تعليقاً على نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية فى مصر، قال أحدهم بملء فيه: «اليوم انتصرت 30 يونيو على 25 يناير»، فتذكرت على الفور مقالى الذى نشرته فى الأهرام تحت عنوان «إذا كانت تلك مؤامرة، فإن هذا انقلاب»، والذى نشر فى 23 أغسطس 2014 كتحذير من انفلات عيار الثورة المضادة إلى حد تهديد نسيج المجتمع المصري، بل اختراق خندق 30 يونيو نفسه، ومن ضمن ما جاء فيه «باختصار.. إذا كانت ثورة 25 يناير مؤامرة، فإن 30 يونيو لا يمكن أن يكون إلا انقلاباً، وإذا كان مبارك بريئاً، فإن الشعب المصرى - كله - بالضرورة مذنب..». وأوضحت أن التسلسل المنطقى لنظرية المؤامرة، وصمت القوات المسلحة وأجهزة الأمن المختلفة وسماحها بنجاح المؤامرة، يعنى - بتطبيق نفس النظرية - أن تلك الأجهزة شاركت فى المؤامرة الأولى، ثم واصلت المؤامرة إلى مداها بالسيطرة الفعلية على مفاصل الدولة، بعد أن سمحت بإشاعة جو من الفوضى وانعدام الأمن حتى يسهل تسويق فكرة «الثوار المتآمرين»، وتشويه سمعة «الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية» باعتبارها أدوات التآمر على الدولة المصرية . من ناحية أخرى، أشرت إلى أن الإصرار على إجهاض حمل التغيير الكامن فى أحشاء المجتمع المصري، يعنى نجاح الثورة المضادة مهما حسنت النوايا، ولابد أن ينتبه الشعب المصرى لهذه المحاولات الخبيثة التى تحاول التسلل إلى وعيه وذاكرته كى تشوه لوحة الثورة الدافقة التى حملت الأمل فى غد أفضل، ولا مناص أمام الخلايا الحية من القوى الثورية والشبابية إلا مواصلة التصدى لذلك الهجوم المضاد الذى يستخدم أغلب المنصات الإعلامية، بالإضافة إلى التسريبات غير الأخلاقية وغير القانونية والتى يغلب عليها التزييف أو الاجتزاء من السياق لتلويث السيرة العطرة لطلائع ثورة يناير واغتيالهم معنوياً. وأصبح المشهد يشبه كوميديا سوداء نرى فيها أنه بينما يتوالى خروج رموز الفساد من السجون كى يتمتعوا بما نهبوه من مقدرات هذا الشعب، يتوالى فى نفس الوقت احتجاز الشباب الغض الثائر خلف القضبان باستخدام قانون للتظاهر أجمع كل أهل الفقه ومعهم المجلس القومى لحقوق الإنسان بأنه يؤثر سلبا على الحريات التى كفلها الدستور. وقد اختتمت المقال سالف الذكر قائلاً إنه «إذا تصور أحد أنه بالإمكان حذف ثورة يناير التى ترتبط بثورة30 يونيو ارتباط الأصل بالفرع، فإن سقوط الأصل يعنى سقوط الفرع، ولا أظن أن أحداً يتمنى ذلك..».. ومع ذلك فقد أثبتت الأشهر الماضية أن هؤلاء الذين قامت ضدهم ثورة 25 يناير هم من حشدوا كل قواهم، وساعدتهم ظروف ملتبسة نرى أنه يجب استجلاؤها وتفسيرها، ومنها مثلاً سؤال لا مفر منه وهو «لماذا لم يتم تنفيذ العدالة الانتقالية التى كانت أحد أهم أهداف ثورة 30 يونيو الحقيقية، بل وتم إنشاء وزارة مخصصة لها؟ وبغير جدال يمكن القول بإن تفعيل هذه الآلية القانونية يرتبط بالفترات الانتقالية التى تمر بها الأمم وخاصة بعد الثورات .. وعندما تعطلت هذه الآلية لأسباب غامضة، أسهم ذلك فى إفلات المجرمين من العقاب، حتى وصلنا إلى هذه الحالة الشاذة «عودة أعداء الشعب وأعداء الثورة كى يستردوا مواقعهم فى السلطة باستخدام الأموال التى نهبوها على مدى ما يزيد على 30 عاماً، بينما يقبع شباب الثورة خلف القضبان»... ومن أسف أن أكثر النوافذ الإعلامية وخاصة الفضائيات قد استخدمت كأدوات رخيصة فى يد رموز الثورة المضادة، ولم تعد تلك الوجوه اللامعة من مقدمى البرامج والضيوف تشعر بالخجل من التحدث بصوت «السيد»، الذى هو صاحب المال والدكان، هكذا بلا تزويق ولا تنميق، بل إنهم يرفعون هذا الصوت إلى منزلة التقديس والعصمة، فهو الذى لا يأتيه الباطل من أى اتجاه.. ويكاد هؤلاء لو طلب منهم ذلك أن يرتدوا بدلة الراقصات كى يضيفوا مزيداً من الإثارة على برامجهم « السياسية».. تلك الصفوة المنتقاة تملك بعض المنطق والعلم وطلاقة اللسان، ولديها «الدعم» الدولارى اللازم، ومفتوحة أمامها ساحات الإعلام من فضائيات إلى صحف ومجلات، والكلام عسل مزوق يسيل أمام أحداق منهكة كادحة ليست فى حاجة أساساً إلى أى مقبلات كى تنفتح شهيتها، ويبتلع الناس ما يظنونه طعوماً وهو ليس إلا سموماً، وينتشر صوت «السيد» تدريجياً كى يفقد الشعب ثقته بنفسه، وإيمانه بماضيه وثقافته، وأمله فى المستقبل، وينجح الإعلام الموجه فى أن يحولهم إلى كائنات عابسة فى حقل الكآبة واليأس، كائنات تم تجريدها من هويتها وتبحث من جديد عن ملامح وتاريخ ميلاد وبداية... إنهم يشبهون «مستوطنات فكرية» لا تختلف عن «مستوطنات إسرائيل» التى تشبه الخلايا السرطانية التى تتمدد يوماً بعد يوم، إلا أن مستوطنات إسرائيل ظاهرة فوق الأرض، منتزعة بقوة السلاح والجبر، بعكس مستوطنات النخبة التى تزحف فى هدوء كى تنتزع المزيد من الأرض لفكر الانهزامية والاستسلام الذى يطلقون عليه اسماً مغرياً هو «الواقعية» وأحياناً يلبسونه زى «حماية الدولة» والدفاع عن «القائد». هؤلاء الكهنة عبارة عن «وكلاء بأجر» للسيد، مثل وسطاء عمال التراحيل الذين كانوا يسوقونهم للعمل سخرة فى حقول السادة، ومن صفات هذا النوع من الوكلاء أنهم أشد بطشاً على العبيد من السادة، وأن لديهم إخلاصاً غير مأمون لسادتهم، حيث يتبدل ولاؤهم بتبدل السادة. وحيثما وجدت السلطة وجد السيد وحيثما وجد المال أيضاً .. هكذا انتصرت 30 يونيو أخيراً ، حين تتصدر أحزاب اليمين الرأسمالية قائمة الأحزاب التى فازت فى الانتخابات، فى تحد لأى منطق أو مفهوم سياسى صحيح، فكيف يستقيم منطقاً فى مجتمع فقير معدم، أن يصوت لأحزاب تسعى لحماية الأثرياء وتحصينهم من أى تشريعات قد تنتقص من ثرواتهم وامتيازاتهم مثل سن ضرائب تصاعدية (تطبيقاً للدستور نفسه) أو تهدد ما نهبوه بأى إجراءات اقتصادية تهدف لحماية الفقراء .. إن القراءة الصحيحة لنتيجة انتخابات المرحلة الأولى تؤكد بالفعل أن 30 يونيو - كما فهمتها قوى الثورة المضادة - قد انتصرت ، وأن 25 يناير - كما فهمها شعب مصر ووضع شعارها العفوى فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية - قد انتكست، وهكذا لا يكون أمام المؤمنين بمبادئ وأهداف ثورة 25 يناير سوى أن يزيلوا آثار النكسة ويحرروا أرض مصر الطاهرة من قطعان الفساد والمحاسيب الذين يحتفلون الآن فى كل مكان بانتصارهم على الفقراء والشهداء، أو بانتصار الماضى وهزيمة المستقبل . لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق