شهدت مصر, والعالم معها, في الخامس والعشرين من يناير من العام الماضي ثورة شعبية حقيقية فجرها وأشعل شرارتها شباب اكتشفوا أنفسهم, وتأكدت بها هويتهم التي تمثل مزيجا طيبا بين حب الوطن وطهارة النفس ونبل المقصد... ثورة التفت حولها الأمة وساندتها المؤسسة العسكرية المصرية لتضيف إلي رصيدها المشرف وساما جديدا لقادتها ولكل أفرادها. وعبرت الثورة بوضوح مزلزل عن أهدافها الكلية التي أفرزتها تراكمات الغضب عبر أكثر من نصف قرن, ألا وهي العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية. لقد عاشت مصر أكثر من نصف قرن في ظل حالة من الديمقراطية الشكلية مفرغة المضمون مضللة الثقافة تتمحور حول الحاكم الفرد الذي تمركزت حوله الدولة, فأضحي يراها في ذاته وتدور بتوجيهاته حركتها واحتكرت لديه سلطات تصلح فقط لصناعة الطاغية.. وعلي الرغم من اشتراك الأنظمة الثلاثة التي توارثت الجمهورية المصرية الأولي في عموم تطبيقات هذا المفهوم, فإنها تتفاوت بدرجات في السياسات والأساليب المحققة له.. وعرف المناخ السياسي مصطلح المحظور. فبينما كان عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حادا شديد الاحتكار للحياة السياسية من خلال ما عرف آنذاك بهيئة التحرير ثم الاتحاد الاشتراكي, فقد أدخل الرئيس الراحل محمد أنور السادات بعض التجميل علي فكرة الحزب الواحد من خلال ما يسمي بالمنابر نهاية بالحزب الوطني الديمقراطي. والسؤال الذي يطرح نفسه, بعد هذه الإطلالة التاريخية علي أهم ملامح الحياة النيابية في مصر قبل قيام الجمهورية الأولي وخلالها, ما هي عناصر التفرد الأساسية في البرلمان الأول للجمهورية الثانية؟ وما هي أبرز التحديات التي يمكن أن تفرضها هذه الحالة؟ ونرصد هذه وتلك بإيجاز فيما يلي: 1) هذا البرلمان بمجلسيه يمثل الإنجاز المؤسسي الأهم حتي الآن في إطار بناء الركائز الأساسية للدولة المنشودة, كما أنه الإفراز الأبرز لمناخ ثقافي واجتماعي وسياسي يتغاير جذريا لما كان عليه الحال قبل الخامس والعشرين من يناير 2) علي خلاف السوابق البرلمانية علي مدي أكثر من نصف قرن, يأتي هذا البرلمان منزها عن التزوير, أو حتي شبهاته, وليد الإرادة الحرة لغالبية المصريين بعيدا عن الخوف أو إرهاب السلطة أو سيطرة المال أو ممارسات الفساد 3) تجاوزت نسبة مشاركة المصريين لاختيار ممثليهم في مجلس الشعب 60% من مجموع المسجلين المؤهلين للتصويت وهذه نسبة غير مسبوقة. وتنخفض نسبة المشاركة بالنسبة لمجلس الشوري إلي أقل من15%, ليس فقط بسبب تناقص حماس الناخبين نظرا لطول الفترة التي استغرقتها الانتخابات, بل أيضا اقتناع البعض بعدم أهمية هذا المجلس من الأساس 4) استحوذت الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية, وفي مقدمتها الحرية والعدالة (الإخوان المسلمون) والنور (السلفيون) علي نسبة تمثيل تجاوزت 70% في البرلمان بمجلسيه, كانت الحصة الغالبة منها لحزب الحرية والعدالة ويليه حزب النور, الأمر الذي يعطي لهذه القوي التي كانت بالأمس محظورة, وعلي ما بينها من اختلاف في الرؤي وتباين في المواقف, أغلبية مريحة لأول مرة في تاريخ الحياة النيابية المصرية 5) إن النسبة الغالبة من أعضاء البرلمان الجديد يمارسون الحياة النيابية لأول مرة, ويعانون من تراث طويل تقزمت فيه حرية الرأي وغابت فيه لغة الحوار واحتكرت فيه الثقافة السياسية, الأمر الذي من المتوقع أن تكون له انعكاساته السلبية بصور مختلفة علي أعمال البرلمان 6) يتشكل البرلمان في مرحلة انتقالية بين نظام ساقط وآخر يؤسس له, مرحلة تعاني فيها السلطة التنفيذية مما يمكن أن نطلق عليه الكرسي الخالي متمثلا في غياب رأس الدولة المنتخب, من ناحية, ومن حكومة إنقاذ مؤقتة بطبيعتها تواجه تحديات حقيقية, وبصفة خاصة في مجالي الأمن المنفلت والاقتصاد الذي تتآكل موارده ويتعطل أو يتوقف إنتاجه ويكاد ينزلق إلي منطقة الخطر.. ومع هذا التفرد, وبسببه, يواجه البرلمان المصري تحديات متعددة المصادر نخص منها: 1) التوقعات المتعاظمة لشعب يعاني من تراث متراكم أهدر حقوقه الأساسية وأهمل الحد الأدني من مطالبه وامتهن كرامته وهمش دوره 2) حرص القوي السياسية الوافدة علي الحياة البرلمانية ممثلة الإسلام السياسي, بصفة خاصة, علي إثبات الذات والجدارة بثقة الناخبين, مع الموازنة بين هذه الرغبة الطبيعية و الحرص علي إنجاح التجربة والسعي الدائم لتحقيق توافق بين الفرقاء. ثم بعد ذلك ومعه فإن النائب الفرد مطالب دوما بإيجاد التوازن بين عمله ضمن القوي التي ينتمي إليها, وفي إطار برنامجها واستراتيجيتها, بوصفه نائبا عن الأمة, وبين تراث متراكم جعل منه نائبا للخدمات في دائرته المحدودة 3) الخلافات, وربما الصراعات, المتوقعة فكريا وعقائديا وسياسيا داخل برلمان يضم تحت قبته أحزابا وقوي وتيارات من مرجعيات مختلفة ومتباينة الفلسفات والتوجهات والبرامج... ومن المتوقع أن يشتد هذا التحدي أمام حزب الحرية والعدالة, الذي يمثل قاطرة الإسلام السياسي في البرلمان, بصفة خاصة, نظرا لما يتوقع منه من حرص علي أن يبعد عن نفسه شبهة سيطرة الحزب الواحد, ومن ثم تكرار تجربة الماضي الساقط, بالرغم من أن هذا الحزب, قد اكتسب شرعيته بموجب إرادة شعبية حقيقية لم تكن أبدا هي مصدر شرعية الحزب الواحد في التجارب السابقة 4) حداثة التجربة بالنسبة لغالبية أعضاء البرلمان, الأمر الذي يستلزم الوعي عند تناول الموضوعات ومراعاة مبدأ الفصل بين السلطات واحترام معطياته. وقد اتضحت أهمية ذلك في ضوء ما تلاحظ في الجلسات الأولي لمجلس الشعب من تناول موضوعات تقع في صميم الاختصاص الأصيل للسلطة القضائية دون غيرها. ويصبح من المفيد, والحال كذلك, أن تنظم الأمانة العامة للمجلس دورات تثقيف وتدريب للأعضاء حديثي العهد بالممارسات البرلمانية 5) الخلط بين شرعية البرلمان الذي هو وليد مؤسسي الشرعية الثورة وما يسمي تجاوزا شرعية الميدان التي يروج لها أولئك الذين يدعون أن الثورة تم اختطافها وأنهم الأولي بثمارها, وكذلك أولئك الذين لم ينالوا ثقة الناخبين, غافلين جميعا أن الثورة ليست إرثا لغير الشعب, كما أن ثقة الجماهير لا يمكن أن تمنح اغتصابا وأن تمثيل الأمة ليس وظيفة حكومية الحق في شغلها مكفول للجميع...! 6) ضخامة المسئولية التي عقدت علي هذا البرلمان وفي مقدمتها, بصفة خاصة وعاجلة, اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي أنيط بها إعداد مشروع دستور دائم يليق بالأمة المصرية, الحضارة والقامة, يحقق لها أهداف ثورتها النبيلة وفي إطار دولة ديمقراطية معاصرة, الشعب فيها هو مصدر السلطات والسيادة فيها للدستور والقانون. ومن الضروري أن يكون المعيار الحاكم في تشكيل هذه الجمعية هو وجوب أن يأتي العقد الاجتماعي المنشود محصلة لتوافق مجتمعي عام لا إقصاء فيه ولا تهميش لأي من مكونات هذه الأمة والآن... فرض علينا جميعا أن نعطي لهذا البرلمان المتفرد الفرصة كاملة لمواجهة تلك التحديات والتعامل معها, والنهوض بمسئولياته الأساسية في التشريع والرقابة في مرحلة هي الأصعب في تاريخ مصر