مع تطور الحرب الدائرة على الأراضى السورية لم يكن أمام البشر سوى الهروب من وطن لم يعد آمنا لهم. بداية كان اللجوء إلى دول الجوار فاستقبلت تركيا 1.9 مليون ولبنان 1.2 مليون، والأردن 1.4 مليون ومصر 133 ألفا. ومع زيادة وتيرة الخوف وتصاعد الاقتتال ومع تشبع دول الجوار باللاجئين وسوء الأوضاع الاقتصادية في أغلبها بالأساس توجهت أنظار السوريين غير الآمنين الى أوروبا، ومن ثم تحرك سماسرة الهجرة ومتخصصو نقل المهاجرين عبر المتوسط في نقل عشرات الآلاف من السوريين الى أوروبا في رحلات شاقة ومميتة في كثير من الأحيان وعبر قوارب الموت. وتشهد أوروبا الآن حالة تأهب قصوى على المستويين الرسمي والشعبى. شعبيا، أثارت صورة الطفل إيلان الغارق على شواطئ تركيا أثناء رحلة هروبه وعائلته نحو مستقبل أفضل في أوروبا مشاعر الأوروبيين وحركت دعوات وضغوطا على الحكومات الأوروبية للقيام بواجبهم الإنسانى والقانونى لمساعدة هؤلاء اللاجئين. ورسميا، وجدت الحكومات الأوروبية نفسها فجأة امام أزمة توافد مئات الآلاف بصورة متسارعة وقوية لا يمكن ايقافها بكل ما تحمله من تهديدات اقتصادية وثقافية وأمنية لها. ثلاث محطات إن الطريق من سوريا الى أوروبا يمر بثلاث محطات أساسية، تعتبر كل محطة منها إشكالية في حد ذاتها. المحطة الأولى، لأن المجتمع الدولى والدول الكبرى التي تتعامل مع الأزمة السورية لم يقوما بدورهما في توفير طرق آمنة ووسائل نقل آمنة للسوريين سواء من الشواطئ السورية على المتوسط أو من مخيمات اللاجئين داخل الحدود التركية، قام السوريون بالبحث عن مهربين لترتيب عملية نقلهم إلى أولى محطاتهم الى أوروبا أو تركيا أو الجزر اليونانية في مقابل مبالغ كبيرة. وتعتبر جزيرة كوس اليونانية هي أكثر المناطق استقبالا لأفواج اللاجئين السوريين. والحكومة اليونانية غير قادرة وغير راغبة في إقامة نظام استقبال فعال، على الرغم من المساعدات المالية التي يعرضها الاتحاد الأوروبى لذلك. أما المحطة الثانية فهى دول أوروبا الشرقية أو الوسطى، حيث إن المهاجر السورى فى طريقه للوصول إلى دول غرب وشمال أوروبا يمر بدول مثل مقدونيا وصربيا والمجر وسلوفاكيا بالإضافة إلى الدنمارك معبر شمال أوروبا. وفى الواقع اللاجئون لا يرغبون فى الإقامة بها نظرا لسوء قوانين وسياسات التعامل مع اللاجئين فى هذه الدول. وهو ما يجعل صعوبة هذه المرحلة تكمن فى سوء معاملة السلطات داخل هذه الدول وغلق الحدود ومنعهم من ركوب القطارات للانتقال إلى محطاتهم الأخيرة مما يضطر آلاف من المهاجرين لعبور الحدود سيرا على الأقدام فى أحيان كثيرة. وتعد المحطة الثالثة والأخيرة هى الدول التى يطمح السوريون للجوء اليها وتأتى على رأسها ألمانيا ثم السويد ثم فرنسا. وتعد أهم المشكلات التى تواجه اللاجئ السورى بعد وصوله إلى وجهته الأخيرة هى الحصول على تصريح اللجوء والاقامة وعدم ترحيله إلى أول دولة تم تسجيله وأخذ بصمته فيها وفقا لاتفاقية دبلن، وهو الأمر الذى يؤدى بالبعض إلى حرق ايديهم احيانا لطمس بصماتهم أو حتى التهديد بالانتحار. اختبار صعب تعد أزمة اللاجئين اختبارا صعبا يواجه أوروبا من شأنه أن يكشف عن تباينات جمة داخل القارة المتحدة. ففى خلال الأيام الأخيرة، شهدت أوروبا لقاءات عديدة على مستوى ثنائى وجماعى بهدف إيجاد صيغة متفق عليها فى قضية التعامل مع الزحف البشرى الهائل القادم من الشرق الاوسط. لكن المؤشرات المبدئية والتصريحات الرسمية تشير إلى أن التوافق على استراتيجية موحدة أمر مستبعد إلى حد كبير. المواقف الداعمة لاستقبال اللاجئين تأتى ألمانياوالسويد فى مقدمة الدول المستهدفة من اللاجئين، ويعود ذلك ليس فقط لتحسن الاوضاع الاقتصادية ومن ثم المعيشية فى الدولتين، ولكن لأن الدولتين تتخذان موقفا مؤيدا ومرحبا لاستقبال اللاجئين السوريين وتشير الأرقام إلى أن السويدوألمانيا تلقتا 56 % من جميع طلبات اللجوء الجديدة للسوريين. ومؤخرا قررت السلطات الألمانية تعليق عمليات إعادة اللاجئين السوريين إلى الدول التي دخلوا منها أراضي الاتحاد الأوروبي وفقاً لاتفاقية دبلن التي تنص على إعادتهم. كما أكدت المانيا أن كل أوامر الطرد بحق طالبي اللجوء السوريين من قبل دول أوروبية أخرى ستلغى، وستصبح ألمانيا المسئولة عن طلباتهم. إن المانيا تحت قيادة ميركل قد حسمت أمرها فى قضية استقبال اللاجئين، كما صرحت عن توقعها استقبال نحو 800 الف خلال العام القادم. وهى الآن بصدد تحديد كيفية إدارة الأزمة داخليا، وكيفية اشراك دول أوروبا الأخرى معها من خلال مؤسسات وقوانين وآليات الاتحاد الأوروبى. وقد صرح نائب المستشارة الالمانية ووزير الاقتصاد زيغمار غابريلإن زيادة أعداد اللاجئين في ألمانيا تمثل أكبر تحد منذ إعادة توحيد ألمانيا. وأكد ضرورة تخفيف العبء عن البلديات بصفة خاصة، وأشار إلى أن تحقيق ذلك يستلزم تقديم نحو ثلاثة مليارات يورو. وشدد أيضاً على ضرورة أن تتصدى الشرطة والقضاء بكل صرامة لليمينين المتطرفين. ويأتى هذا ردا على الاعتداءات التى شهدتها بعض مراكز اللاجئين السوريين فى المانيا من قبل جماعات يمينية متطرفة ترفض استقبال لاجئين عرب ومسلمين داخل ألمانيا. المحاصصة الإلزامية تعمل المانيا بقوة للضغط على الدول الأوروبية الاخرى لقبول فكرة المحاصصة وهى الزام الدول الاوروبية الأخرى بحصص ثابتة من اعداد اللاجئين. والأهم من ذلك أن المانيا تسعى لدمج اللاجئين السوريين وغيرهم وهم فى أغلبهم مسلمون فى المجتمع الألمانى من خلال تعلم اللغة وتوظيفهم. فى الوقت الذى تحظر أغلب الدول الأوروبية على اللاجئين الحصول على وظائف داخل دولة اللجوء. وقد صرحت ميركل أمام البرلمان الأوروبى: «من يأتون إلينا كطالبي لجوء أو كلاجئين من الحرب يحتاجون مساعدتنا حتى يتسنى لهم الاندماج سريعا» مضيفة «أنه سيكون من الضروري مساعدة مثل هؤلاء الأشخاص على تعلم الألمانية بسرعة والعثورعلى وظيفة». وقالت: «الكثير منهم سيصبحون مواطنين جددا في بلدنا. وأضافت ميركل: «ينبغي أن نتعلم من تجارب الستينيات»، في إشارة الى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية واستقبال المانياالغربية لعمالة كثيفة من إيطالياوتركيا واليونان في عملية إعادة بناء المانيا. وألمانيا التي تعانى اليوم نقصا في عدد الشباب ومن ثم الأيدى العاملة، تسعى لدمج اللاجئين وهم في أغلبهم من الشباب والأطفال ليصبحوا جزءا من النسيج الوطنى الألمانى، وهو الأمر الذى يمثل مصلحة ألمانية الى جانب كونه عملا يتماشى مع مبادئ أوروبا -المعلنة- عن الإنسانية واحترام التعهدات الدولية وحقوق الإنسان... الخ. المواقف الرافضة لاستقبال اللاجئين بصورة عامة تتفق معظم الدول الأوروبية وفى مقدمتها دول شرق ووسط أوروبا بالإضافة إلى الدنمارك على اعلان مخاوفها ورفضها لاستقبال اللاجئين السوريين. وكثير من التصريحات الرسمية لا تتهاون فى الاشارة إلى رفض اللاجئين المسلمين على وجه التحديد بصورة علنية. وكتب رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان في صفحة الرأي في صحيفة «فرانكفورت اليجيمينزايتونج» الألمانية مقالا جاء فيه «إن أوروبا أغرقت بلاجئين معظمهم مسلمون. وتساءل : هل يمكن الحفاظ على الجذور المسيحية لأوروبا؟» وأضاف: «وهذا في حد ذاته يدق ناقوس الانذار فالحضارة الأوروبية ليست في موقف يتيح لها الاحتفاظ بقيمها المسيحية». وفى الواقع، تقف المجر فى الخطوط الأولى للتصدى للاجئين السوريين, وصل ذلك إلى حد المعاملة السيئة وغير الإنسانية للاجئين داخل مراكز اقامتهم المؤقتة, بالإضافة الى التصريح الرسمى بعزم بودابست باعتقال اللاجئين فى حال عدم امتلاكهم لأوراقا سليمة. وأخيرا استخدام قوات الجيش لمواجهة افواج اللاجئين على الحدود ومنعهم من المرور الى اوروبا الغربية أو الشمالية عبر حدودها وهنا تجدر الإشارة إلى أن القانون المجري يعتبر كل من يؤوي مهاجرا أنه مهرب للبشر. أما الدنمارك التى تعتبر دولة المعبر إلى السويد التى تعهدت بإصدار وثائق إقامة لكل طالبي اللجوء السوريين، فلا يقل موقفها عنفا عن المجر. فمنذ وصول حكومة يمين الوسط الى الحكم فى يونيو الماضى قلصت الاعانات الاجتماعية للاجئين الى الدنمارك وحدت من حق اقامتهم. كما أعلنت خروجها من برنامج الاتحاد الأوروبي لإعادة توطين طالبي اللجوء. وأشارت الى إمكانية خروجها من اتفاقية منطقة شينغن التي تسمح بحرية الانتقال بين دول المنطقة، إضافة إلى تشديد اجراءات انتقال مواطني الاتحاد الأوروبي إليها وما يترتب عليه من صرف اعانات لهم. بل ذهبت الدنمارك في رفضها لاستقبال اللاجئين لأبعد من ذلك، حيث نشرت إعلانا في صحف لبنانية يهدف إلى ثنى اللاجئين السوريين عن الهجرة اليها. وحذر الاعلان من أن حكومة الدنمارك قد شددت القوانين المتعلقة بالمهاجرين، موضحا أن الاعانات المخصصة للاجئين القادمين حديثا إلى البلاد خفضت بمقدار 50 %. وأن من سيرفض طلباتهم الجوء سيتم ترحيلهم من الدنمارك. الالتباس البريطاني أما بريطانيا فتستغل بعدها الجغرافى عن منطقة الأزمة والنزوح من الشرق الأوسط لتتبنى موقفا ملتبسا, حيث إن التصريحات الرسمية وخاصة بعد بث صورة الطفل ايلان تشير الى ضرورة إيجاد حل لهؤلاء اللاجئين ولا تخلو التصريحات من وعود باستقبال أعداد أكبر في المستقبل وذلك استجابة للضغوط الشعبية وتجنبا لنقد حزب العمال المعارض للحكومة والداعم لقضية اللاجئين. لكن الواقع يشير إلى ان تصريحات كاميرون تتحدث عن ضرورة إيجاد حل للأزمة السورية, بالإضافة الى تحركات أخيرة له لمحاولة الحصول على موافقة البرلمان لإرسال قوات عسكرية لمحاربة داعش وحل الأزمة السورية ومن ثم تجفيف منابع الهجرة من جذورها. وهى جميعها حلول على المدى الطويل أما الدور البريطاني في حل المشكلة الحالية للاجئين سوريين يعبرون الحدود الأوروبية سيرا على الاقدام الآن فهو دور هزيل لا يرقى لدولة بحجم بريطانيا. كما ان فيليب هاموند وزير خارجيتها اعلن رسميا عن مخاوفه الشديدة من التأثير السلبى لعدد اللاجئين على الاقتصاد الاوروبى. القضية ممتدة من المؤكد أنه لا يمكن ايقاف حركة نزوح السوريين وهروبهم من جحيم الصراع الدائر فى سوريا. ومن المؤكد ايضا أن المجتمع الدولى تأخر كثيرا فى ايجاد حل لأزمة اللاجئين طوال السنوات الخمس الماضية، حتى وصل عدد اللاجئين خارج سوريا الى 4.2 مليون. والخطير ان النازحين داخل سوريا يصلون إلى 7.6 مليون، وهم بالضرورة مرشحون لأن يكونوا لاجئين خارج سوريا، إذن فإن أزمة اللاجئين السوريين ما زالت فى بدايتها والقادم ربما يكون اسوأ. من جانب أخر، فإن معظم الدول الاوروبية وخاصة التى تعانى مشكلات اقتصادية ومعدلات بطالة مرتفعة ستظل تقاوم وترفض استقبال مزيد من اللاجئين. وخصوصا لكونهم مسلمين، وهو الأمر الذى يثير مخاوف قارة مهددة بتغييرات ديموغرافية كبيرة ناتجة عن تزايد عدد المواطنين المسلمين ابناء المهاجرين العرب من شمال افريقيا خلال العقود الماضية. مما يجعل من استقبال أعداد جديدة من اللاجئين السوريين المسلمين سببا لتسريع تغيير هوية أوروبا فى المستقبل القريب. واذا أخذنا فى الاعتبار الموقف الألمانى القوى والضاغط لاستقبال أعداد أكبر من اللاجئين فى بقية الدول الاوروبية، فنجد أن أوروبا تمر باختبار صعب لمدى صلابة اتحادها وقدرة مؤسساتها على العمل المشترك فى حل الأزمات. كما أنها معرضة فى الفترة القادمة إلى العودة إلى غلق الحدود بين دولها، وهو ما قد يؤدى إلى «عواقب كارثية» وفقا لتعبير وزير الاقتصاد الالمانى.