تمتلئ مساجدنا وكنائسنا بالمصلين؛ وتفيض لغتنا اليومية بالمصطلحات الدينية؛ مما يؤكد تمسكنا بعقائدنا. ولكن التمسك بالعقيدة الدينية أمر يختلف عن الممارسة السلوكية للتدين؛ ويبدو لي من منظور نفسي اجتماعي أن ممارساتنا الدينية تقوم على تصور لعقيدة بالغة الهشاشة، كما لو أن إيماننا على حرف والعياذ بالله. وإذا كنا نأخذ على بعض أصحاب الأفكار العلمية الدنيوية ضيقهم بمن يختلف معهم فكريا، معتبرين ذلك دليلا على أن ثقتهم في نتائجهم «العلمية» ضعيفة؛ فإن الأمر يصبح غاية في الغرابة إذا ما امتدت تلك الظاهرة إلى العقائد الدينية التي يؤمن أصحابها أنها محفوظة إلهيا، بحيث نبدو كما لو لم نكن على ثقة بصمود عقيدتنا في مواجهة أي فكر آخر؛ فنفضل لحماية عقيدتنا أن نحيط معتنقيها بسياج كثيف يحجب عنهم رؤية الآخر تماما. من الطبيعي أن يخاف المرء على من يحب وما يحب؛ ومن الطبيعي أن يحيط المرء أطفاله بسياج نفسي ومعنوي بل وأحيانا مادي يحميهم من التعثر؛ ولكن من الطبيعي كذلك أن يخفت ذلك السياج شيئا فشيئا مع تقدم الطفل في مدارج النضج إلى أن يختفي تماما مع بلوغ الطفل رشده بعد أن نكون لاعبناه سبعا وأدبناه سبعا وصاحبناه سبعا لنترك له بعد ذلك الحبل على غاربه مطمئنين إلى أننا أحسنا إعداده لمواجهة الحياة. ويبدو أن حبنا لعقائدنا الدينية لم يبرح مرحلة الطفولة بعد. لعلنا مازلنا نذكر إقدام عدد لا يتجاوز أصابع اليد من السيدات المسيحيات على اعتناق الإسلام؛ وحجم ابتهاج العديد منا بتلك الأحداث كما لوكنا نشكو قلة عددية أو اننا حيال إعلان خالد بن الوليد أو عمر ابن الخطاب لإسلامه، ولعلنا نذكر أيضا فزع العديد من الإخوة المسيحيين واستماتتهم لاستعادتهن إلى الكنيسة كما لو كان تركهن للعقيدة المسيحية دليلا علي ضعف تلك العقيدة وفسادها. ولعلنا عايشنا ونعايش أحداثا مشابهة في ساحتنا الإسلامية لعل آخرها ما جري خلال الأسبوع الأخير من رمضان الماضي حين بدا لثلاثة شبان مسيحيين توزيع أكياس من التمر على المارة وقت الإفطار ومع التمرات رسالة تحية من الكنيسة. لقد نشر أنه قد ألقي القبض على الشبان الثلاثة بتهمة التبشير أي الدعوة لاعتناق الديانة المسيحية. ولا أزعم أنني أعرف الأساس الفقهي لتهمة التبشير؛ ولكن ما أعرفه يقينا أنه لا توجد قط دعوة دينية أو حتى دنيوية لا تدعو الآخرين لاتباعها. ما استوقفني حقا وآلمني غاية الألم هو أن ديننا قد هان علينا إلى حد أن نظن أنه بقراءة عبارة «مع تحيات الكنيسة» قد يهتز إيماننا ونترك الإسلام ونعتنق المسيحية. وإذاما أضفنا إلى تلك التحذيرات المتصاعدة هذه الأيام من مخاطر التشيع والتبشير والإلحاد؛ ما أثاره الاتفاق الأمريكي الإيراني الأخير من دعوة مذهبية طائفية كريهة لإقامة محور سني يواجه الخطر الشيعي؛ وليس محورا عربيا مشروعا يواجه خطرا إيرانيا؛ لأصبح جليا أننا نساق دون أن ندري إلى أن نكون في زورق واحد مع الجماعات الإرهابية التي تقتل أبناءنا وترفع رايات جهادية تنتسب إلى السنة وتحارب نفس أعداء المحور السني المزعوم. إن من يدفعون بنا إلى ذلك المنزلق يستغلون ما يعرفونه يقينا من هشاشة تديننا؛ ومدي الفزع الذي ينتابنا إذا ما تصورنا إهانة توجه لديننا، أو مؤامرة تحاك له؛ ومن ثم فقد رسخوا في وعينا أنه كلما ارتفعت أصوات مكبرات الصوت بالأذان؛ وكلما ارتفعت المآذن تعلوها مكبرات الصوت عالية مدوية تصرخ بخطابات دينية؛ كان ذلك دليلا قاطعا علي علو العقيدة الإسلامية؛ مع ذلك فقد ترسخ في وعينا في نفس الوقت أن عقيدتنا «الراسخة» تهتز أركانها لو عينا مسلمة وقعت على صورة صليب أو أبراج كنيسة؛ أو أذنا مسلمة تستمع لتراتيل كنسية أو لأجراس كنيسة؛ أما لو تجرأ أحدنا علي اقتناء أو قراءة الكتاب المقدس لدي المسيحيين بعهديه القديم والجديد فإنها الكارثة القاضية علي إيمانه. وفي خضم ذلك الترويع المصطنع لا يطل أحد على واقع الأقليات المسلمة التي تعيش في مجتمعات علمانية دون مآذن تعلوها مكبرات الصوت ودون حجر على دعوات التبشير؛ فإذا بتلك الأقليات بفعل قوانين علمية لا تغيب عن المشتغل بعلم النفس الاجتماعي؛ يزدادون تمسكا بعقيدتهم تمسكا يصل ببعضهم إلي تخوم التطرف والغلو. والسؤال هو: هل كنا كذلك دوما؟ هل كان تديننا هشا هكذا عبر الأجيال؟ لماذا لم تستفز «الأوثان» الفرعونية عمرو بن العاص حين فتح مصر؟ كيف تحملنا خلال ثورة 1919رؤية الهلال رمز الإسلام يعانق الصليب رمز النصرانية دون أن يغلي الدم في عروقنا؟ كيف كنا لا نستنكف أن نسمع أن الحاجة فلانة هرعت لتأخذ بخاطر جارتها المسيحية لأن ابنها ترك المسيحية واعتنق الإسلام ليتزوج من مسلمة؟ كيف لم تغل الدماء في عروقنا ونحن نشاهد أمهاتنا وجداتنا يكتفين بطرحة بسيطة تغطي الشعر، وأخواتنا ينطلقن سافرات، وفي حقائب بعضهن شال لتغطية الشعر فى أثناء الصلاة؟ كيف لم نحس تناقضا البتة ونحن نترضى علي معاوية وعلي وعثمان والحسين والسيدة عائشة والسيدة فاطمة رضي الله عنهم جميعا؟ لعل للحديث بقية لنطل علي ملامح تاريخ تديننا المطمئن وكيف تسللت إليه الهشاشة لمزيد من مقالات د. قدري حفني