«الجودة.. صناعة الثقافة.. المنتج التعليمى والصحى.. المستهلك للمنتج الخدمى.. جلسات إسداء المشورة». تعبيرات جديدة أصبحت تتردد فى حواراتنا اليومية وفى أروقة الوزارات والمؤسسات، فهل تندرج تلك الكلمات تحت قائمة الكلمات المستحدثة على لسان الأبناء فى سياق ابتكارهم تعبيرات تشى بدلالات بعينها من قيبل «أشم الرصيف أو التراب» كناية عن الخروج للطريق (!!) أم أنها ترجمة حرفية لنظريات ظهرت بالخارج ولا تمت لواقعنا بشيء، أم أنها كلمات لا تعكس فقط تغيير الممارسات فى المجتمع بل أيضا تعتبر أداة تدفع بالمجتمع فى طريق تغيير المعتقدات والعلاقات والهويات الاجتماعية، بغض النظر عن تقييم اتجاه هذا التغيير سلبا أو إيجابا؟! بتعبير أوضح هل يمثل التغيير فى استخدام اللغة شكلا من أشكال التغيير الاجتماعى والثقافى؟ وهل يمكن استخدام التحليل اللغوى باعتباره منهجا لدراسة التغيير الاجتماعى؟! سؤال فرض نفسه بقوة منذ سبعينيات القرن الماضى عندما بدأ المتخصصون فى علوم اللغة والاجتماع البحث فى إذا ما كان ثمة ارتباط بين طرق التعبير والتغيرات الثقافية والاجتماعية فى المجتمعات.. فى هذا السياق عرضت فى منمنمة سابقة لدراسة «الازدواجية اللغوية والتخلف النفسانى» للباحث التونسى محمد الذوادى أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونسالتى تناول فيها اللغة كمؤشر للتخلف الثقافى والنفسي. وفى دراسته القيمة أوضح الباحث أن أى فهم لعملية التنمية فى المجتمعات النامية يبقى قاصرا إن لم يأخذ بالحسبان البعد المعنوى المتمثل فى المستوى الثقافى والنفسى لشعوب العالم الثالث وانعكاساته على قضايا التنمية، مشيرا إلى انعكاس التخلف الثقافى فى ظواهر تهميش اللغة الأم وتراجع الزاد المعرفى الذاتى فى العلوم التطبيقية والإنسانية، فى مقابل الاعتماد على الزاد المعرفى الغربي، مع تهميش وإقصاء القيم الذاتية الأصيلة.. ولقد أوضح الباحث مستويات التخلف الثقافى والنفسى ومدى ارتباطها باللغة وحددها فى ثلاثة هى تراجع استعمال لغة المجتمع الوطنية وإقصاؤها من الاستعمال فى مجتمعات العالم الثالث، وانتشار استخدام لغة أجنبية بدلا من اللغة الأم فى كثير من الميادين، مشيرا لمنافسة اللغة الفرنسية للغة العربية فى المغرب العربى، أو إقصاء الإنجليزية للغة الضاد من الحضور فى المجتمعات العربية الخليجية، ويتجلى المستوى الثانى للتخلف الثقافى فى اعتماد مجتمعات الوطن العربى و دول العالم الثالث على الزاد المعرفى الغربى فى العلوم التطبيقية والإنسانية. بينما يتجلى المستوى الثالث فى تشوش منظومة القيم إما بالتلاشى الكامل أو بدخولها فى صراع مع القيم الغربية الغازية وبالتالى تهميش وإقصاء القيم الأصيلة (الذاتية) والتى تحمل بداخلها بشائر نهضة تلك المجتمعات. كذلك فقد تناولت عدة دراسات أطروحة ارتباط الهوية باللغة فى قارة إفريقيا، موضحة أن التعددية فى الهوية ترتبط ارتباطا وثيقا باستخدام اللغة. وفى كتابه الخطاب والتغيير الاجتماعى الذى نقله للعربية شيخ المترجمين المعاصرين د. محمد عنانى يقدم نورمان فيركليف بعدا جديدا عمليا فى دراسة جوانب التغيير فى استخدام اللغة وارتباطها بالتغيير الثقافى والاجتماعي، من خلال تبنيه مدخلا للتحليل اللغوى يجمع بين مناهج التحليل اللغوى التى وضعت فى إطار علم اللغة ودراساته وبين الفكر الاجتماعى والسياسى المرتبط ببناء نظرية اجتماعية للغة للتغلب على عيوب شابت مباحث سابقة هيمنت فيها النماذج الشكلية على علم اللغة وعدم التوازن بين العناصر اللغوية والاجتماعية.. فى البداية يقدم الباحث خلفية تاريخية يستعرض فيها المحاولات السابقة للجمع بين الدراسات اللغوية والنظرية الاجتماعية ومنها محاولة مجموعة من علماء اللغة البريطانيين فى سبعينيات القرن الماضى بناء مبحث يسمى علم اللغة النقدى من خلال الجمع بين نظريات ومناهج تحليل علم اللغة وبين نظريات الأيديولوجيا، التى يشير إلى أنها وإن تميزت بنضج التعامل مع النصوص اللغوية تفتقر لنظرية اجتماعية ولا تولى اهتماما كافيا بمفهومى السلطة والأيديولوجيا. فى هذا السياق يعرض الكاتب إلى أطروحات «أنطونيو جرامشي» و«لويس التوسير» و«وميشيل فوكوه» و«يوجين هابرماس» و«انطونيو جيدينز». ويشير الكاتب إلى محاولة الفرنسى «ميشيل بيشوه» وضع منهج لتحليل الخطاب استنادا إلى ما أنجزه عالم اللغة «زيليج هاريس» لنظرية الأيديولوجيا الماركسية طبقا لصياغة «التوسير» موضحا أن هذه التجارب عندما تبدو فيها النظرية الاجتماعية ناضجة مفصلة تكون المعالجة اللغوية بالغة الضيق والعكس صحيح، الأمر الذى لا يناسب البحث فى ديناميكية اللغة ولا عمليات التحول الاجتماعى والثقافى.. وللحديث بقية.. http://[email protected] لمزيد من مقالات سناء صليحة