لقد سجلت ثورة الخامس والعشرين من ينايرلحدث جلل غير مسبوق بالنسبة للثورات الفارقة في التاريخ الإنساني, وبلورت الثورة أهدافها في العدل الاجتماعي والحرية والديمقراطية بحسبان أن هذه الأهداف, في ترابطها وتكاملها, تشكل الركائز الأساسية لدولة ديمقراطية حديثة, الشعب فيها هو مصدر السلطات والسيادة فيها للدستور والقانون والعدل والمواطنة فيها أساس الحكم الرشيد... الثورة في حقيقتها تجسيد ثوري لإرادة شعب يرفض واقعه ويتطلع إلي تغيير جوهري في أحواله, الأمر الذي يتحتم معه توظيف الحالة الثورية والانشغال بها, بعيدا عن مناخ الاناركية المعوقة, نحو الانتقال, وفق مراحل معينة وفي اطار منهجية محددة, اي تفعيل الأهداف وفوق الاكتفاء بتغيرات في المواقع أو استبدال الشخوص... والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: كيف السبيل لتحقيق ذلك؟ وينصرف ذلك في جوهره إلي استدعاء مايسمي في أدبيات العلوم السياسة'' نظرية بناء النظام''. والفرضية الأساسية هنا هي أننا أمام أحداث تغيرات جذرية تسقط الفاسد وتهدم المتخلف وتبطل المعوج وتقيم, بعيدا عن أنقاضه وعلي أسس وركائز مغايرة, بنيانا جديدا يستوعب الحدث ويلبي الأهداف ويقدر علي التجديد... والأخذ بهذه النظرية يفرض علينا اتباع مرحلتين: الأولي: مرحلة الرفض وفي الحالة المصرية فقد كانت الثورة مثالا مزلزلا لرفض واقع مؤلم أفرزته, بدرجات متفاوتة ومختلفة, أنظمة شمولية تعاقبت علي حكم البلاد وتوارثتها إقطاعا وعاثت فيها فسادا وإفسادا علي مدي أكثر من نصف قرن.. اختزل فيها الحاكم الدولة في ذاته, واحتكرت فيها السلطة, وتعطلت المؤسسات, واغتصبت الحريات وتضاءلت المشاركة, واحتكرت الثروة, وتزايد عدد الفقراء, وتدهور التعليم, وغاب البحث العلمي, وتفاقمت البطالة, وتفشت الأمية, وتدنت الخدمات, وتضخمت الأسعار, وانخفضت مستويات المعيشة, وعز العيش الكريم, وتراجع دور مصر عربيا وافريقيا وإقليميا ودوليا. الثانية: وتتداخل فيها مرحلتان '' الانتقالية'', و''تجديد النظام'' وتنصرف هذه المرحلة المزدوجة والمتداخلة إلي منظومة القرارات والأعمال التي تصحح عوارا أو تكمل نقصا أو تنشأ بديلا لساقط... فهي بذلك مرحلة تموج بالتجارب وتحكمها متغيرات وتسيطر عليها حوارات وأطروحات تحمل اجتهادات ليست بالضرورة متناغمة أو متوحدة, بل ربما تكون متناقضة أو متباينة, كلها أو بعضها, لكنها تصب في اتجاه واحد هو إرساء قواعد نظام جديد... وأحسب أن هذه المرحلة قد بدأت بإيقاع مقبول, علي قاعدة الممكن ومبدأ الانقاذ, آخذين في الاعتبار التحديات الجسام التي واجهتنا, ولا تزال, متمثلة بصفة أساسية في انفلات أمني وأخلاقي غير مسبوق واقتصاد في خطر, وكانت الانطلاقة الرئيسية للمرحلة يوم تنحي الرئيس السابق في الحادي عشر من فبراير سنة2011, وتتابعت الإيقاعات بإنجازات لعل من أبرزها تحقيق أول استحقاق مؤسسي في هذه المرحلة ألا وهو انتخاب البرلمان المصري بمجلسيه, ولقد بدأ البرلمان في مباشرة مهامه, وأي محاولة لتقييم أدائه خلال هذه الفترة سوف تكون بالضرورة متعجلة, خصوصا إذا لاحظنا أن النسبة الغالبة من أعضائه يمارسون الحياة النيابية لأول مرة.. كذلك من منجزات المرحلة المضي قدما في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية تمهيدا لاختيار رأس الدولة وتحقيق الانتقال السلمي لسلطة مدنية منتخبة مباشرة من الشعب وتعبر عن إرادته الحرة قبل نهاية شهر يونيو المقبل. ولعل التكليف الأهم والتحدي الأكبر للبرلمان يتمثل في تفويضه انتخاب الأعضاء المائة الذين تتشكل منهم الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع مشروع الدستور الجديد للأمة, وذلك إعمالا للمادة(60) من الإعلان الدستوري... وفي جلسةالرابع والعشرين من شهر مارس2012, انتهي البرلمان من تشكيل الجمعية وفق معايير سبق له إقرارها في السابع عشر من الشهر نفسه علي أساس انتخاب نصف أعضائها من بين نوابه المنتخبين والنصف الآخر من خارجه, ويفترض هنا أن الجميع ينطلق من مفهوم مشترك يتفق مع طبيعة الدستور بوصفه العقد الاجتماعي الأكثر ثباتا والذي يتعين أن يأتي تعبيرا عن الإرادة الجمعية للأمة وتجسيدا لمكوناتها وتطلعات أبنائها, وهو بهذا الوصف, وعلي خلاف القانون, لا يخضع لقاعدة الأغلبية المتغيرة بطبيعتها, كذلك ولأنه ينشيء السلطات المؤسسية الرئيسية الثلاث ويحدد اختصاصاتها وينظم علاقاتها ويفصل بينها, لا يجوز لأي من هذه السلطات الاشتراك في صناعته.. ومن فالأساس بالضرورة يتحتم أن يكون'' شمولية المشاركة لا خصوصية المغالبة''... وقبل أن تبدأ الجمعية مباشرة مهمتها الكبري تعالت أصوات معظم الأحزاب والقوي السياسية واتحادات وائتلافات شباب الثورة والشخصيات العامة وفقهاء الدستور والقانون رافضة تشكيل الجمعية علي النحو الذي انتهي إليه البرلمان, بل ذهب البعض إلي الطعن في ذلك أمام قضاء مجلس الدولة, فإذا أضفنا إلي ذلك الطعون القائمة فعلا في صحة عضوية بعض أعضاء البرلمان وفي دستورية القانون الذي أتي به, فإننا نصبح أمام صورة مرتبكة للمشهد المصري. وبعد حكم القضاء الاداري بوقف تنفيذ قرار تشكيل الجمعية التأسيسية, والحكم المتوقع في الموضوع ببطلانه, فإن تعديل المادة(60) من الاعلان الدستوري بوضع معايير واضحة وقاطعة لتشكيل الجمعية, او تحقيق ذلك باللجوء الي المحكمة الدستورية العليا, بات أمرا حتميا لا يتحمل المزيد من التأخير... وبغير إفراط في التفاؤل, أو تفريط في معطيات التشاؤم, يفرض المشهد المصري تساؤلا ويثير تخوفا.. أما التساؤل فهو'' هل حقا نريدها ديمقراطية'' ؟! وهل تتلاقي هذه الإرادة, المسئول عنها, مع واقع وملاءمات الحالة المصرية ؟! أما التخوف فيأتينا من مصدرين أساسيين الأول أن استمرار هذا الوضع الضبابي المتخبط من شأنه أن ينقص حتما من رصيد الثقة لدي الرأي العام, الداخلي والخارجي, في النظام الانتقالي بكل أطرافه وجميع عناصره, بل ويطرح شكوكا مبررة في مدي التزامه بأهداف المرحلة وقدرته علي الصعود إلي انتقاليات متتابعة مترابطة ومتكاملة, تبدأ الواحدة منها من حيث انتهت سابقتها وتبني عليها, وصولا الي الدولة الديمقراطية العصرية.. ومن ناحية أخري, فإنه بدون التزام جميع الأطراف بشفافية, وبعيدا عن المراوغة أو المخادعة أو تدليس النوايا, باحترام قواعد الديمقراطية وفي مقدمتها الانصياع لإرادة الشعب والتسليم بأنه مصدر السلطات, وتداول السلطة, وسيادة الدستور والقانون, في إطار الدولة المنشودة, نقول بدون ذلك وتلك فإننا نكون أمام صور خادعة تخفي وراءها نوايا لا تستقيم مع الأهداف المعلنة للثورة ولا تؤدي يقينا إلي الانتقال والانطلاق نحو بناء نظام حكم رشيد لمصر الجديدة. المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى