بعد حادث التدافع في مشعر منى يوم الخميس الماضي، والذي ذهب ضحيته مئات الحجاج بين متوفّي وجريح ( 769 حالة وفاة و934 في آخر احصاء عند كتابة هذا المقال أمس الأحد) ارتفعت أصوات من من دول مسلمة تطالب بتحقيق في الحادث، وذهب بعضها إلى حد المطالبة بلجنة تحقيق دولية، وشك أن تلك كلمة حق، ولا ندري أيريد منها أصحابها حقا أم باطلا، لكن الذي يهمنا هنا أنها لا تخلو من تسييس للحادث يقوم على أساس الأحداث الجارية في المنطقة ودور السعودية فيها، وتحديدا في اليمن وسوريا وليبيا، ولهذا نتوجس خيفة من تداعيات تلك الدعوات على المسلمين جميعا، بل إننا قد نذهب إلى أبعد من ذلك حين نعيد التذكير بالمشاريع الدولية بمشاركة بعض الدول الإسلامية الساعية لتدويل المقدسات، مما سيزيدنا فرقة واختلافا واقتتالا. من الناحية الواقعية لا أحد ينكر ضرورة اجراء تحقيق في هذا الحادث الأليم، حتى لو كان عدد الضحايا قليلا، وهو ما تقوم به السلطات السعودية بالفعل، ولا أحد يمكن أن يزايد عليها في هذا المجال، ولا أن يربط مواقفها السياسية تجاه الأحداث الجارية في المنطقة، والتي قد يختلف معها كثيرون حولها، بمجريات التحقيق، حتى أن بعض وسائل الإعلام قدمها بصورة الدولة العاجزة عن تحقيق الأمان للحجيج، أو اعتبارها معادية لهذه الدولة أو تلك، فقط لأنها أرادت أن يتم التحقيق وبمشاركة البعثات المسلمة الموجودة في مكان الحادث، وهذا فيه من كثير الظلم قياساً على نجاح السعودية في تنظيم الحج لعقود خلت باعتراف كل المشاركين. هنا علينا أن نتساءل عن مغزى ما جاء في كلمة الرئيس الإيراني حسن روحاني في الجمعية العامة للأمم المتحدة حين طالب بتحقيق في حادث مشعر منى، وهو مطلب مشروع خاصة وأن العدد الأكبر من الضحايا هم من إيران، لكن طرحه في منبر أممي يذكرني بما قامت به جامعة الدول العربية حين نقلت المسألة السورية وهي لا تزال في بدايتها إلى الأممالمتحدة، وكانت النتيجة بحورا من الدماء لأكثر من أربع سنوات وهجرة جماعية للشعب السوري، وتجمع للإرهابيين، وتدخل الدول الكبرى والصغرى واستباحتها للسيادة السورية. لم يكن حدث التدافع عملا مقصودا من السلطات المشرفة على تسيير الحجيج بمنى، وإلا أعتبر جريمة، كما أنه لم يكن عملا موجها قبولا أو رفضا تجاه الإيرانيين، وحسب تصريحات وزير الصحة السعودي خالد الفالح فإن وزارته تحركت من أول لحظة في حادثة التدافع مع الدفاع المدني والأمن العام والهلال الأحمر، وأثبتت جاهزيتها واستعدادها لحالات الطوارئ، وسخرت طاقاتها للاهتمام بالحج، ووضعت 25 ألفا من المسئولين والكوادر لموسم الحج، وذكر أيضا أنه وبمتابعة من منظمة الصحة العالمية قد خلا موسم الحج هذا العام من الأوبئة والأمراض. لكن كل تلك المتابعة والاهتمام لم يأت على ذكرها من طرف وسائل الإعلام المعادية، وتركز اهتمام الناس على الحادث، وذلك أمر طبيعي ومقبول ورد فعل طبيعي من الرأي العام في الدول المسلمة، لكنه مرفوض من الحكومات والدول، ليس فقط لأنها تسهم في البلبلة والفوضى، ولكن لأنها تسبق التحقيق الجاري، بل إنها تقيم حظرا مسبقا على نتائجه المسبقة، خاصة وأن عملية التشكيك بدأت من الآن، وقد يكون الهدف منها هو التشكيك في مشروعية السعودية، وأحقيتها في الإشراف على المقدسات في مكة والمدينة. في الحالة الراهنة من الضروري أن يبرز دور منظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي، وهما للعلم موجودتان على أرض السعودية في كل من جدةومكةالمكرمة لجهة متابعة التحقيق في حادث التدافع في مشعر منى، وعليهما اشراك بعثات الحج لهذا العام، وسفراء الدول الإسلامية، خاصة التي لها ضحايا، لكن هذا كله يتم تحت اشراف السلطات السعودية، وهنا علينا القول بصراحة: إن حجّة الذين يطعنون في شرعية السعودية لإدارة موسم الحج، أو إشرافها وإدارتها للمقدسات غير مبررة، ذلك لأن المقدسات جزء من السيادة السعودية مثلما هي سيادة كل الدول على أراضيها، وكون أن الدول الإسلامية الأخرى تشترك معها في العقيدة فهذا لايعطيها الحق في السيطرة المكانية على البقاع المقدسة، ولا الشراكة الكليّة في إدارة الحج. من ناحية أخرى هناك مخاوف حقيقية من مطالب بعض الدول المسلمة ليس بالتحقيق في الحادث الراهن، على ما فيه من صخب وفوضى وترويج إعلامي لمسار حقيقي أو وهمي وإنما تتعلق بمصير الأماكن المقدسة في السعودية لجهة تدويلها واخراجها من سلطة الدولة السعودية، أو التشكيك في القدرات السعودية لتنظيم الحج، أو تقديمها كدولة فاشلة في قيادة تجمع يعتبر من أهم التجمعات التعبدية في العالم، وكل هذا تطغى فيه السياسة على غيرها من المسائل الأخرى، بما في ذلك العبادة. لاشك أن الدعوات المتكررة من سنوات حول تنظيم الحج مقبولة من ناحية المبدأ، ولكن تفصيلات المطالبة بترقية مناسك الحج والإشراف عليه وتوفير بيئة مناسبة للحجيج تدخلنا في مغارات مظلمة من الكراهية المتركمة، بل قد تساعد على إيقاظ الفتنة، التي تحركها السياسة في الغالب، لذلك فإن الخلاف حول المواقف السياسية بين الدول الإسلامية لا يمكن الغاؤه، لكن يمكننا تجنب الخلاف الذي قد يؤدي إلى صراعات دموية كما هي الحال في بعض دولنا اليوم.. صحيح أن الحادث مؤلم، ولكن خلاف المسلمين حوله، أو شكهم في مجريات التحقيق، أو اعتقاد بعضهم بتهاون متعمد أو مقصود من السلطات السعودية هو أكبر وأشد إيلاما. إن البقاع المقدسة في السعوية ملك لجميع المسلمين، وهي ميراث ديني إيماني خالص، يأتيها المؤمنون من كل فج عميق، لكن الإشراف عليها وتنظيمها حق متوارث لأهلها في مكة والمدينة، وبالتالي للسلطات السعودية، والدعوة لتطوير أساليب التنظيم من أجل مزيد من الأمان للحجيج أمر خير، لكن المطالبة بتحقيق دولي يحمل معاني الاتهام يعتبر شرا ربما من غير قصد دعاته، والحل هو مساندة السعودية لأنها كانت ولا تزال وستقبى الأولى والأحق بخدمة بيت الله وزواره، وستخرج من هذه المحنة والمسلمون معها بعون الله منتصرة على المواقف الظاهرة والباطنة، التي لاتزيد المسلمين إلا انقساما وخلافا وكراهية. كاتب وصحفي جزائري لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه