الرقم تسبب فى صدمة جديدة للالمان: 800 الف انسان هو عدد اللاجئين واللاجئات المتوقع ان تكون المانيا قد استقبلتهم بانتهاء العام الحالي، وكان العدد المتوقع والمتداول رسميا حتى شهر مضى نصف هذا الرقم، ولكن وزير الداخلية الالمانى اضطر لتصحيحه! ومع كل تعديل رسمى لعدد اللاجئين الى اعلى يتلقى التيار اليمينى المعادى للاجانب والرافض للاجئين جرعة اضافية من الثقة بأنه يعبر عن لسان حال اغلبية الالمان، فتزداد الهجمات والاعتداءات على دور اللاجئين عنفا وشراسة ، كما حدث أخيرا فى مدينة هايدناو بشرق المانيا. غير ان البلد يشهد ايضا موجة غير مسبوقة من الترحيب باللاجئين ومساعدتهم ودعمهم بين الالمان انفسهم ، فى ظاهرة تحير المراقبين ويبدو معها المجتمع الالمانى وكأنه منقسم حيال ازمة اللاجئين. وبات واضحا ان هذه الازمة ستغير المانيا التى نعرفها اليوم لا محالة، ولكن فى اى اتجاه؟ هذا ما سيحدده اسلوب التعامل مع الازمة. لم تكن تجربة المانيا مع المهاجرين اليها تجربة ناجحة حسبما يرى البعض، فقد تعاملت الحكومة الالمانية وكذلك مختلف مؤسسات الدولة الالمانية مع المهاجرين الاتراك والايطاليين مثلا فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى على اعتبار انهم ضيوف أتوا للمساهمة فى النهضة الاقتصادية الالمانية وسيرحلون بعد انتهاء مهمتهم، ولم تبذل جهدا يذكر لادماجهم فكانت النتيجة بقاء هؤلاء ونشأة مجتمعات موازية للمهاجرين وخاصة الاتراك والعرب المسلمين لا تزال آثارها السلبية قائمة حتى اليوم. والمدهش انه حتى بضع سنوات مضت كان الجدل السياسى هنا يدور حول ما اذا كانت المانيا دولة مستقبلة للمهاجرين ام لا! فى وقت تؤكد فيه كل الدراسات ان المجتمع الالمانى دخل مرحلة الشيخوخة بسبب انخفاض المواليد ومعدل الوفيات ويحتاج لمعدل هجرة سنوية كبير لسد النقص فى سوق العمل. وبعد مناقشات سياسية وجدل اجتماعى عقيم استغرقا سنوات اصبحت هناك قناعة فى المانيا بانه لا مناص من فتح باب الهجرة ولكن بشكل انتقائى يتيح استحضار اصحاب الكفاءات والخبرات من المهاجرين. والآن وقبل ان تتوصل حكومة ميركل الائتلافية للصيغة المثلى لتنظيم الهجرة ، فاجأت ازمة المهاجرين الوافدين من دول البلقان الفقيرة ومن بؤر الحروب الاهلية والازمات كسوريا والعراق والسودان واريتريا وافغانستان وغيرها و فاجأت المجتمع الالمانى كدش بارد انسكب عليه واربك الحسابات الالمانية تماما! فاذا كان البعض يرجع فشل اندماج الاتراك فى المجتمع الالمانى فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى الى انخفاض او انعدام مستواهم الثقافى والتعليمى فان 13% فقط من المهاجرين الجدد حسب معهد نورنبرج لبحوث سوق العمل يحملون مؤهلا جامعيا و 25% مؤهلا متوسطا و58% دون اى مؤهل مهنى او علمي! ونظرا لان دستور المانيا وقانونها الاساسى ينص على حق اللجوء لكل انسان هارب من حرب او ملاحقة تهدد حياته فإنه لا يمكن هنا التمييز بين اللاجئين فتمنح السلطات الالمانية اللجوء مثلا للطبيب او المهندس السورى فى حين ترفض منحه للاجئ اريترى لا يقرأ ولا يكتب! وكل ما تحاول الحكومة الالمانية الآن القيام به هو وقف تيار اللجوء من دول البلقان مثل كوسوفو والبانيا وصربيا التى لا تعانى حروبا اهلية ويأتى منها نحو 40% من اللاجئين بحثا عن فرصة عمل وحياة افضل فى المانيا! اما بالنسبة للاجئين السوريين فتستقبلهم المانيا الآن باحضان مفتوحة وهو ما تستغله الاحزاب اليمينية فى تحقيق شعبية كبيرة لها وفى اجتذاب الالمان الساخطين من تدفق المهاجرين على المدن والولايات الالمانية والمبالغ المالية الهائلة التى تتكلفها عملية ايوائهم بشكل لائق وتوفير الغذاء والرعاية الصحية لهم وتعليمهم واولادهم اللغة الالمانية وغيرها من تكاليف يتحملها دافع الضرائب الالمانى . ويتصدر حزب ايه .اف . دى المعادى للاجانب هذه الحملة ومعه الحزب اليمينى المتطرف ان. بى .دى ويشنان حملة بلا هوادة ضد المحافظين والاشتراكيين الذين يحكمون البلاد مطالبين بانفاق هذه المليارات على تأهيل الشباب الالمانى العاطل والغاء حق اللجوء من الدستور الالماني. والمواطنون الرافضون للاجئين دوافعهم ليست معادية للاجانب فى الاساس ولكنهم ينتقدون فى المقام الاول سياسات الحكومة المرتبكة وعدم وجود استراتيجية واضحة وشفافية فى التعامل مع الظاهرة لسنوات مقبلة. ويصاب المرء بالدهشة عندما يعرف ان 60% من الالمان يرحبون باستضافة اللاجئين وفقا لاحدث استطلاع للرأي!!وتمتلئ وسائل الاعلام كل يوم بقصص اسر المانية فتحت ابوابها لاستضافة اللاجئين السوريين فى بيوتهم ومساعدتهم فى التعامل مع البيروقراطية الالمانية للحصول على الخدمات او الرعاية المطلوبة. بل وتعرض الكثير من الالمان لاعتداءات لفظية من اليمين المتطرف بسبب تصديهم له وحمايتهم لدور ايواء اللاجئين فى بعض قرى المانيا الصغيرة وفوجيء الالمان بمواقف عدد غير قليل من السياسيين المحليين وعمد المدن الصغيرة الذين ينظمون حملات لتشجيع السكان على استضافة اللاجئين وخرج عمدة مدينة جوسلار اوليفر يونك يقولها بصراحة بقاء المانيا يعتمد على المهاجرين ويحذر سكان مدينته التى تنكمش بسبب تناقص عدد سكانها المستمر! ويتمثل التحدى الاكبر امام المستشارة انجيلا ميركل وحكومتها حاليا فى مخاطبة الاغلبية الالمانية الصامتة التى تتابع ما يحدث فى حياد فلا هى تنحاز لليمين المتطرف وتشارك فى تظاهراته وتجمعاته امام دور اللاجئين او فى مسيرات حركة بيجيدا المعادية للمسلمين واللاجئين ولا هى تتحمس للدفاع عن حقوق هؤلاء اللاجئين فى الحصول على الملاذ الآمن فى المانيا ثم فرصة عمل وحياة كريمة فى المجتمع الجديد. ويترقب الجميع الاستراتيجية التى ستتبناها الحكومة وهل سيتحد الحزبان الشريكان فى الحكم- المسيحى المحافظ والاشتراكى الديمقراطي- ام ان خلافهما التقليدى فى ملف الهجرة واللاجئين سيطغى على السطح؟ وهل ستتعامل الحكومة بشفافية مع الالمان لتعلن عليهم التكاليف الباهظة للغاية لاستضافة اللاجئين وادماجهم وابنائهم فى المجتمع الالماني؟ وهى ليست تكاليف مالية فقط، بل ايضا جدل طويل المدى ومتوقع حول الحريات واختلاف الثقافات والاديان . ثم ما هى الآلية للتعامل مع تيار اللاجئين من الشرق الاوسط وشمال إفريقيا والذى لن يتوقف فى المنظور القريب؟ وهل ستزيل العقبات البيروقراطية ليصبح هؤلاء فعلا فى اسرع وقت اعضاء فاعلين فى المجتمع وليسوا ضيوفا عليه؟ اذا نجحت حكومة ميركل فى ذلك وفى كسب الغالبية الالمانية الى صفها فانها ستحدث تحولا جذريا فى المجتمع الالمانى وتجعل من المهاجرين اثراء بجميع المقاييس لالمانيا القوية اما اذا فشلت فستحين ساعة اليمين المتطرف والنازيين وقوى التطرف والعنصرية التى تريد المانيا مظلمة كما يحذر الرئيس الالمانى يواخيم جاوك!