مع انتشار أقسام التاريخ فى الجامعات ، وتخريج عدد كبير من الحاصلين على درجتى الماجستير والدكتوراه فى الدراسات التاريخية يتبادر إلى أذهاننا أسئلة فى مقدمتها هل أضافت هذه الأقسام جديدا إلى التاريخ ؟ وهل من الجائز أن نطلق على أساتذتها لقب مؤرخين بما لهم من اطلاع على مجريات التاريخ ووثائقه ؟ أو على الأقل عنصر مهم فى معادلة كتابة التاريخ ، مثل الوثائق والمراجع والصحف والمذكرات ، ومواقع الإنترنت وغيرها، فى وقت اختفى فيه المؤرخون وانتشرت ظاهرة الباحثين، والفرق بينهما كبير تظهره المراجع الأساسية التى خلفها المؤرخون وراءهم وتشهد لهم بدقة المتابعة والقدرة الفائقة على وصف وتفصيل الأحداث، والموضوعية بقدر المستطاع والتحقق والاطلاع على ما أتيح لهم من مصادر ووثائق بحكم وظائفهم ، فى حين نجد الباحث تائها لا يجد الوثائق فى متناول يديه ويتهم فى بعض الأحيان بالنقل وعدم إضافة الجديد للتاريخ. وكما سبق وتحدثنا عن أزمة تشفير التاريخ، فإننا فى هذا التحقيق نتساءل: ما الذى ينقص الدراسات التاريخية المعاصرة حتى تصبح ذات أهمية لتفسير الظواهر التاريخية؟
أزمة الدراسات المعاصرة د. عبد المنعم الجميعى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بآداب الفيوم يبدى عدم تفاؤله بما يدور داخل أقسام التاريخ, ويرى أنها لم تقدم الكثير نتيجة استسهال الدارسين ولجوئهم إلى الوثائق المنشورة فى مواقع الإنترنت ومعظمها بلا سند علمى، وهناك العديد منهم لا يعرفون طريق دار الوثائق والمحفوظات. و يضيف أن الطلاب يستطيعون أن يسجلوا رسائل الماجستير أو الدكتوراه مع أى أستاذ أو أستاذ مساعد دون أن يدركوا قيمة الدراسة التى يبحثونها ، بجانب تكرار موضوعات الدراسات التاريخية لعدم وجود سبل للتنسيق والتعاون بين الأقسام بحيث يتمكن الباحث من الإطلاع على قائمة بعناوين الدراسات التى سبق تسجيلها. السطحية هى السمة الأساسية للدراسات المعاصرة،وتقوم فى كثير من الأحيان على النقل عن الآخرين دون روية ، بدلا من التعمق فى التحليل والمقارنة مع ما كتبه الآخرون ناهيك عن الصراعات بين الأساتذة الكبار والصغار على توزيع الكتب. و أيضا هناك نظرة متفشية لدى الباحثين الشباب ترى أن تاريخ مصر قد قتل بحثا ويجب الاتجاه إلى الدراسات العربية والأوروبية، وذلك بدلا من إعادة النظر فى تاريخنا السياسى انطلاقا من الوعى الشعبى وتفهم أوضاعنا عن طريق تعميق الدراسات المقارنة بيننا وبين الشعوب الأخرى, مثل التجربة اليابانية التى تزامنت مع عصر إسماعيل, فندرس لماذا تقدمت ولماذا تأخرنا, على سبيل المثال. ويقترح د. الجميعى تأسيس كلية متخصصة للدراسات العليا تحت إشراف وزارة التعليم العالى تضم أساتذة متخصصين من ذوى الخبرات يقومون بتوجيه الدارسين إلى الموضوعات المهمة والإشراف على تحضير الرسائل العلمية وإنشاء قاعدة بيانات تضم عناوين رسائل الدكتوراه والماجستير التى نوقشت منذ إنشاء جامعة القاهرة وباقى الجامعات الإقليمية حتى الآن لتجنب تكرار الموضوعات، على أن يتاح للباحث إعداد دراسة تجريبية للتعرف من خلالها على قدرات الباحث وخبراته وتكوينه العلمى وما الذى ينقصه لتقديم بحث علمى متكامل، كما أننا بحاجة إلى سلسلة للكتب تنشر الرسائل التى تم إجازتها بمقدمات ناقدة يستفيد منها الباحث والقارئ على السواء.
من هو المؤرخ يقول د. احمد زكريا الشلق أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بآداب عين شمس إن لقب مؤرخ لا ينطبق إلا على نخبة من أعلام المفكرين الذين عاصروا الأحداث و تركوا موسوعات ضخمة تشكل مصادر للتأريخ ، أما أساتذة الجامعة فهم باحثون مشتغلون بالبحث العلمى فى مجال التاريخ. وقد بدأت كتابة التاريخ الحديث والمعاصر فى القرن التاسع عشر على يد مجموعة من أصحاب الوظائف العليا فى الدولة ممن أتيح لهم أن يطلعوا على الوثائق والمستندات الرسمية للدولة, وهم يمكن اعتبارهم عشاقا للتاريخ, مثل رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وأمين سامى وميخائيل شاربيم ثم كتابات مصطفى كامل ومحمد فريد وتطورت الكتابة التاريخية مع عبد الرحمن الرافعى، وذلك بجانب مجموعة من الكتاب الملكيين الذين دعاهم الملك فؤاد لكتابة تاريخ الأسرة العلوية، فى الوقت التى ظهر فيه رواد المدرسة العلمية الأكاديمية نتيجة البعثات العلمية, ومن أبرزهم محمد رفعت ومحمد شفيق غربال ومحمد صبرى السربونى, وما تبعهم من أجيال درسوا بالغرب وتولوا تدريس التاريخ بدلا من الأساتذة الأجانب بالجامعة المصرية فى حركة تمصير الكتابة العلمية. ويدعو د. الشلق شباب الباحثين إلى الأخذ بالمناهج والاتجاهات الجديدة فى الكتابة التاريخية, التى ترى أن التاريخ السياسى والاقتصادى والاجتماعى ليست المجالات الوحيدة للبحث, حيث طفت على السطح اتجاهات جديدة تهتم بتاريخ مفردات البيئة, مثل الفئات الشعبية المهملة, بالإضافة لما يعرف بكتابة التاريخ المصغر, وهو يعنى بدراسة قضايا كبيرة بلغة عصرية تسلط الضوء على مرحلة بعينها ، مع التزام الجدية والموضوعية، والبعد عن المبالغة والتحيز بجانب ملكة النقد والتحليل والمقارنة.
إضافة جديدة للتاريخ د. رجب على عبد المولى رئيس قسم التاريخ بآداب المنيا لا يتفق مع مقولة إن أقسام التاريخ بالجامعات لم تقدم الكثير ، موضحا مدى الجهود البحثية التى تُبذل, فى زوايا مهجورة كشفت عنها العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه مثل قضايا: الصعيد فى البرلمان المصرى فى الفترة ما بين 1924- 1952 ،ونواب المنيا فى البرلمان قبل ثورة يوليو, ومشكلات أهالى النوبة فى البرلمان ، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية لمديرية البحيرة, وأيضا المحافظات الحدودية, وهى مجالات نادرا ما يتطرق إليها الباحثون وكأن الأقاليم ليس لها أى دور فى التاريخ . وعلى المستوى القومى نجد اهتماماً بالجامعة العربية ودورها فى مساندة قضايا العرب فى الفترة ما بين 1945- 1967 ، وكذلك الاعتداءات الإسرائيلية على مصادر المياه العربية، والمناضل عبد الرحمن عزام ودوره. ويرى د. عبد المولى أن مناهج التاريخ المقررة على طلاب التعليم الأساسى غير مجدية وأنها ابتعدت عن إبراز عظمة التاريخ المصرى والزعامات التى كانت وراء النهضة ومقاومة الاستعمار للحفاظ على هويتنا العربية والإسلامية, مثل أحمد عرابى ومصطفى كامل وسعد زغلول ، ودور الجيش المصرى فى صيانة الوطن منذ عهد الفراعنة وحتى العصر الحديث، و يضيف أن لدينا مجلة التاريخ والمستقبل ويصدرها قسم التاريخ منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى كل 6 أشهر وتعنى بمراحلنا التاريخية المختلفة بدءا من العصر الفرعونى واليونانى والرومانى مرورا بالعصر الإسلامى حتى يومنا هذا، بجانب قيام أساتذة قسم الآثار بنشر أبحاث علمية محكمة فى المجلة للترقى. ويأمل فى أن يتعاون الأهرام مع أقسام التاريخ فى عمل ندوات فى المجالات التاريخية ولو ليوم واحد سواء فى مؤسسة الأهرام أو فى الجامعات لتوثيق أواصر التعاون العلمى معها, لأن التاريخ- كما يرى د.عبد المولى- هو ذاكرة الأمة والعودة إليه إنارة للحاضر.
الاتجاه غربا اتجهت الدراسات الأكاديمية غربا لأن وثائق تاريخ مصر الحديث والمعاصر, التى تعد حجر الزاوية فى إعادة بناء الحدث التاريخى فى ضوء الظروف الموضوعية التى أحاطت به, أصبحت صعبة المنال- وذلك وفقا لما يؤكده د. شريف عبد الجواد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بآداب المنيا والذى يواصل قائلا: عندما ينظر الباحث فى حادثة وقعت منذ مائة عام يعود إلى المصادر التى تناولت هذا الحدث لرسم صورة كلية له من خلال الربط بين الجزئيات حتى يصل إلى تفسير للنتيجة التى انتهى إليها الحدث, بعد نقده لهذه الوثائق استنادا للوثائق التاريخية القديمة والتى لم يُكشف عنها النقاب من قبل، ولذلك اتجه بعضنا إلى الدراسات العربية والأوروبية وعلاقتها بمصر والعالم العربى, نظراً لدور أوروبا الأساسى فى المنطقة العربية فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور القوى الدولية الجديدة: الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتى, ودورهما فى الحياة السياسية والاقتصادية فى مصر. وهذا من شأنه أن يسد عجزاً فى المكتبة التاريخية العربية. وكل الوثائق الأوربية والأمريكية متاحة على المواقع الرسمية للدول و أيضا وثائق المنظمات العالمية فى شكل pdf. وكشف دعبد الجواد عن وجود سرقات علمية فى بعض الأبحاث: على سبيل المثال عندما تنقل ما يذكره الرافعى فى رسالة علمية حديثة دون تشير إلى مصدرها الأصلى ، و يقول إن هناك بعض الصراعات بين الأساتذة الكبار والأجيال الجديدة على توزيع الكتب المقررة على الطلبة إلا أنه يستدرك قائلا: إنهم لا يبخلون علينا بعلمهم.ويرى أنه من مشكلات اليحث التاريخى أيضاً عدم التفرغ الكامل بالنسبة للأساتذة الذين يتولون الإشراف على طلبة الماجستير والدكتوراه حيث يقومون بالتدريس للطلبة فى سنوات النقل والتخرج مما يؤثر على الاهتمام بالباحثين.