيخ؟ هكذا جاءت التغطية الإعلامية المصرية، برؤية مندفعة ومحدودة الأفق.. لكن في المقابل، كيف كانت التغطية الإعلامية البريطانية؟ لقد جاءت الصحافة البريطانية هي الأخرى بالعديد من الأمثلة على الانتقائية، والتلفيق، وعدم التدقيق، وغياب التوازن النسبي... ولعل أوضح مثال على ذلك تركيز معظم التقارير عن مصر في الصحافة البريطانية قبل الزيارة على استنكار استقبال رئيس الوزراء البريطاني للسيسي، وكيف أن الزيارة تهدد الأمن القومي البريطاني، كما وصفها زعيم حزب العمال "جيرمي كوربن"، ثم تجاهلت الإشارة إلى الزيارة تماماً في يومها الأول 4 نوفمبر، إلى أن وجدت ضالتها في اليوم الثاني 5 نوفمبر، حين أوردت الصفحات الأولى من جميع الصحف تقريباً المزاعم البريطانية والأمريكية حول زرع قنبلة على متن الطائرة الروسية مما أدي لانفجارها، بينما اختصرت زيارة الرئيس إلى فقرة واحدة من كل موضوع، رغم أن مباحثاته مع رئيس الوزراء البريطاني تناولت الأمن في المنطقة، وتطورات الموقف الليبي، وتعزيز العلاقات الثنائية، وهي ملفات ذات أهمية قصوى، هي التي دعت بريطانيا إلى المبادرة بتوجيه الدعوة للرئيس لزيارتها، إضافة إلى أن هذه الملفات تعكس رغبة البلدين في تعزيز تحالفهما ضد الإرهاب، الذي يقف وراء تفجير الطائرة.. كما أن بريطانيا تعلم علم اليقين أن مصر في جميع الأحوال لم تتآمر ضد أحد كي تحاصرها أصابع الاتهام من كل جانب، وإلا لم تكن لتستقبل السيسي (بما يمثله من رمزية كرئيس لمصر) لو كان في نظرها قاتلاً أو متسبباً في القتل، وإذا كان الإهمال في مصر قد قتل 224 معظمهم من الروس، فقد قتل الإهمال البريطاني في مترو أنفاق لندن 50 وجرح 400 في 7 يوليو 2005، رغم انتشار الكاميرات وضباط الأمن داخل كافة المحطات.. كما قتل الاهمال الأمريكي طبيباً أمريكياً يدعى جورج تيلر عام 2009، على يد مسيحي متشدد مناهض للإجهاض، رغم تلقيه تهديدات بالقتل على مدى 23 عاماً، وتعرضه لنحو 6 محاولات فاشلة لقتله.. كما قتل الإهمال الأمريكي أيضاً شخصين في كنيسة نوكسفيل في 27 يوليو 2008، على يد مسيحي متشدد آخر، رغم وجود ماسحات إلكترونية على أبواب الكنيسة، تماماً كما هو الحال في تفجير الحديقة المئوية الأولمبية في 27 يوليو 1996، والهجوم على عيادة لتنظيم الأسرة في بروكلين عام 1994، والهجوم الانتحاري على مبنى لإحدى سلطات الضرائب، في تكساس في 18 فبراير 2010، والذي تعاملت معه "فوكس نيوز" وقتها بسخرية، إذ تبنت مزحة النائب الجمهوري "ستيف كينج" حين قال إن الحادث كان يمكن تجنبه إذا اتبعت الحكومة الفيدرالية نصيحته بإلغاء هذا القطاع الضريبي! هذا هو البعد الثالث الذي غاب عن التغطية البريطانية في هذه القضية الشائكة: الإهمال والعجز عن سد جميع الثغرات أمام الإرهاب هو آفة أجهزة الأمن في العالم كله، وهذا هو ما نسميه في التحرير الصحفي "السياق"، الذي نلزم به الصحفيين في تغطياتهم، لأن ما دون ذلك هو اجتزاء وابتسار واقتطاع يحمل غالباً في طياته مقصداً خبيثاً، يهدف للتهويل والتضخيم، وإضفاء طابع التفرد والاستثنائية على الحدث، وكأنه يحدث لأول مرة، ومن ثم يجد رد الفعل المفرط تبريراً لدي الجمهور! هل ينتقي الإعلام الغربي في تغطياته إذن ما يتفق مع هواه؟ هل يسلط الضوء على أمور قد لا تستحق، ويضخمها، ويصرف النظر عن غيرها، لأهداف سياسية غير تحريرية؟ التغطية الغربية للصراعات الدموية وجرائم الإبادة في أفريقيا تقدم لنا الإجابة.. في أواخر التسعينات أدت الحرب في الكونجو إلى مصرع أكثر من 5 ملايين مواطن، معظمهم بسبب المرض والمجاعة، وهو أكبر عدد يفنى في حرب واحدة خلال الخمسين عاماً الأخيرة، لكن الإعلام الغربي تجاهل ذلك، بينما حظي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي باهتمام إعلامي في الغرب يفوق الاهتمام بأفريقيا 50 مرة خلال 20 عاماً (من 1987 إلى 2007)، رغم أن ضحاياه خلال هذه الفترة لم يتجاوزوا 7000 شخصاً من الجانبين.. الحرب في كوسوفو خلفت 2000 قتيلاً، لكنها نالت اهتماماً أكبر وأموالاً أكثر من المساعدات الغربية لكل الدول الأفريقية مجتمعة، خلال نفس الفترة.. الحرب الحدودية بين إثيوبيا وأريتريا أسفرت عن سقوط أكثر من 100 ألف قتيل، لكنها اختفت تقريباً من رادار الإعلام الغربي... الأمثلة لا حصر لها! السؤال ليس فقط عن حجم التغطية، ولكن الأهم هو كيفيتها.. الدراسات الغربية وجدت منذ التسعينيات أن صناع الإعلام في الغرب يميلون دائماً إلى استنساخ وجهات نظر النخب الحكومية في بلدانهم.. هذا ما حدث في الصحافة البريطانية خلال زيارة السيسي، فتسريب مزاعم التفجير بعبوة ناسفة إلى الإعلام من قبل جهات حكومية أعطى الصحف الضوء الأخضر لتوبيخ رموز الدولة المصرية وهم داخل العرين البريطاني.. الصحافتان المصرية والبريطانية ارتكبتا نفس الأخطاء في تغطية هذه الزيارة وما صاحبها من تطورات مثيرة للجدل، الفارق الوحيد نراه فقط في أناقة المخطئ ووعي الجمهور! [email protected] لمزيد من مقالات د.محمد سعيد محفوظ