المستشارة الحديدية واقوى امرأة فى العالم والتى تحكم ألمانيا منذ عشر سنوات تمر حاليا بتجربة جديدة عليها داخليا. فاستطلاعات الرأى المختلفة تشير إلى تراجع شعبيتها بين الناخبين الألمان لاول مرة بمعدل بطيء، ولكنه مستمر! والسبب ازمة اللاجئين الذين يتدفقون على اوروبا قاصدين الدول الغنية فى وسط وشمال القارة وفى مقدمتها المانيا. ويبدو ان هناك قطاعا كبيرا من الألمان بدأ يتململ من سياسة الترحيب التى تنتهجها حكومة ميركل. مبررة ذلك بالمسئولية الأخلاقية لمساعدة اللاجئين وخاصة السوريين تارة، وبحاجة المانيا للمهاجرين على المدى البعيد تارة أخرى، وذلك للحفاظ على التوازن فى سوق العمل بين المتقاعدين والداخلين إليها فى ظل شيخوخة المجتمع الألماني. غير ان خوف المان كثيرين من فتح ابواب المانيا هكذا امام طوفان اللاجئين الذين سيصل عددهم خلال العام الحالى وحده إلى مليون لاجئ وفقا لأحدث التوقعات، يزداد يوما بعد يوم. خاصة ان أكثر من نصف القادمين تقريبا غير مؤهلين اساسا، لامهنيا ولا تعليميا للإندماج السريع فى مجتمع مثل المجتمع الألمانى وبالتالى قد يتحولون سريعا إلى عالة على الدولة ودافعى الضرائب الألمان ويعيشون فقط من المساعدات الإجتماعية! وتكشف الأرقام الرسمية عن ان نصف اللاجئين القادمين هم من دول البلقان ويقومون بتحويل جزء كبير من المساعدات الشهرية التى يحصل عليها الفرد منهم وهى قرابة 500 يورو (140 يورو مصروف جيب و360 تقريبا للغذاء والملبس إلخ) لإعالة اسرهم فى صربيا ومقدونيا والبوسنة مثلا، وهو مبلغ لايكفى طبعا متطلبات الحياة الاساسية لشخص يعيش فى المانيا ولكنه يعادل الدخل الشهرى لأسرة كاملة فى هذه الدول الفقيرة. ورغم ان حكومة انجيلا ميركل اتخذت قرارات تيسر رفض طلبات لاجئى البلقان وترحيلهم إلى بلادهم وتحويل المساعدات النقدية إلى عينية وغيرها من الإجراءات لجعل المانيا اقل جاذبية لهم والتركيز على لاجئى الحرب السوريين والعراقيين والأفغان فإن ذلك لم ينعكس بعد بشكل ملموس على ارض الواقع. يضاف إلى ذلك المخاوف التى تثيرها تيارات اليمين المتطرف واحزابه وايضا عدد كبير من السياسيين المحافظين من التأثيرات السلبية للمسلمين القادمين بثقافة غربية على المجتمع الألمانى تحمل فى طياتها بذور التطرف الدينى كما يروج هؤلاء، مشيرين ايضا إلى مصاعب إندماج الأتراك فى المجتمع الألمانى فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ولتوضيح الفجوة التى تفصل بين المستشارة الألمانية وبين طريقة تفكير قطاعات كبيرة من الألمان حاليا نشير إلى ردها المثير للجدل الذى قدمته قبل اسابيع قليلة اثناء منحها الدكتوراة الفخرية فى برن السويسرية. فقد سألها بعض الحاضرين عن كيفية تعاملها مع خوف المواطنين من اسلمة اوروبا؟ فقالت ان عددا كبيرا من مقاتلى داعش فى سوريا والعراق يأتون من اوروبا نفسها، وهو امر لا يمكن تجاهله وكأنها ليست مشكلتنا! وسئلت ميركل كيف تعتزم حماية اوروبا وثقافتها من المسلمين؟ ففاجأت الجميع برد غير متوقع مطلقا عندما قالت: "نحن كأوروبيين لدينا كل الحرية للتمسك بديانتنا المسيحية وممارستها طالما نؤمن بها. وما افتقده حقيقة، ليس هو ان ننتقد المسلمين ونتهمهم لأنهم يعترفون بعقيدتهم الإسلامية ويتمسكون بها، ولكن يجب ان تكون لدينا نحن ايضا الشجاعة لنقول نحن ايضا مسيحيون! وإذا طلبت من الناس فى المانيا ان يكتبوا موضوعا عن عيد مسيحى مثل عيد العنصرة وستجد معلوماتهم عن ثقافتنا المسيحية الغربية متواضعة! ولكن ان نشكو بعد ذلك ان المسلمين يفهمون دينهم ويعرفون عن القرآن اكثر منا، فهذا امر غريب! وربما يدفعنا ذلك لكى نهتم بجذورنا المسيحية ونتعرف عليها اكثر، ولذلك اقول بصفنتى مستشارة لألمانيا انه لايوجد لدينا اى مبرر لكى نكون متكبرين!" وبقدر ما تواجه انجيلا ميركل حاليا سواء فى الإعلام او من داخل حزبها المسيحى الديمقراطى نفسه إنتقادات بسبب تصريحاتها الداعية للتعاطف مع اللاجئين وتفهم دوافع لجوئهم وقدرة المانيا على إستيعابهم، فقد قوبلت تصريحاتها الخاصة بالمسلمين والثقافة المسيحية الغربية بتجاهل تام هنا! وتعكس إستطلاعات الرأى الأخيرة ذلك بوضوح ، فقد تراجعت ميركل حسب مجلة «دير شبيجل» فى ترتيب اكثر السياسيين شعبية فى المانيا إلى المرتبة الرابعة بعد وزير الخارجية شتاينماير الذى تصدر التريب وبعد شويبلة وزير المالية وحل الرئيس الألمانى جاوك ثالثا. كما انخفضت نسبة الالمان الذين يرون انها الأجدر بالثقة بين السياسيين من 32% إلى 24 % فى شرق البلاد خصيصا، حيث اليمين المتطرف المعادى للاجانب والمسلمين اكثر تأثيرا. ولخصت ايريكا شتاينباخ المسئولة عن حقوق الإنسان فى حزب ميركل الموقف من المستشارة بجملة واحدة عندما قالت ان سياستها جعلت الحياة اكثر تعقيدا فى المانيا وان الناس ينتظرون منها ان توقف تدفق المزيد من اللاجئين على بلادنا! فى ضوء ما سبق بدأ المراقبون يتحدثون عن بداية تراجع ميركل داخليا وان هذا التراجع سيستمر حتى الإنتخابات البرلمانية خلال عامين من الآن وان المستشارة ربما بدأت فى الإعداد للمحطة القادمة بعد مغادرة المستشارية وهى منصب الأمين العام للأمم المتحدة خلفا لبان كى مون! وربما ما ادى إلى إشتعال بورصة التكهنات هذه وجود ميركل فى نيويورك على هامش اعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة للمشاركة فى قمة الإستدامة فى زيارة استغرقت 3 ايام وتعد من اطول زيارات ميركل الخارجية. وزاد منها ما تحصده ميركل حاليا من ثناء وإشادة دولية لسياستها فى التعامل مع ازمة اللاجئين وخطابها العالمى الداعى لمواجهة الفقر وتضافر الجهود لتحسين عالمنا وتغييره إلى الأفضل فضلا عن جهودها فى ملف تغيير المناخ. ومما ساهم ايضا فى الإعتقاد بأن نيويورك ربما تكون محطة ميركل المقبلة تصريحها الشهير لمقربيها بانها تريد ان تتخذ بنفسها قرار التخلى عن منصبها وتوقيته ولا تريد ان ترحل بسبب الخسارة فى الإنتخابات او ان تجبر على الإستقالة! يضاف إلى ذلك ان اسمها طرح فعلا من قبل حملة "سيدة كأمين عام الأممالمتحدة" التى انطلقت فى بدايات العام الحالى وتطالب بعد ثمانية رجال على رأس المنظمة الدولية ان يكون الدورالآن على شخصية نسائية بعد ان تنتهى فترة بان كى مون فى نهاية العام المقبل، وتعتبر انجيلا ميركل على رأس المرشحات وبينهن ايضا كرستين لاجارد وكاثرين آشتون، فضلا عن توقيع اربعين دولة على نداء مماثل اطلقته دولة كولومبيا. طبعا الوقت لا يزال مبكرا وربما تتمكن المستشارة من تحويل الدفة مرة أخرى لصالحها داخليا إذا ما تمت السيطرة على ازمة اللاجئين اوروبيا وبسياسات جريئة وشفافة على الصعيد الداخلي. ولكن الأمر المؤكد ان ميركل تحظى كما تقول صحيفة «بيلد» الألمانية واسعة الإنتشار هنا بكل مقومات المنصب العالمي، وستحصل بسهولة على اغلبية الثلثين من اصوات الدول الأعضاء فى الجمعية العامة إذا ما تم التصويت عليها، ولربما تكون الإشكالية عندئذ هى إتفاق الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن عليها كمرشح وخاصة روسيا بوتين التى قد تعارض ذلك ردا على موقف المانيا من الأزمة الأوكرانية.