فقدت الصحافة العربية وفقدت الأهرام واحد من أكثر ابنائه كفاءة وموهبة فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى . صدمت بالخبر الحزين الذى نشر بالصفحة الأولى من أهرام يوم الاثنين الماضى وأنا خارج مصر . كان الصديق الراحل واحدا من أبناء جيل الستينيات فى القرن الماضى، وقد شارك فى تحديث الأهرام لتصبح واحدة من أهم عشر صحف فى العالم بثقافته الموسوعية ومتابعته لكل جديد فى الصحافة العالمية وعلاقاته داخل مصر وخارجها بزعماء العالم وبصناع القرار خاصة فى الولاياتالمتحدة وعدة دول إفريقية . كان محمد حقى أول ملحق صحفى فى واشنطن بعد تخرجه فى قسم الأدب الانجليزى بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1955 ثم نقل بعد أربع سنوات للعمل ملحقا فى غانا بغرب إفريقيا، ومن هناك كان يتنقل بين دول إفريقيا ليتعرف على قادتها وعلى زعمائها وكبار السياسيين، فقد شهدت أواخر الخمسينيات والستينيات اهتماما كبيرا من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بالقارة الإفريقية. ولم يكن الأستاذ هيكل بعيدا عن التقارب المصرى الإفريقى، فبعد عامين من رئاسته للأهرام وقع اختياره على الأستاذ محمد حقى الذى كان عائدا من غانا ليعمل رئيسا للقسم الخارجى بالأهرام، وبعد شهور من التحاقه بالأهرام أرسله الأستاذ هيكل مراسلا متجولا فى دول القارة ليكتب ويتعرف ويتعلم. وخلال مهمته التى استمرت أربعة أشهر بعث محمد حقى بسلسلة من التحقيقات الصحفية والدراسات عن إفريقيا وقام بتغطية أهم أحداث القارة وكان من بينها الحرب الأهلية فى الكونجو ومقتل باتريس لومومبا وأيادى الاستعمار الخفية فى تلك الجريمة. وكان ل «الأهرام» السبق والتفوق على جميع الصحف فى تغطية أحداث القارة الإفريقية. فى منتصف السبعينيات انتقل حقى ليعمل بالبنك الدولى مسئولا عن الاعلام فى قسم الشرق الأوسط، ثم اختاره وزير الخارجية إسماعيل فهمى وزيرا مفوضا إعلاميا فى واشنطن، ومن هناك التقى بالرئيس الراحل أنور السادات خلال إحدى زياراته للعاصمة الأمريكية، ثم وقع عليه الاختيار متحدثا رسميا للرئاسة خلال مباحثات كامب دافيد، ثم عاد الى القاهرة رئيسا للهيئة العامة للاستعلامات، وكان من الطبيعى أن يختلف مع صفوت الشريف وزير الاعلام القريب من الرئيس السابق حسنى مبارك، فقدم استقالته رافضا العمل والتعاون معه بعد أسابيع من اغتيال الرئيس أنور السادات، وعاد ضد إرادته الى واشنطن . ينتمى محمد حقى الى أسرة ضمت عشرات المثقفين والأدباء فعمه الأديب الراحل يحيى حقى وعمه الآخر الفنان والمثقف موسى حقى أول عميد لمعهد السينما، وقد اكتسب بمعايشته منذ طفولته لهذا المناخ الثقافى أسلوبا أدبيا راقيا فى كتاباته السياسية. أما والده فكان رئيس المترجمين فى الديوان الملكى قبل ثورة 52 وكان يتقن خمس لغات، ويبدو أن حقى ورث عن والده هذا العشق للغات الأجنبية فكان يعد واحدا من أشهر من يجيدون اللغة الانجليزية . وقد ربط بين الوالد والابن نوع نادرمن الصداقة الحميمة والحب العائلى الذى لم يعد له وجود فى هذا العصر ، فكان الأب يزور الابن كل ثلاثاء ويصعدان الى كافيتريا الأهرام ليتناولا الغداء معا وكنت أسمع ضحكاتهما تجلجل فى أركان المطعم . هذا الوجه الجميل الذى ترتسم عليه الابتسامة وتجذب ضحكاته ودعاباته أى شخص ليقترب منه ويصادقه يوحى لمن لايعرفه بأنه ينتمى الى طبقة الأثرياء الأرستقراطيين، لكن واقع محمد حقى الإنسان المثقف الوطنى العاشق لمصر وترابها كان عكس ذلك تماما. فكما كان يرتاد الصالونات يلتقى كبار السياسيين والمثقين كان أيضا يزور الأحياء الشعبية يلتقى زملاء الدراسة ممن عايشهم فى الماضى بمدرسة المحمدية الابتدائية بالحلمية الجديدة .عاش حقى بسيطا محبا للجميع وكان من الصحفيين من أبناء جيله ممن لديهم حصانة ضد الكراهية والأحقاد . تحدثت معه تليفونيا فى شهر مارس الماضى من مونتريال وهو يصارع المرض ويعانى الغربة وكان يأمل أن يتمكن من أن يعود الى القاهرة ويبقى يواصل العلاج فى مصر، لكن أمنيته لم تتحقق للأسف .كان يعانى الاكتئاب بعد أن سقطت كل أوراق شجرة الأصدقاء المصريين فى واشنطن وكان آخرهم الدكتور رشدى سعيد أستاذ أساتذة الجيولوجيا وصاحب أشهر كتاب عن نهر النيل الذى ما أحوجنا الى أفكاره ونصائحه الآن . مات محمد حقى وحيدا فى غربته فى أرض باردة سياسيا ومناخيا بعيدة عن وطنه الحبيب بأحد البيوت المخصصة للمرضى من كبار السن. يبدو أن الموت أصبح قريبا منا أكثر مما توقعنا ليس فقط بحكم العمر ولكن المناخ السياسى فى عصر العولمة وثورة الاتصالات والوجبات السريعة أسقط أيضا معظم أوراق شجرة أصدقائى فى القاهرة. تكررت فى السنوات الأخيرة زياراتى لمساجد عمر مكرم والحامدية الشاذلية ومسجد الشرطة بمدينة نصر أكثر من حضورى لحفلات الزفاف، وتعددت زيارة المقابر لدفن الراحلين وهناك يشارك الأحياء الموتى فى الاقامة دون خوف . فقد الموت رهبته وهيبته ولم نعد نخشاه. سرادقات العزاء تحولت الى جلسات للحديث فى كل شيء بين الرجال. رحم الله الصديق العزيز محمد حقى الذى أعطى الكثير لوطنه وللصحافة المصرية ولم يأخذ إلا القليل . لمزيد من مقالات مصطفى سامى