توجيهات من وزير التعليم للتحقيق مع مدرسة دولية لهذا السبب    سيارة مرسيدس GLC الكهربائية.. تصميم كلاسيكي بإمكانات عصرية    «لأسباب شخصية».. استقالة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي من منصبه    منتخب مصر يخوض تدريباته باستاد العين استعدادا لمواجهة أوزبكستان وديا    الأهلي يفوز على سبورتنج في ذهاب نهائي دوري المرتبط للسيدات    وقف الإجازات ونشر السيارات.. 6 إجراءات استعدادًا لنوة المكنسة بالإسكندرية    رئيس المتحف الكبير: ندرس تطبيق نظام دخول بمواعيد لضمان تجربة منظمة للزوار    مراسل إكسترا نيوز بالبحيرة ل كلمة أخيرة: المرأة تصدرت المشهد الانتخابي    «هيبقى كل حياتك وفجأة هيختفي ويسيبك».. رجل هذا البرج الأكثر تلاعبًا في العلاقات    أحمد السعدني يهنئ مي عزالدين بزواجها: سمعونا زغروطة    أمين بدار الإفتاء يعلق على رسالة انفصال كريم محمود عبد العزيز: الكلام المكتوب ليس طلاقا صريحا    رئيس العربية للتصنيع: شهادة الآيرس تفتح أبواب التصدير أمام مصنع سيماف    تهديد ترامب بإقامة دعوى قضائية ضد بي بي سي يلقي بالظلال على مستقبلها    هل يشارك الجيش التركي ب«عمليات نوعية» في السودان؟    كريم عبدالعزيز يوجه رسالة لوالده عن جائزة الهرم الذهبي: «علمني الحياة وإن الفن مش هزار»    جائزتان للفيلم اللبناني بعذران بمهرجان بيروت الدولي للأفلام القصيرة    تقرير لجنة التحقيق في أحداث 7 أكتوبر يؤكد فشل المخابرات العسكرية الإسرائيلية    الجارديان: صلاح خطأ سلوت الأكبر في ليفربول هذا الموسم    هند الضاوي: أبو عمار ترك خيارين للشعب الفلسطيني.. غصن الزيتون أو البندقية    ضبط أخصائي تربيه رياضية ينتحل صفة طبيب لعلاج المرضى ببنى سويف    رئيس مجلس الشيوخ يستقبل رئيس نادي قضاه الأسكندرية    الهيئة الوطنية للانتخابات: لا شكاوى رسمية حتى الآن وتوضيح حول الحبر الفسفوري    استجابة من محافظ القليوبية لتمهيد شارع القسم استعدادًا لتطوير مستشفى النيل    ديشامب يوضح موقفه من الانتقال إلى الدوري السعودي    المخرج عمرو عابدين: الفنان محمد صبحي بخير.. والرئيس السيسي وجّه وزير الصحة لمتابعة حالته الصحية    الصين تحث الاتحاد الأوروبي على توفير بيئة أعمال نزيهة للشركات الصينية    الجامعات المصرية تشارك في البطولة العالمية العاشرة للجامعات ببرشلونة    هؤلاء يشاركون أحمد السقا فى فيلم هيروشيما والتصوير قريبا    إبداعات مصرية تضىء روما    الرئيس السيسي: مصر تؤكد رفضها القاطع للإضرار بمصالحها المائية    انقطاع التيار الكهربائى عن 24 قرية وتوابعها فى 7 مراكز بكفر الشيخ غدا    هل يجوز تنفيذ وصية أم بمنع أحد أبنائها من حضور جنازتها؟.. أمين الفتوى يجيب    الزمالك يشكو زيزو رسميًا للجنة الانضباط بسبب تصرفه في نهائي السوبر    تأجيل لقاء المصرى ودجلة بالدورى ومباراتي الأهلى والزمالك تحت الدراسة    نقل جثمان نجل مرشح مجلس النواب بدائرة حلايب وشلاتين ونجل شقيقته لمحافظة قنا    هل الحج أم تزويج الأبناء أولًا؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف نتغلب على الضيق والهم؟.. أمين الفتوى يجيب    الفريق ربيع عن استحداث بدائل لقناة السويس: «غير واقعية ومشروعات محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ»    توافد الناخبين على لجنة الشهيد إيهاب مرسى بحدائق أكتوبر للإدلاء بأصواتهم    حادث مأساوي في البحر الأحمر يودي بحياة نجل المرشح علي نور وابن شقيقته    الحكومة المصرية تطلق خطة وطنية للقضاء على الالتهاب الكبدي الفيروسي 2025-2030    عمرو دياب يطعن على حكم تغريمه 200 جنيه فى واقعة صفع الشاب سعد أسامة    غضب بعد إزالة 100 ألف شجرة من غابات الأمازون لتسهيل حركة ضيوف قمة المناخ    تأجيل محاكمة 8 متهمين بخلية مدينة نصر    الكاف يعلن مواعيد أول مباراتين لبيراميدز في دور المجموعات بدوري أبطال أفريقيا    ضمن مبادرة «صحح مفاهيمك».. ندوة علمية حول "خطورة الرشوة" بجامعة أسيوط التكنولوجية    بعد قليل.. مؤتمر صحفى لرئيس الوزراء بمقر الحكومة فى العاصمة الإدارية    مراسل "إكسترا نيوز" ينقل كواليس عملية التصويت في محافظة قنا    طقس الخميس سيء جدًا.. أمطار وانخفاض الحرارة وصفر درجات ببعض المناطق    إقبال على اختبارات مسابقة الأزهر لحفظ القرآن فى كفر الشيخ    بعد غياب سنوات طويلة.. توروب يُعيد القوة الفنية للجبهة اليُمنى في الأهلي    وزير الصحة يؤكد على أهمية نقل تكنولوجيا تصنيع هذه الأدوية إلى مصر    محافظ الإسكندرية: انتخابات النواب 2025 تسير بانضباط وتنظيم كامل في يومها الثاني    "البوابة نيوز" تهنئ الزميل محمد نبيل بمناسبة زفاف شقيقه.. صور    محافظ قنا وفريق البنك الدولي يتفقدون الحرف اليدوية وتكتل الفركة بمدينة نقادة    بنسبة استجابة 100%.. الصحة تعلن استقبال 5064 مكالمة خلال أكتوبر عبر الخط الساخن    إيديتا للصناعات الغذائية تعلن نتائج الفترة المالية المنتهية فى 30 سبتمبر 2025    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمة فى رجل
نشر في الأهرام اليومي يوم 27 - 08 - 2015

هو أجمل شخصية روائية لم يكتبها .. أرض مصر العفية السمراء الطارحة رُماناً وعنباً وفاكهة وورداً وشوكاً وعصفاً .. وكل ما تجود به الأرض من حياة نابضة غير مفتعلة بها الصالح والطالح والسراء والضراء .. أشجار نجيب محفوظ الممتدة الجذور .. فلتت من أسطورة الكمال المثالي المفتعل ..
شخصيات خاصة ومُلهمة .. وكيف لا تكون ومبدعها من أعظم أدباء الرواية في القرن العشرين كانت قدرته الفذة تتجلى في التقاط تلك الأمشاج البشرية المبتسرة ووضعها تحت مجهر التحليل والنقد الاجتماعي .. ترابه تبر .. ولغته في غاية النصوع .. بل أن رصيده اللغوي في مجمل أعماله، من المساهمات الجليلة التي تحصى في قاموس العربية الأدبي .. سلامة فطرته ونفاذ بصيرته ورهافة حساسه، كلها عوامل جعلت العمق والبحث عن المعنى المفتقد والأشياء التي تساقطت ولم ندركها خاصة بعد ثورة يوليو 1952، لها قيمة عظمى في أدبه.
جاء في حيثيات جائزة نوبل التي منحت له عام 1988:
«أعطى إنتاجه دفعة كبرى للقصة كمذهب يتخذ من الحياة اليومية مادة له.. كما أنه أسهم في تطوير اللغة العربية كلغة أدبية .. ولكن ما حققه نجيب محفوظ هو أعظم من ذلك فأعماله تخاطب البشرية جمعاء».
لغته تستدعي التريث طويلاً أمامها .. فالحرافيش كتبت بأسلوب فريد لم تشهده رواية عربية من قبل .. إضافة إلى رنة الحزن .. والأحوال والمواجيد الصوفية ونداء الأحبة من وراء الجبال .. وتهويات الدراويش وأناشيد التكية وتسبيحات الأولياء والأذكار - والشعور بإقرار محفوظ أن الصوفي ابن وقته، لكن سعة خياله وقدرته على خلق صورة جديدة، وشخصيات درامية تتكئ على واقع درامي ليس نمطياً أو مستنسخاً أو متشابهاً، جعل قدرته على إحكام الحبكة الدرامية في ذروتها، عالم نجيب محفوظ متداخل متعدد الأصوات يتشظى فيه السرد لا تنفرد فيه شخصية برأي سلطوي .. عالم تختلط فيه القداسة بالدنس بالعادات وقوة الإرادة «في السكرية: إرادة الحياة تجعلنا نتشبث بالحياة بالفعل ولو انتحرنا بعقولنا».
يرصد الأب جومييه كيف أن هذا الحكَّاء .. صاحب القفشات والنكات مع باعة الكتب والبسطاء كما الأصدقاء .. كانت لديه ملكة لغوية عجيبة رصدها في الثلاثية وبهره أنه لم يجد إلا مرات قليلة جداً : « لا الذي ولا التي ولا سائر أخواتها الذكور والإناث» دليل على قوة هندسته الداخلية وبنيانه التعبيري الراسخ في عمل تجاوزت صفحاته الألف .. وهذا لا يتأتى أبداً ارتجالا»ً.
ينفذ إلى الحقائق بسليقة الصوفي .. فيلتقط بداية الخيط بدأب المعايشة واحترام العادات اليومية في الكتابة والمشي ورصد التحولات الكبرى .. رصد زكي سالم تلميذه ورفيق دربه في السنوات الثلاثين الأخيرة ما أسماه ب «فلسفة الحب والاتساع الإلهي ،وسعة الصدر التي تشمل كونا بلا نهاية كان يفتح نجيب محفوظ له الباب على مصراعيه على الدوام .. في أصداء سريته الذاتية يرصد حركة الزمن وكان يمتلك حياله رؤية خاصة جداً يبدو فيها أحياناً خارج دائرة القانون الأزلي.. فيسير معه في الاتجاهات الأربعة تقدماً ونكوصاً في آن .. في أصداء السيرة يبدو النسيان في حركة الزمن كالعدم حين تضعف حواس الإنسان ويفقد ذاكرته بمرور العمر .. علق زكي سالم على ذلك بقوله « مبدع ذاق فعرف ومن ثم يدعونا إلى فهم حقيقة وجودنا».
من العسير أن تكتشف كلمات شاذة أو غرائبية أو جملة غامضة في أعماله بالرغم من ولعه باستخدام الرمز إلا أن الكتابة لديه – بوعي أو بدون وعي – كانت تتدرج في مستويات القراءة والتلقي من الواقع المرتبط بالحكاية إلى الرمزي الذي تتصاعد فيه السمات التجريبية وهو مستوى خاصة الخاصة ولكن بذكائه الشديد كان يترك كل فريق ليستخلص مكونات هذه «الوجبة الروائية» بنفسه .. قيمة العائلة والمكان الذي يتحول إلى زمان (كالحُسين والجمالية) والغموض الذي يتراءى أحياناً من وراء غلالة نفسية تحجب المعنى.. كلها من دلائل أدبه الفريد الذي كان يتوارى علم النفس في زاويته الخافتة الضوء .. مشبعاً الأبطال والأحداث بالتحليلات التي تساق بدلال شديد .. فكل محجوب مرغوب .. فما بالنا إذا كان الغموض موحياً.
تتجلى عظمته الإنسانية في تحيزه للفرد وارتباطه في أزمته بعادات وتقاليد الجماعة وفي إطار الزمان والمكان «في اولاد حارتنا» .. «ديننا عظيم وحياتنا وثنية» .. إلا أنه لا يضحي أيضاً بالفرد في سبيل الجماعة بالرغم من إقرار هذا الأدب الواقعي الرفيع أن الحتمية والجبرية تخضع لهما معظم شخصياته بانحناءة أدب وتبجيل.
يرى أديب نوبل أن حب الدنيا آية كبرى من آيات النعم.. وفي «الحرافيش» سنكتشف موضعه المفضل بفطنة القارئ المحب من قوله على لسان عاشور الناجي: «إناس شغلتهم الدنيا وإناس شغلهم الموت» ليكون الوسط الذهبي هو مكانه وطبقته التي يسعى للتعبير عنها مستلهماً أحوالها ومتاعبها وأشواقها وعيوبها .. الطبقة الوسطى هي «رمانة الميزان» التي تحفظ العادات والتقاليد حتى الرمق الأخير ولا تسير حين تشيع جنازة هذه الآفات أحياناً أو العادات إلا في الصفوف الخلفية.. الطبقة الوسطى هي الطبقة التي يفوح منها عبق التاريخ والتوابل وإحياء مصر القديمة بتجلياتها الجغرافية والبشرية المتنوعة .. وحين انسحبت هذه الطبقة بعد أن سحقتها الحياة .. ارتد إلى داخل ذاته مستلهماً أحلامه نقاهته النقية.
الحديث عن إضاءاته الفلسفية، بدأ قبل الزمان بزمان منذ كان طالباً في المرحلة الثانوية .. حاول أن يعبر عن نفسه من خلال أدبه بما تهيأ له من عبقرية وخيال وقدرة على استلهام العام للتعبير عن الخاص بإطلالة مميزة وفي الوقت الذي كان العالم يغادر فيه الواقعية وينعاها تحول إليها مانحاً أقوى الأمثلة العملية على وضوح الرؤية ورعاية مشروع العمر وعدم التقيد باستنساخ التوجهات العالمية، محذراً أيضاً في حواراته من خطر الاستغراق في تفاصيل الحياة اليومية التي لا تؤدي إلى الوقوف موقفاً متكاملاً من الحياة.
بدءاً من أول أعماله الشهيرة «عبث الأقدار» التي نشرها له سلامة موسى عام 1939.. مرت حياته الأدبية بمراحل رومانسية أنتجت « رادوبيس » وكفاح طيبة وبين عامي 1944 – 1952 كانت جواهره الاجتماعية تتلألأ بالنقد والتحليل والتقريع الخفيف وشد الودن ثم الهجاء البليغ لثورة يوليو 1952 وكل ما ترتب عنها من سلبيات تدرجت في وقتها وما كان لها أن تكون .. وفي عام 1957 بلغت رمزيته ذروتها برواية « أولاد حارتنا «واللص والكلاب» و«السمان والخريف وثرثرة فوق النيل وميرامار والحرافيش» .. إضافة لمجموعات قصصه القصيرة : همس الجنون ، ودنيا الله ، وخمارة القط الأسود، وبيت سيئ السمعة.
حارة العشاق
يعتز أديب نوبل بحوارياته وأعماله المسرحية ذات الفصل واحد في مجموعة «تحت المظلة» والتي تحتوي خمس مسرحيات يعمد فيها إلى التجريد والحوار وتساؤلات الذات ويصفها بأنها لا مثيل لها في الأدب العالمي – باستثناء «بنك القلق» – لتوفيق الحكيم عن المسرح يقول بكل تواضع : من الناحية الفكرية أنا كاتب مبتدئ لا يمكن أن انتهي إلى كتاب المسرح الجماهيري.. مازلت أجرب ولهذا فأنا أنضوي تحت لواء المسرح التجريبي .. من أجمل تعبيراته عن التجريب والواقعية قوله : « حتى أحلامنا الجنونية هي واقع بالنسبة لنا في حالة جنون .. مؤكداً أن كل عمل كتبه في حياته سواء كان قصة أو رواية أم مسرحية أم حوارية مثل مجموعة «تحت المظلة» كان مستوفى من الواقع سواء ظهر بصورة واقعية أو بشكل رمزي .. أي فن يفقد صلته بهذا الواقع ليس فناً»..
وفي إطار بحث الإنسان عن الحقيقة وتأرجحه بينها وبين السعادة وتضحيتها بالحقيقة في سبيل تحقيقها .. يشير أديبنا الكبير إلى أنه : «يبحث عن الحقيقة وينشرها مضحياً بالسعادة ومتحملاً ما قد ينجم عنها من الألم.. فالإنسان يبلغ مرتبة الكمال عندما يتضح له في لحظة ما أن الحقيقة كل الحقيقة هي السعادة» مسرحيات النجيب تخضع شأن كل أعماله لإلحاح اللحظة التاريخية وتقع تحت دائرة وتأثير الهموم والأحداث السريعة والمتغيرة .. لذلك تسعفه القصة القصيرة والمسرحية حين تخذله الرواية بامتداداتها التي تستغرق زمناً طويلاً يمتد لسنوات .. موضحاً أنه ينشد في أعماله درجة من التجريد في التعبير لكي تصل إلى دلالة إنسانية عامة لكنه في كل الأحوال لابد أن يبدأ من الواقع فالمسرح يحتاج الى عقلية تركيبية أما الرواية فتحتاج إلى صبر طويل وعناء متصل وعقلية تحليلية وتركيز شديد وقلما من أبدع في المجالين .. هكذا يقر هذا العملاق بما ينافي ما يدعيه بعض الأدعياء من تعدد الملكة الثنائية لديهم (مسرحياً وروائياً) ويذكر أن مسرح سارتر لا يقارن بما كتبه من روايات .. بينما تتفوق روايات تولستوي على مسرحه .. الوحيد الذي جمع بين الحسنيين هو تشيكوف.
في أكثر من حوار أكد عدم تأثره بأحد .. مجرد إعجابات بكبار الأدباء العالميين المشاهير - وعلى المستوى المحلي كانت مسرحيات الحكيم محل تقديره الشديد.
وإلى الشاردين في المجال الإعلامي والسينمائي وانفصالهم عن الواقع اهديهم هذا التأصيل الأدبي للحظة التاريخية للكتابة، وهل تفرض سطوتها؟ أقر كاتبنا: «بغير جدال!.. المتأمل في ظروف اللحظة التاريخية التي تعيشها مصر والوطن العربي سيدرك على الفور طبيعة ذلك الموقف المشحون بالصراع الحاد الذي يصل إلى ذروته بالصدام المباشر والحرب وأكثر الأشكال الأدبية والفنية التي تناسب هذا الموقف هو «الأدب الإعلامي «واقرب الأشكال إليه من حيث الإيجاز والمباشرة.. هو الشعر والقصة القصيرة والمسرحية من فصل واحد، ألوان أدبية يمكن أن توجد في ظل المواقف الحادة الخاضعة للتغيير من لحظة لأخرى لافتاً الانتباه إلى أن رؤية الناس لحياتها أو شيء من حياتها فوق المسرح أهم من كل القواعد.
أديب نوبل كان مُبجلاً للعلم يرى أهمية اطلاع الإنسان على العلم والمعرفة ومن ذلك قوله: «عالم العقل يفسح المجال أمام الشعور ويبث فيه حياة جديدة ويمده بالجديد والطريف والممتع، وحين سئل عن سحر الغموض الفني الذي يُكسبه جمالاً وسحراً مقارنة بالعلم الذي من شأنه معرفة الحقيقة وكشف الغموض ووأد الفتنة، أجاب بعبقرية أخاذة:
«العلم يجلو حقائق الأشياء لكنه لا يزعم أنه يبين كل الحقيقة.. لا يزال علمنا موجة من النور الخافت في محيط لا نهائي من الظلام».
«أرجح أن تمثل سلسلة كتبي في النهاية فلسفة ما تكونت خطوة خطوة على أساس التجربة والثقافة ولعلها لم تقل كلمتها النهائية وربما لن يصل إلى هذه الكلمة على الإطلاق».
رحم الله أديب نوبل في ذكرى رحيله نستلهم روحه وأدبه وشغفه بمصر معشوقته الكبرى .. التي قضى جَلّ حياته يؤرقه البحث عن أفق لخلاصها ونهضتها وطرح الأسئلة الكبرى لمعناها الكبير الكائن في أعماق أبنائها.. رافعاً شعار «المنتمي » في أدبه الذي لفظ كل الانتهازيين.. حقاً لم يكن أديباً عالمياً حاز جائزة نوبل .. لكنه كان حقاً «أمة في رجل».
مشاهد فى ذاكرة الزمن
مشهد عقيلة راتب فى «القاهرة 30» تعرض لمظلمة فنية وتاريخية
أسباب انتشار صور أمينة وسى السيد على «فيس بوك»

من رماد التراكيب القديمة تصك عبارات جديدة وتتحرك اللغة دون أن نشعر بها شأن دوران الأرض – هكذا وصف « سيد الدهشة» نزار قباني كيف تتجدد اللغة المشحونة بالأحداث المستجدة –وإذا أمعنا النظر في سينما نجيب محفوظ سنجد أن تفاصيل بناء الشخصية وقوة الحركة وحِدَّة الصراع والنهايات المفتوحة والمناخ الاجتماعي المشع بالتفاصيل كلها أصقلت أفلامه بقوة الجانب الأدبي الذي لا يضمر مهما مر عليه الزمن ..
ومن المشاهد أنه مع اتساع فضاء وسائل التواصل الاجتماعي .. إضافة لصور المنشورات المكررة للحكم والأمثال والأدعية والأذكار وغيرها مما تعُج به الشاشات الزرقاء .. تأتي صور بعض أفلام نجيب محفوظ لتسجل حضوراً لافتاً على «فيس بوك» ونخص بالذكر أفلامه : بين القصرين والقاهرة 30 وأحياناً السمان والخريف، تأتي الصور لشذرات من المشاهد يتم فيها استلهام الحوار الأصلي ومحاكاته بصورة مستحدثة فمن ينسى ثورته المتأججة وهو عائد من لهوه ولعبه ونزواته بخُفى حنين بعد أن صدته صبية محظيته العالمة .. حيث الرجل يعيش بصورة مزدوجة سلطاناً وشيخ قبلية في منزله – يحاسب أهله حساباً عسيراً وزوجته حتى لو ذهبت لزيارة الحسين « كان زمن المجد الرجالي» على حد تعبير نجيب محفوظ – حين كان ( الأب ) هو كل شيء .. في لحظات يستقبله الأبناء «رعيته الصغرى» ويقبل «ياسين» يده بخبث قائلاً: حمد الله على السلامة من بورسعيد يا بابا .. وتمر الثواني دهراً وتقر أمينة التي لم تتمرس على الكذب بفعلتها .. وبقبضة يده الباطشة المستبدة .. ينذرها بالطرد من جنته فور تعافيها : معلش يا سي السيد .. العفو والسماح !! وتأتي الإجابة القاطعة : اخرسي .. عقب ثورة يناير تحديداً لمع بوستر أمينة في فيس بوك ومع ثبات المشهد كان يتغير التعليق ويزداد سخرية ومرارة من الأوضاع .. أو إعلاء سقف الدعابة ..
أما محجوب عبد الدايم وقرونه الشهيرة في « القاهرة 30 «فإنها حقيقة الأمر لم تحتج لإعادة إنتاج بصري .. فالمشهد محفور في مخيلة الأغلبية مذيلاً بكلمته الشهيرة «طُز» التي تستدعي في الملمات الشخصية والنكبات الفردية التي يطاح فيها الطموح وخطة التسلق بالضربة القاضية.. القاهرة 30 أكثر أفلامه إغراء لاستخدام التورية والاستدعاء.. لم اعرف شاباً أو فتاة في سن المراهقة لم يشدهما هذا الفيلم .. اذكر أن ابني الكبير حين شاهده لأول مرة عن طريق المصادفة وهو جالس معي في انتظار صديقه لينطلقا كالمعتاد .. أنه أصر على استكمال الفيلم وألغى الميعاد .. وفور انتهائه حكى قصته للصديق وسكب على شخصي الضعيف سيلا من الأسئلة والاستفسارات .. هو عينة ونقطة في بحر .. بهرهم هذا الرجل بإنسانيته المنبعثة عبر ما يقرب من قرن من الزمان الفاصل بينه وبينهم .. أي عبقرية ؟ وأي حضور ؟ وأي ألق لا يضام بل يتوهج بالاستدعاء حثيثاً كما يسري الزيت في المصباح المنير .. في «القاهرة 30» مَظّلَمة فنية وتاريخية لم يلتفت إليها أحد فيما أعتقد .. فما من مرة من المرات المتكررة التي أشاهد فيها هذا العمل الفذ إلا وأكتم أنفاسي ويشرئب عنقي انفعالاً وتماهياً مع القنبلة الموقوتة التي تندفع بعد سرينة طويلة من الأجراس قائلة : هو فين البيه الوزير جوزي ؟ قاسم بيه !! أتحدث عن القديرة المقتدرة عقيلة راتب .. في مشهد يكفي لتخليد تاريخها السينمائي بأكمله من تفاصيل درامية غير عادية من زوجة الوزير الخائن .. اندفاع ثم انفعال ثم انفجار يوشك أن يحدث وينتزع الفتيل حين يفتح قاسم بيه باب غرفة النوم .. ليبدأ القتل البطيء للفساد الجماعي الذي يبلغ ذروته في هذا المشهد .. وتبلغ المأساوية أوجها .. وصوت أحمد شفيق « أبو محجوب عبد الدايم « يتهدج بالبكاء المكتوم والنحيب على ضياع الابن والشرف والكرامة .. الضياع في أكمل معانيه الذي يتوازى مع الموت .. «أنا راجع القناطر .. ولو سألوني عن محجوب حقول لهم : محجوب مات . محجوب مات واندفن !!» يظل مشهد القرنين سمة يتم استرجاعها بصورة دائرية – لربط المسببات بالنتائج – لا شعورياً – يعيش المشاهد مأخوذاً باللوحات التشكيلية المسماة « مشاهد سينمائية» في هذا الفيلم.
وعلى نفس المحك الأخلاقي تختبر مثالية « عيسى الدباغ» المحبطة وثوريته المجهضة في السمان والخريف .. لتنال الموهبة الجبارة لمحمود مرسي وهو يحدق في ريري «نادية لطفي» حين تخبره أنها حامل.. وتتشكل خيوط السحر في جزء ما الثانية بين دموع ريري واستضعافها.. وجبروت عيسى وقسوته ودفعه لها على درجات السلم وإلقاء أحذيتها في وجهها.. عباءة واسعة تضم سمات وبصمات ومشاهد خاصة جداً في أفلام نجيب محفوظ إنه أدب الأنين الخافت لا الصراخ الذي نهرب منه في الأفلام الآن حقاً الإبداع رهانه الوحيد هو الزمن.


محفوظ للغرب فى حفل تسلم «نوبل»: آن الآوان لإلغاء عصر قطاع الطرق

سيداتي، سادتي، في البدء أشكر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل على التفاتها الكريم لاجتهادي المثابر الطويل وأرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثي إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم ،
ولكنها هي الفائز الحقيقي بالجائزة ، وإني كبير الأمل ألا تكون المرة الأخيرة ، وأن يسعد الأدباء من قومي بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالَمِيِّين الذين نشروا أريج البهجة والحكمة في دنيانا المليئة بالشجن.. لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب قصصاً؟ وهو تساؤل في محله .. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدِّد سُدَّادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام في آسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون في إفريقيا من المجاعة.
كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصاً ؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب لكل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره وفي هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتلاشى أنَّات البشر في الفراغ. لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد. وزمننا يبشر بالوفاق بين العمالقة ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب. وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعي فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقي. قديماً كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها معتبرا بقية الأمم خصوماً.
اليوم يجب أن تتغير الرؤية ، اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره بالمسئولية نحو البشرية جميعاً.. وما العالم المتقدِّم والثالث إلا أسرة واحدة ، يتحمل كل إنسان مسئوليته نحوها بنسبة ما حصَّل من علم وحكمة وحضارة. لا تكونوا متفرجين على مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دوراً نبيلاً يناسب أقداركم. إنكم من موقع تَفَوُّقِكُم مسئولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان فضلاً عن الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل. آن الأوان لإلغاء عصر قُطَّاع الطرُق والمرابين. نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية.
سادتي ..
معذرة. أشعر باني كدَّرتُ شيئاً من صفوكم، ولكن ماذا تتوقعون من قادم من العالم الثالث ؟ أليس كل إناء بما فيه ينضح ؟ ثم أين تجد أنَّات البشر مكاناً تتردد فيه إذا لم تجده في واحتكم الحضارية التي غرسها مؤسسها العظيم لخدمة العلم والأدب والقيم الإنسانية الرفيعة ؟
رغم كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف كانت إن الخير سينتصر في العالم الآخر ، فإنه يحرز نصراً كل يوم ، بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يُجحد ، فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش – أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان. غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال:
إن حزنا في ساعة الموت أضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
سادتي .. اكرر الشكر ، وأسألكم العفو.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.