في الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائي، يقدم المخرج محمد صيام أول أفلامه الروائية الطويلة «كولونيا»، بعد مسيرة وثائقية حافلة في أفلام مثل «أمل» و«البحث عن النفط والرمال»، وقد مثل الفيلم انتقالة نوعية في مسيرته، من الواقعية التسجيلية إلى فضاء الدراما الروائية المكثفة، محتفظًا في الوقت نفسه بذلك الحس التوثيقي الحاد تجاه التفاصيل الإنسانية. الفيلم من بطولة أحمد مالك في دور الابن، وكامل الباشا في دور الأب، ومعهما مايان السيد، دنيا ماهر، هالة مرزوق، وعبيد عناني. تدور الأحداث في ليلة واحدة فقط، في شقة صغيرة تكتظ بالذكريات، حين يجد الأب والابن نفسيهما مجبرين على مواجهة ماضٍ طويل من الجفاء وسوء الفهم. في زمنٍ تميل فيه السينما المصرية إلى الصخب أو التزويق الاجتماعي، يختار محمد صيام أن يغوص في أكثر المواضيع هشاشة وصمتًا: العلاقة بين الأب والابن. ليست علاقة درامية تقليدية؛ بل مواجهة وجودية بين جيلين، بين رجل يرى في ابنه استمرارًا لأخطائه، وشاب يرى في أبيه جدارًا من الجفاء والسلطة. يُبنى الفيلم على فرضية بسيطة: ليلة واحدة تجمعهما، لكن ما يُقال خلالها يكشف عقودًا من المسكوت عنه. هنا تكمن قوة الفكرة: استخدام الزمن المحدود كمسرح لزمنٍ داخلي أطول. إنها أشبه بمحاكمة متبادلة، أو طقس اعتراف متأخر، يتصارع فيه الماضي مع الحاضر على أنقاض العلاقة الإنسانية. ومع ذلك، لا يسعى الفيلم إلى الحل أو الخلاص؛ بل يترك الصمت يشتغل، ليصبح هو اللغة الثالثة بينهما. الصمت في «كولونيا» ليس فراغًا، بل ضجيجًا مؤجلًا — ضجيج ما لم يُقل. السيناريو الذي كتبه محمد صيام بنفسه يلتزم بوحدة الزمان والمكان، ما يمنح الفيلم توترًا داخليا مستمرًا، لكنه في الوقت نفسه يضعه أمام تحد كبير: كيف يحافظ على الجاذبية الدرامية دون تنوع مكاني أو زمني؟ نجح صيام إلى حد بعيد في تحويل الحوار إلى سلاح بصري، فكل جملة بين الأب والابن تُشعل مشهدا، وكل تذكير بماضٍ غامض يفتح جرحا جديدا. لكن بعض المقاطع طالت أكثر من اللازم، ما جعل الإيقاع يهبط أحيانا،خصوصا في منتصف الفيلم. ورغم تلك الملاحظات، يبقى السيناريو متماسكا، مع نهاية مفتوحة تُثير التساؤل لا الراحة، وتترك المتفرج في مواجهة ذاته: هل نملك الوقت أصلًا للمصالحة مع مَن نحب، أم أن اللحظة دائمًا تأتي بعد فوات الأوان؟ يُعد الأداء الركيزة الأهم في «كولونيا». فالمواجهة النفسية بين كامل الباشا وأحمد مالك تذكرنا بمسرحيات الغرفة المغلقة التي تُختزل فيها الحياة إلى حوار متوتر بين شخصين. كامل الباشا، الحائز على جائزة أفضل ممثل من مهرجان فينيسيا سابقًا، يقدم هنا شخصية الأب المنكسر، بصوتٍ ثقيل يختزن وجعًا قديمًا. ورغم أن لهجته المصرية بدت متعثرة أحيانًا، فإن حضوره الطاغي يعوض ذلك، ويمنح الشخصية صدقًا لا يخلو من قسوة. أما أحمد مالك، فيواصل تطوره كممثل يمتلك أدوات داخلية ناضجة. يُجيد كتم الانفعال، ويعبر بعينيه أكثر مما يقول بلسانه. يتحول في بعض اللحظات إلى مرآة لوالده: كل حركة، كل زفرة، تذكّرنا بأن الصراع بينهما ليس إلا صراعًا مع الذات. الأداءان معا يصنعان ما يمكن تسميته ب«الكيمياء المؤلمة» — تلك اللحظات التي لا تعرف فيها إن كنت تشفق على الأب أم على الابن، لأن كليهما ضحية الآخر. يأتي الإخراج ليُعيدنا إلى روح محمد صيام الوثائقية، لكن هذه المرة في خدمة الدراما. الكاميرا قريبة، خانقة أحيانًا، تتحرك ببطء بين الوجوه والأشياء القديمة في البيت كأنها تبحث عن ذاكرة ضائعة. لا استعراض بصري هنا، بل حس واقعي يلامس القسوة. اختيار التصوير في مكان مغلق أغلب الوقت يجعل الإضاءة والموسيقى عنصرين حاسمين في خلق الإحساس بالاختناق. الإضاءة الخافتة، التي تميل إلى العتمة الزرقاء، ترسم ملامح الليل كفضاء نفسي أكثر منه زمني. أما الموسيقى (من تأليف ليال وطفة) فتعمل كهمسٍ داخلي يربط المشاهد بالجانب العاطفي المكبوت للشخصيات. بذلك، ينجح صيام في الحفاظ على التوازن بين الصدق الواقعي والبعد الشعري، بين التوثيق والإحساس السينمائي. إنه فيلم يعتمد على التفاصيل الصغيرة: لمسة، نظرة، أو صورة لمرآة قديمة تختزل ماضيًا بأكمله. أحد أكثر الجوانب التي أثارت الجدل حول «كولونيا» هو إيقاعه البطيء. بعض المشاهدين اعتبروا هذا البطء نقطة ضعف تُدخل الملل، بينما رأى آخرون أنه جزء من فلسفة الفيلم. فمحمد صيام لا يسعى إلى إثارة سريعة، بل إلى بطءٍ محسوب يجعل المشاهد يعيش الزمن الحقيقي للألم. في عالمٍ يلهث خلف السرعة، يأتي «كولونيا» كفيلمٍ يقف على الأطلال، يتأمل الخراب الداخلي ببطءٍ مؤلم. الزمن هنا لا يُقاس بالدقائق، بل بالذكريات التي تتسرّب بين الكلمات. ومع أن ذلك الاختيار يحمل مخاطرة، إلا أنه يمنح الفيلم تفرّدًا وسط سيل الأفلام السريعة الإيقاع التي تفقد عمقها لحساب التشويق السطحي. العنوان «كولونيا» ليس عابرًا ، هو استعارة رمزية عن الرائحة التي تبقى بعد رحيل الأشياء — تمامًا كما تبقى الذكريات بعد رحيل الحب أو الغفران. إنه فيلم عن الذاكرة olfactory، حيث تتحول الأشياء اليومية (العطر، الأثاث، صوت المروحة) إلى علامات على ما تبقى من حياةٍ ماضية. البيت نفسه يتحول إلى «متحفٍ للوجع»، تُطل منه الكاميرا على عالمٍ ينهار بهدوء. تتكرر اللقطات التي تظهر فيها المرايا أو الزجاج المشروخ، كدلالة على انقسام الهوية بين الماضي والحاضر، وبين ما نُظهره وما نخفيه. بهذا الحس الرمزي، يقترب صيام من المدرسة الواقعية الشعرية التي تجمع بين التوثيق والرؤية الفلسفية، دون أن تفقد إنسانيتها. ما يميز «كولونيا» هو أنه فيلم مصري جدًا في تفاصيله، لكنه إنساني في جوهره. قد نرى فيه أبًا وابنا من القاهرة، لكن يمكن لأي مشاهد في العالم أن يرى نفسه فيه. إنه فيلم عن الفقد والندم والذكريات التي لا تموت — موضوعات تتجاوز الجغرافيا لتصل إلى ما هو كوني. كما أن الجرأة الإنتاجية في تقديم فيلم يعتمد على ممثلَين ومكان واحد فقط، تُعيد إلى الأذهان أعمالًا عالمية مثل Before Sunset أو The Father، ولكن بلغة مصرية خالصة. في المحصلة، يُقدم محمد صيام في «كولونيا» عملًا متقشفًا من حيث الشكل، غنيا من حيث الجوهر. إنه فيلم عن الندم المؤجل، وعن العلاقة المستحيلة بين رجلين يلتقيان فقط حين يفوت الأوان. إيجابياته واضحة: * صدق الأداء الإنساني بين الباشا ومالك. * التوظيف الذكي للمكان والزمن كعناصر درامية. * الحس البصري الوثائقي الذي يخدم الصراع الداخلي. أما ملاحظاته النقدية فتتمثل في: * بطء الإيقاع في منتصف الفيلم. * بعض المشاهد الجانبية غير المبرّرة دراميًا. * ضعف توظيف بعض الشخصيات الثانوية. ومع ذلك، يبقى الفيلم خطوة شجاعة في السينما المصرية المستقلة، ودليلًا على أن الدراما النفسية الهادئة لا تزال قادرة على أسر الجمهور، متى ما قُدمت بصدق. حين تنتهي مشاهدة «كولونيا»، لا تشعر أنك شاهدت قصة، بل أنك عشت ذكرى. الفيلم يترك فيك رائحة خفيفة — مثل عطر قديم انسكب على معطفٍ نسيه أحدهم في الماضي. إنه فيلم عن الوقت الذي يُفلت من بين أيدينا، وعن الكلمات التي لم تُقل، وعن تلك اللحظة التي نكتشف فيها أن المصالحة لا تأتي دائمًا في الوقت المناسب. بهذا المعنى، يُمكن القول إن محمد صيام قدّم عملًا شخصيًا، صادقًا، ومُحمّلًا بجرأةٍ فنية تُبشّر بمخرجٍ يملك صوته الخاص، وصبره على بطء الحكاية، وإيمانه بأن السينما ليست حكاية تُروى، بل جرح يُرى.