«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسرح شفاعات
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 12 - 2011


ثورأعمي.
لم يكن العمي من صنع الطبيعة، لكنه ارادة قوي مسيطرة علي المكان كله، وضعت عصابة ثقيلة علي عين الثور، ليدور في الطاحونة،...وتدور معه الحياة في ذلك المكان الواقعي تماما، الاسطوري تماما.
هذه واحدة من اشهر الاستعارات في السينما المصرية عن مكان تحكمه انثي تشبه الالهات الاسطوريات.
"شفاعات " التي يحكي فيلم صلاح ابو سيف، عن شبابها الدائم ...هي تلك القوة، العلوية، الجبارة، التي تحرك الثور الاعمي لإدارة الماكينة الكبيرة لعالمها، او مسرحها الشخصي. الفتوة الريفي ثور جديد، يسير بكامل عماه إلي مصيدة الالهة "شفاعات".
مسرح آكلة الرجال في قلب الفيلم مثل مدينة الملاهي الضخمة وسط مدينة تتصارع فيها رغبات وقيم، غريزة واخلاق، وانفجارات الجسد في لحظات القوة والضعف.
ماكينة الملهي الشخصي للسيدة "شفاعات " من صمّمها؟
هنا لابد ان يظهر نجيب محفوظ.
ليس لأنه مصمم المسرح الشخصي للسيدة "شفاعات "، ولكن لانه بتأثير و نوع من الشراكة الناعمة، ساهمت في صنع مزاج مختلف في تاريخ السينما المصرية.
نجيب محفوظ ظهر في السينما في لحظة تتجه فيها إلي "واقعية "..تكتشف ذات المجتمع...وإذا كان الأدب سار باتجاه "الأدب القومي"..أي الأدب الباحث عن ملامح " قومية" أو " وطنية " أو "...خاصة" إلي آخر الأوصاف المهووسة بفكرة "الفن ذو الهوية " أو " هوية الفن " و هما معا يتخيلان فنا له رسالة في اكتشاف الواقع و توجيهه في وقت واحد.
السينما كانت مغرية اكثر من الادب بما تملكه من إمكانات تقنية في " تصوير " الواقع بدرجة تفوق " التمثيل " الأدبي بما تعجز فيه الكتابة عن "تسجيل " او " توثيق" الواقع.
السينما التقت مع نجيب محفوظ في لحظة تمتزج فيها السذاجة مع النوايا الطيبة..وتبحثان عن موهبة تمنح للواقعية " سحرها " الذي سيبقي.
1
تخيل سينما واقعية بدون نجيب محفوظ؟
الاجابة سريعة : سيكون حصادها ساذجا، او خاضعاً إلي صور ذهنية مفارقة لفن " الصور المتحركة" كما استقبل الجمهور الواسع صدمة الفيلم الاول للوميير.
..اجابة مبالغة؟
ربما.
لكن الامر يحتاج إلي بعض التأمل لما فعلته الشراكة الناعمة بين نجيب محفوظ وصلاح ابوسيف.
نعم شراكة ناعمة لا تعتمد فقط علي عدد الاعمال المشتركة ولا علي الانجاز الذي يجعل اكثر من فيلم بين هذه الاعمال علي قائمة علامات السينما المصرية.
لكنها شراكة صنعت مزاجاً سينمائياً، ذروته هو صلاح أبوسيف.
هناسنعود الي مسرح شفاعات وملهاها الشخصي.
استعارة الثور والطاحونة هي مفتاح الدخول لأسطورة "شفاعات" التي تبدو في بناء السرد، مفرطة في واقعيتها.
والإستعارة هي غرام صلاح أبو سيف،وأسلوبه في منح الواقعية درجة تبعدها عن الابتذال و السذاجة.
وبسبب هذه الغرام بالاستعارة قامت شراكة صلاح ابو سيف و نجيب محفوظ.
استعارات صلاح أبو سيف، ثقلها أدبي، تركيب من معان "مكتوبة بالكاميرا" علي حد وصف يمكن ان نراه الان " ساذجاً" او " قديماً" لكنه كاشف عن طريقة تفكير صلاح أبو سيف في السينما، طريقة سنري أنها تريد إلحاق السينما بقوة فن أقدم منها..و له مرجعيات و ثقل معنوي في الثقافة.
إلحاق السينما بالأدب تفكك بالضبط في لحظة دخول نجيب محفوظ.
بمعني أن محاولة تشبه السينما بالأدب في الاستعارة انتهت عندما انتقلت الإستعارة الي مجال السينما، واصبحت سينمائية أكثر منها أدبية.." صورة " وليست " تصويراً أو شروحا مصورة للكلمة ".
وهذا ماجعل لقاء صلاح أبو سيف بنجيب محفوظ..نقطة التحول الكبيرة.
نجيب محفوظ أول أديب يعمل بالسينما( من الجيل السابق كان توفيق الحكيم المتجول الكبير بين الأدب و المسرح..ورثه نجيب في أشياء كثيرة منها التجول..والتميز و التأثير في فن من فنون العرض المسيطرة علي كل لحظة...)
المهم لا جديد أو مبالغة في التأكيد علي أن نجيب محفوظ أكثر الأدباء تأثيرا في خلق مايمكن وصفه" الكتابة للسينما". و هذه ليست مسألة سهلة في ظل ثقافة، الكتابة عمودها الرئيسي، والكتاب معجزتها الكبري.
الكتابة للسينما اعتمدت في المحاولات الأولي علي تراث الفنون الراسخة : المسرح والحكي الشفاهي، أو الرواية، لكن كتلتها الرئيسية عاشت علي النقل والاقتباس، مع وضع رتوش محلية علي الباترون الهوليوودي.
صلاح أبو سيف مكتشف نجيب محفوظ ...وقبل أن يتحول إلي أيقونة الرواية أو حتي يكتشف هو بنفسه موهبته وحرفته، أبوسيف مثل قصاص الاثر، اشتم رائحة ما في الرواية الأولي، لم يكن اكتشافاً محدداً، ولا تصوراً جاهزاً بماذا سيفعل صلاح أبو سيف في اكتشافه.
المهم أن أبو سيف الذي كانت السينما تحولا في حياته أو خروجاً من مصائر بعيدة، وسار من أجلها رحلة تصلح فيلماً من الواقعية الساذجة عن عامل يتحول بعصامية إلي مخرج..لكن هذه الحكاية خفتت بالمقارنة مع صناعته للمزاج السينمائي الخاص و الفريد، و لم تعد حكاية صعود العصامي قادرة علي منافسة حكاية اكتشاف تيار..وسينما.
2
صلاح أبو سيف يكتب أفلامه.
لكنه ليس وحده.
يختار جسوره إلي توليف الحكاية، لتصبح في النهاية حكايته هو.
مؤلف..سابق علي " سينما المؤلف"، مخرج يكتب فيلمه عبر آخرين، في تصور للإخراج علي انه " كتابة " وليست مجرد خبرات تقنية، او مهارات العارفين بأسرار الكتالوج المعتمد في السينما العالمية.
يحب صلاح أبو سيف صناعة أفلام مسنودة برواية لها طرف واقعي : حادثة، أو جريمة، أو حكاية شخصية، أو حتي رواية مكتوبة.
في "شباب امرأة " تجمعت عدة عناصر : حكاية شخصية لصلاح أبو سيف مع انثي "آكلة رجال" في باريس، حين اقتربت منه، وقاربت علي امتصاصه، الحكاية الشخصية التقت مع رواية كتبها أمين يوسف غراب.
ولم يكتمل الفيلم إلا بشراكة نجيب محفوظ.
من منهما ( أبو سيف ومحفوظ) صنع استعارة الثور؟
الأديب أم المخرج ؟ أم هي تصميم فضاء مشترك تكون بينهما عبر نمنمات الصنعة والوعي ...فضاء يستدعي مرجعيات تمثيل الواقع كما لايراها آخرون من الواقعيين السذج، حاملي المرآةالعاكسة.
كيف تكون هذا الفضاء؟
ولماذا نجيب محفوظ الذي يبدو من هيئته، محافظاً، تقليدياً، هو أكثر الأدباء تأثيراً في صناعة استسلمت طويلا للاقتباس، وتمصير السينما الأمريكية والفرنسية؟
نجيب محفوظ لم يكن عابرا في السينما، رغم أن دخوله مجال كتابة السيناريوهات كان بسحر المئة جنيه الأولي التي حصل عليها أجراً عن أول سيناريو وكانت بالنسبة له مثل اكتشاف النفط في الجزيرة العربية.
كيف لعبت ثقافة نجيب محفوظ و رحلة تكوينه دوراً في هذا التأثير؟
وكيف التقت رغبة السينما في واقعية تكتشف بها ذات مجتمعها، مع ظهور نجيب محفوظ في عالم الأدب (نهاية الأربعينات)؟
3
لم يحب نجيب محفوظ كلمة " النهاية ".
لم يحبها لانها تقضي علي نزهته الخاصة في فضاء غريب وغامض اسمه:السينما.
طفل في الخامسة وفي الظلام مع أشباح صامتة تحكي له حكايات لا يريدها أن تتوقف،لايريد "الشغالة " أن تمسكه من ذراعه وتعيده الي امه في البيت.
"نجيب" المولود في سنة 1911 لم يكن يتمني أكثر من تمضية يومه كله في سينما "الكلوب" في خان جعفر المواجه لمسجد "سيدنا الحسين ".
كانت متعة مشاهدة صور متحركة بدون أصوات،لاتعادلها متعة، بالنسبة لطفل حلم وتمني أن يسكن " دار عرض"...كما حكي لرجاء النقاش في " صفحات من مذكرات نجيب محفوظ".
نزوة الطفل ليست عابرة، انه شغف جديد في القاهرة.
القاهرة مدينة نجيب محفوظ، و فضاء الوعي و مسرح دراما اجتماعية شغلت الجزء الاهم من أعماله.
الشغف بالسينما عند طفل في الخامسة يكشف عن ملامح جديدة في وعي طبقات علي جسر الانتقال من المجتمع التقليدي إلي مجتمع حديث.
ولد نجيب محفوظ بينما كان قلب القاهرة الحديثة يترسخ في مكانه، ويوحي بفضاءات جديدة لأهل المدينة متعددة القلوب ( الفرعونية و القبطية و الاسلامية..).
العقل الاستعماري قسم المدينة إفتراضيا إلي قسمين : حديث وقديم... أو بمعني من المعاني إلي كوزموبوليتاني وشرقي...والمدينة في أواخر القرن التاسع عشر وفيما عرف ب"الصحوة القومية " حاولت استعادة "صورتها" من أسر الصورة الاستعمارية التي تضع حدا فاصلا بين الحداثة والماضي.. أو بين الغربي والشرقي...العالمي والمحلي.
استعادة..فيها تصالح، و نرجسية معا كما بدت في كتابات الواقعية الأولي والتي كان نجيب محفوظ هو ذروتها الموهوبة. آخر طريقها إلي "تمثيل " الواقع واكتشافه.
هكذا عرف نجيب محفوظ أول طريقه بينما كانت المدينة الحديثة تسعي إلي تمثيلات جديدة لواقعها، تخرج تدريجيا من شكلها "الاستعماري" لتتصل بقلوبها الأخري، أو بمعني آخر كان السؤال الضمني لكل محاولات " تمثيل " الواقع هو: كيف تبني الجسور بين القاهرة القديمة والقاهرة الحديثة.
نجيب محفوظ ولد في قلب سعي المجتمع الي اكتشاف ذاته،اكتشاف بدا في تجلياته الاولي سياسيا، ساذجا، يسير في ركاب" صحوة امة" تكتشف حقيقتها المدفونة،ولا تخترعها.
اكتشاف قاد سياسيا الي ثورة 1919 و ادبيا الي الواقعية الاولي.
واقعية تخيلت أنها ستكتشف الواقع من خلال إعادة انتاجه ادبيا، بينما موهبة نجيب محفوظ في أن لواقعيتها قانوناً من داخلها، قانوناً يرتبط بفن الرواية و قوة حكاياته لا في في مماثلة السرد للواقع.
من هذه القوة..اصبحت روايات نجيب محفوظ، واقعا بحد ذاتها، و ابطال حكاياتها، لهم جسم واقعي جعلته السينما يكتسب قوة حضور تقترب من " الحقيقة ".
نجيب محفوظ اعطي للواقعية حسيتها، وخبرتها المحسوسة، وهوما يشير إلي أن شغف الطفل بالسينما إلي جانب كونه تطوراً أعلي للحكي، يكشف عن النزوع إلي مكان فردي، وسط جماعة كبيرة، مقعد شخصي، في صالة تضم عشرات الرواد يجلسون فرادي في طقس جماعي.
علاقة مختلفة بالمدينة، لا تتكون فيه الذاكرة ولا الوعي عبر الخيالات، ولكن عبر التعرف المباشر بالشوارع و الحياة، معرفة عبر الحواس لا خيالات لاتعمل بالذاكرة الحسية.
4
أحمد عاكف لم يكن صورة نجيب محفوظ عن نفسه.
بطل خارج من متحف البروجوازية الصغيرة ليعيد تمثيل تضحيتها الكبري لتعيش العائلة والاخلاق الحميدة.
أحمد عاكف هو نعي نجيب محفوظ لبرجوازية تحتضر في "خان الخليلي"، التي لم يكتبها نجيب محفوظ كعادته مع رواياته للسينما.
عاطف سالم المخرج، عندما اختار فريق الفيلم، لم يجد سوي عماد حمدي، الذي جسد فكرة الاحتضار النبيل للبرجوازي القديم ، وصنع منه" صورة " قريبة لمزيج نجيب محفوظ من التعاطف و السخرية.
هذه لعبة نجيب محفوظ المتورطة، يسخر ويتعاطف، يلعن ويكشف التناقضات، يلمس الخطوط الفاصلة بمهارة حسية، لا ذهنية فقط وهذا ماجعله مهما للسينما التي دخلت الي معركة " الواقعية واكتشاف الذات بثقلها و امكانياتها في نقل "الصورة ؛ بما لا يستطيعه الأدب.
نجيب محفوظ لم يكتب عن ابطاله من خيال غرفة مغلقة، لكنه ساكن مدينة، يمشي في شوارعها، يعبر جسورها، وله رحلة يومية، لها علامات ارتبطت به الي آخر حياته.
نجيب محفوظ برجوازي صغير، يلعب في مساحة وسط، هي اختراع أهل الشرق، الظرفاء لبرجوازيتهم، بين المادة والروح، الرأسمالي والعامل.
اللعب في دراما مجتمع صنع تاريخه برجوازيون صغار من جمال عبد الناصر إلي حسن البنا، اختار موقع الوسط بين حواف حادة، أنها برجوازية لها ملامح خاصة..
ولد نجيب محفوظ في بيت لم يعرف بعد الكهرباء. تسربت تفاصيل العالم الي وعيه علي الإضاءة الشحيحة
لمصابيح الكيروسين المنتشرة في بيوت "المستورين" من الطبقة التي ستكون بعد سنوات قليلة طليعة البرجوازية الصغيرة في مصر..
عرف أول بطولة خارج حدود البيت والأب مع سعد زغلول..
الزعيم القادم من بيئة متواضعة ليعبر عن أمل البلاد في
الحرية والاستقلال.. وعن آمال الفئات المهمشة في العبور إلي أماكن اجتماعية جديدة.. وهنا كانت ثورة زعيم "الوفد" في 1919 علي بعد سنوات من ميلاد نجيب محفوظ لكنها كانت الاقرب إلي تركيبته الخاصة الجامعة للمتناقضات في سلام
شخصي واجتماعي فريد.
هو متمرد لكن ليس إلي آخر مدي..ومخلص للتقاليد القديمة لكن ليس إلي حدود الجمود.. وبين التوق المنضبط إلي الجديد والهرب غير المنفلت من القديم اكتشف نجيب محفوظ"مكانه المريح"في الحياة والثقافة.
ولد نجيب في لحظات انتقال المجتمع إلي عصر جديد.. ترك نجيب محفوظ مصر القديمة، حيث كان يعيش في حي الحسين، إلي حي العباسية، فردوس الطبقة الوسطي الجديد وأحد مصانع وعيها وملاعب وجدانها..وهو ابن الجامعة الوطنية والثقافة الجديدة وابن المقاهي التي تتكون فيها حساسية مختلفة للمجتمع غير تلك التي تمردت عليها رغبة الأدب في اكتشاف ذات "قومية ".
لم يكن نجيب محفوظ أسير ازدواجية التعليم المدني والأزهري كما طه حسين، ولا موزعاً بين عشقين مثل توفيق الحكيم الممزق ثقافيا بين الشرق والغرب.. كان الحالة الوليدة لمثقف مصر
الحديث الذي يشحن وجوده الاجتماعي من ثورة التغيير وبدايات مراحل جديدة في تاريخ مصر.
هكذا كانت "فاطمة"تصحب ابنها " نجيب" إلي جولاتها الخاصة بين العباسية والجمالية.. وفي ضوء وعي الطفولة المندهش..
يذهب معها بحثا عن "البركة" في كنيسة "مارجرجس" بعد أن يتمسح في ضريح "الحسين" أو عن المتعة الغامضة في
مشاهدة "مساخيط" الفراعنة حيث تقضي أوقاتاً طويلة في
حجرة "المومياوات" بالمتحف المصري.
ثقافة غريبة علي سيدة لا تعرف القراءة و الكتابة..كانت "مخزن ثقافة" شعبية قديمة..ولم تدخل السينما غير مرة واحدة وكان فيلم "ظهور الاسلام.." وذلك عندما اقنعها الناس بأن الفرجة علي الفيلم تساوي أداء فريضة الحج.
أما الأب فكان يرتدي في الشتاء مثل الأفندية بدلة إفرنجية
وفوقها معطف وفي الصيف يرتدي الزي الأزهري (الجبة
والقفطان)..
وفي كل الأحوال كان الطربوش غطاء الرأس المميز للطبقة
الصاعدة من الموظفين والمتعلمين.. أما في حياته فكان نموذجاً للزوج المثالي..منضبطاً في مواعيده المنزلية..متسامحاً.. ينام
بعدالعشاء..ولا يعرف سهرات العربدة التي سجلها محفوظ في ثلاثيته الشهيرة.. أي أنه لم يشبه "السيد" أحمد عبد الجواد إلا في ولعه بالمغني وفن تلاوة القرآن.
لم ير نجيب أباه في حياة الوظيفة الحكومية..لكنه ذاق الاستقرار الذي حققته للعائلة. والأهم أنه بدأ يعي العالم و
"الموظف الميري" هو زهوة المجتمع. الأب كان يحلم له بوظيفة
أكبر.. وكيل نيابة أوطبيب..بينما صدم أساتذته في المدرسة عندما التحق بكلية الآداب قسم الفلسفة وهو المتفوق في مواد
العلوم والرياضيات بينما لايحصد في المواد الأدبية سوي
درجات متوسطة.
أي أنه كان لابد أن يكون حسب انتظارات العائلة موظفاً كبيراً
في"هوجة" الموظفين الصاعدة في الثلاثينات والأربعينات أو
عالماً فذاً كما توقع له الأساتذة..أو موسيقياً كما خطط هو بنفسه عندما التحق بمعهد الموسيقي العربية وذلك وقت أن كان طالبا بالسنة الثالثة في كلية الآداب.. وكما حكي لرجاء النقاش:"درست فيه لمدة عام كامل.. ويبدو لي الآن أنني لو كنت وجدت
توجيها سليما من أحد لتغير مسار حياتي واخترت طريق
الموسيقي وليس الأدب.."
نجيب محفوظ كان حائراً بين أصناف تشبع موهبة لايعرف تفاصيلها، اعادة بناء الواقع من خلال حكايات و تمثيلات، تشبه الأشباح الصامتة وصورها في ظلام سينما الكلوب؟ تطبع بصماتها علي الروح مثل الموسيقي ؟ أم تحفر حكاياتها علي الورق...؟
5
كاد نجيب محفوظ أن يترك الأدب ويتفرغ تماماً للسينما، هكذا اغرته اللعبة السحرية التي دخلها باغراء المال، وكانت مثل اكتشاف " النفط " في الجزيرة العربية.
لكن اللعبة اعجبته.
وكما يحكي:"...راودني أمل كبير عندما بدأت الكتابة للسينما في أن يصبح هذا المجال امتداداً لحياتي الفنية، وقلت لنفسي أن الكتابة للسينما تتضمن عناصر مشابهة إلي حد كبير للعناصر التي يقوم عليها بناء الرواية من خيال و حبكة و شخصيات وصراع..ا لخ، فلماذا لا تكثف عملك في هذا المجال وتعطيه مزيداً من الاهتمام، مادام هو قريبا من الأدب؟.."
الاكتشاف جاء بعد فترة :"..وجدت أن عملية الكتابة للسينما تقوم علي جهد جماعي، وأنني لست حر التصرف مثلما هو الحال في الرواية، فهناك قيود كثيرة تكبل حركتك ولاتعطيك الفرصة لان تكتب ما تريد، هناك شروط المنتج و الموزع الخارجي والمخرج،بالإضافة إلي الشرط الأهم وهو الجمهور ومطالبه ورغباته التي يجب أن تراعي مهما كانت النتائج.."
هذه الضغوط مزعجة لمن اختار الفن مساحة للحرية الفردية....انسحب مع الفرصة الأولي للانسحاب... واكتفي بأن يتعامل مع الكتابة للسينما علي أنها " حرفة" أو "صنعة..".
هذه نظرة أحد أهم الأدباء تأثيراً في السينما، منحها الكثير بصنعته، بعد أن رحل مرة اخري إلي عالمه الفردي، المنعزل بعيدا عن جماعية تربك الكاهن الذي يتجول في الشوارع، بذات غير الذات التي يكتب بها الادب.
6
لايبدو نجيب محفوظ مغامراً.
لكنه أول من كتب فيلما سينمائيا عن قصة واقعية : ريا وسكينة، حكاية مثيرة عن فتنة القاتلات.
وهو أيضا أول من كتب قصة خصيصاً للسينما، لعبها مع صلاح أبو سيف، حكي تجريته الشخصية عندما تعطل به المصعد هو وزوجته، وكتب نجيب محفوظ علي طريقته في "المرايا " اسكيتشات لشخصيات معلقة " بين السماء والأرض".
الكتابة هي مغامرته، يتقصي بها جوانب في ذاته المشحونة بالسرد ، والسينما كانت لحظة عابرة في حياته، لكنها لحظة السرد الموازي،واللعب بما تعلمه في أرض الرواية.
" حكمة خوفو"...هذا هو الاسم الذي اختاره نجيب محفوظ لروايته الاولي.
لم تكن الأولي.أكثر من محاولة كانت تلقي اجابة واحدة من سلامة موسي:غير صالحة للنشر.
سلامة موسي هو الذي غير اسم اول رواية منشورة الي" حكمة الأقدار" وزعها هدية علي " المجلة الجديدة " التي كان نجيب محفوظ أول مشترك فيها.
هذا رغم أن سلامة موسي كان يري أن فن الرواية لايصلح في مصر..وأنه يحتاج إلي أزهري.
سلامة موسي ليس فقط ناشر رواية محفوظ الأولي.هو "المرشد " إلي ثقافة مغايرة هزت مصر..ثقافة العلم والاشتراكية..والحرية..ثقافة صادمة خدشت الثقافة المستقرة التي كانت تنام باسترخاء في زمن السلاطين والجواري..بينما كانت أوربا تقفز الحواجز و تدخل ماراثون التقدم الصناعي و العلمي..وولد من ثورتها الصناعية " إنسان جديد.."وصل متأخرا إلي مصر.
لكنه وصل...وتقريبا مع جيل نجيب محفوظ.
سنة 1942 كان نجيب محفوظ له 3 روايات أخري
"كفاح طيبة " و" رادوبيس"..و" القاهرة الجديدة".
الاخيرة هي أول رواية فعلاً.رواياته السابقة وزعت علي نطاق محدود عبر " دار النشر الجماعية" التي أسسها عبدالحميد جودة السحار لتنشر أعمال نوعية جديدة من كتاب وأدباء خريجي الجامعة المصرية.
أول نشر شعبي كان في "روزاليوسف" إحسان عبد القدوس أسمي الرواية" فضيحة في القاهرة"..صحيح أنها عادت في الطبعات التالية الي اسمها القديم ( القاهرة الجديدة)..لكنها ظلت علامة هامة علي روايات من نوع جديد..ترصد بدقة علامات انهيار و تفكك المجتمع القديم في القاهرة..وتبشر بعالم جديد غير واضح المعالم..مجرد منشورات طائرة في الهواء عن العدل..والحرية.
كانت ايام سعد زغلول تنتهي.استمرت صورة البطل والأسطورة..لكن مشروعه توقف.
7
صلاح أبو سيف اخرج "القاهرة الجديدة"في فيلم صعب للغاية اسماه" القاهرة 30 ".
صلاح أبو سيف هو مرشد نجيب محفوظ للسينما، ولد بعده باربع سنوات (1915)..وفي أجواء الاحتفال بالواقعية في مقابل "الرومانسية المحضة".
ابن حي شعبي ( بولاق) عمل في مصنع نسيج المحلة الكبري، وتعلم السينما علي يده، قرأ كتيبا عن المخرج في السينما، وعرف أن الفيلم لايعني نجوماً وممثلين فقط، و في صدفة لقاء مع المخرج نيازي مصطفي، أعاده إلي القاهرة وأدخله إلي العالم الساحر من بوابة شركة الصناعة الوطنية في السينما ( استوديو مصر )...ومن باب تقنية التركيب (المونتاج)..ليحاول دراسة السينما في فرنسا ( تتوقف بسبب الحرب العالمية الثانية).
اقترب صلاح أبو سيف من مزاج الواقعية بموديلها الكامل عندما عمل مساعداً لكمال سليم في" العزيمة"، حيث كان الفيلم تبشيراً بالمنهج الواقعي، يما يعينة التبشير من حسن نية، وطغيان الموديل الجاهز علي المغامرة.
لكن بقي البحث عن حكايات في أوساط شعبية، لا تخيلها، هاجس يتعلم منه صلاح أبو سيف المتأثر بعدها بالواقعية الجديدة في أيطاليا، والمغرم بمدرسة تجمع بين الرمزية والواقعية.
غرام التقي عنده صلاح ابو سيف مع نجيب محفوظ، وبالتحديد عند التقاء مزيج الواقعية والرمزية، وهو مزيج قال عنه أبو سيف ذات مرة : "أنا مميز بالرمزية والواقعية معاً. بمعني أن الرمزية عندي ليست تفلسفاً، وإنما أنا أكتب بالكاميرا ما أشاهده وأحس به ويحس به كل إنسان مهما كانت ثقافته بسيطة. وعندما كنت أرمز إلي شيء في مشهد ما في أفلامي كان الجميع يفهمون ما عنيت...".
ذهب صلاح أبو سيف إلي نجيب محفوظ بعد أول رواية منشورة " عبث الأقدار "...وفيها علي مايبدو التقط موهبة تحويل قصة تاريخية إلي دراما معاصرة، يمكن العثور علي دلالتها في اللحظة.
صلاح أبو سيف قبل أن يخرج أعماله الأولي، كان ناقداً ينادي بكتابة مصرية بدلا من الاقتباس،استجابة علي مايبدو لتيار المناداة بفن " قومي" يحمل هذا الشيء الغامض " الروح المصرية "..الكتابة للسينما لم تكن علي برنامج نجيب محفوظ، لها تقنيات تصور انه يفتقدها، لكنه مع صلاح ابو سيف تعلم"الصنعة " وعثر فيها علي متعته، لكن بعيدا عن رواياته.
في كتاباته للسينما، نجيب محفوظ اقرب إلي "أسطي " ينقل مهارات السرد من الأدب إلي الصورة، بمزيد من تقنيات الحفر تحت سطح الظواهر الاجتماعية والسياسية.
8
" مغامرات عنتر و عبلة "، فيلم لاينسي.
لم يعرف وقت عرضه (1948) انه كتابة نجيب محفوظ الأولي للسينما، ولا حتي عند عرضه الأوسع في التليفزيون و بعد أن نال نجيب شهرته الواسعة في الأدب.
من فيلمه الأول، تحرر نجيب محفوظ من ثقل المناخ التاريخي، وصنع فيلما أقرب إلي معاصرة، تلمس بحساسية ما، اكتسبها من رواياته الاولي التي اعاد فيها كتابة حكايات تاريخية بنفس معاصر، وقدرات علي اكتشاف ما يمكنها أن تلمس به متفرجا يعيش في زمن آخر، ورهن صراعات في حياة مختلفة تماما
قصة الحب الأسطورية تفككت في سيناريو نجيب محفوظ، الذي ازال بسرد سينمائي خفيف، الغربة بين الأسطورة و جمهور يبحث عن أبطال يتعرف فيهم علي نفسه.
فريد شوقي في البطل العاشق، لجمهور سيعرفه بعد سنوات قليلة ملكا للترسو... لم يكن نجماً وقتها لكنه قريب من صورة الفتوات الشعبيين في الحارات، و كوكا حبيبته المستقرة في شرفات طبقات اعلي، والمسافة بينهما مشحونة بلحظات صراع اجتماعي، و قصص غدر ، وبطولات، و نبل الفقراء، حيث تبدو واقعية الأربعينات في السينما مغرمة بانتصار الفقراء المطلق علي وحشية الاغنياء،نجيب محفوظ لم يكن بعيداً عن هذا المزاج خاصة مع تأثر معلمه السينمائي صلاح أبو سيف بأجواء المخرج كمال سليم و فيلمه " العزيمة " واشتراكيته الطوباوية.
" العزيمة " كان افتتاح واقعية السينما المصرية، و قرار مثقفيها الضمني بتأسيس سينما تكتشف الذات المصرية.
جورج سادول اعتبر أن السينما المصرية وقفت بهذا الفيلم "علي ارض صلبة ودخلت به مجال التعبير الواقعي في مجال الفن والفكر...".
صلاح أبو سيف وصل بهذا المزاج الواقعي إلي ذروته مع نجيب محفوظ، عثر معه علي مبتغاه في سرد لا يقع في الواقعية المبتذل. لكنه يحملها علي أجنحة شفافة من فكر و فلسفة و يضعها علي مرصد اجتماعي مدهش في التقاطه تفاصيل مابين الشروخ الاجتماعية.
صلاح أبو سيف يري السيناريو العمود الفقري للفيلم، ويحشر أصابعه في كل ورق أفلامه، خريطة محارب يتعامل معها، لن ينجح الا اذا كانت الخريطة كاشفة لأرض المعركة.
هنا الشراكة، تعني استخدام صلاح أبو سيف لخريطة نجيب محفوظ في العبور إلي جزيرته...وليس من الصعب اكتشاف أن أغلب افلام صلاح أبوسيف المهمة كان لنجيب فيها اثرً كما تفعل الادلة في الصحراء.
9
حسنين..كان المتحرك الوحيد في مشهد كل عناصره ثابتة.
الطموح يخترق حارة كلها ثابتة في مكانها.
متحرك..متعجل في الصعود.
هذه "بداية ونهاية"...رحلة صعود برجوازي تعلق بهوي الأرستقراطية، وسقط في بئر السلم.
الفيلم لم يبدأ أذن من نقطة الرواية.
رواية نجيب محفوظ بدأت من لحظة موت الأب، والفيلم تجاوزها، ليصنع إفتتاحية تكشف من اللحظة الأولي عن غربة حسنين مع مصيره، و لهاثه في الصعود بينما موت الأب أنزلهم من سلم الصعود درجات ليسكنوا البدروم في بئر السلم.
الرواية نشرت في 1949 والفيلم ظهر علي الشاشات 1960، بينها كانت البرجوازية الصغيرة نجحت في الإستيلاء علي الحكم ولم يعد نماذجها الأنتهازية لها مكان علي خريطة الاحتفاء بالصعود.
الفيلم بافتتاحيته ( اشارة إلي أن الأحداث تخص القاهرة سنة 1936) لم يرسم مأساة سقوط البرجوازية كما فعلت الرواية ولكنه رسم مسار الانتهازي من برجوازية نظيفة.
الزمن هنا أضاف للوعي الذي لعب عليه صلاح أبو سيف في تحويل المرثية إلي نقد اجتماعي لعائلة سقطت في لحظة التحول الذي عاشته مصر ( الثلاثينات).
نفيسة في الفيلم كانت "ضحية " تقليدية، حذف منها السيناريو مشاعرها السلبية تجاه رجال تركوا جسدها يقودها الي مصرها المخزي.
استعارات " بداية ونهاية " دارت في أغلبها في سياق نجيب محفوظ، علي عكس " القاهرة 30 " الذي كان فيلما مجهدا يحتاج الي بناء سينمائي قوي، ولهذا شارك في الكتابة 4 كتاب سيناريو شحنوا الفيلم ببعدد ضخم من استعارات مسجلة بامتياز في تاريخ السينما.
الإستعارة الاشهر : صورة محجوب عبد الدايم وخلفه قرنان غالبا لكبش، وهي استعارة من ثقافة شعبية تري في القواد شخص يضع قرنين علي رأسه.
إستعارة أخري علي حائط ( وصلاح ابو سيف لم يكن يترك المساحات المفتوحة بالشوارع بدون مشاركتها في صنع الدلالات او الرسائل الضمنية) علي حائط تقف أمامه إحسان شحاته وحبيبها علي طه الاشتراكي يحكي عن أحلام المفكرين الإشتراكيين عن حياة بدون استغلال المال، بينما الإعلان في الخلفية يقول : كل شيء يتحق بالمال.
"القاهرة الجديدة" أو30.." تبدأ بقبة الجامعة في مركز الصورة، احلام جيل من البرجوازية الصغيرة، طلاب قادمون من الأرياف، يطلون من حجراتهم المشتركة علي الجمال الفقير في البدروم.
إحسان شحاتة، العابرة من البدروم إلي -الحجرت الفخمة بعد هزيمتها في استكمال الحب مع الاشتراكي الحالم، حين تستجيب لنظرة القناص الثري من نافذة سيارته، يطل هو الاخر علي الجمال الفقير.
إحسان أحبت الحلم، لكنها استسلمت للصفقة، "انتي بجمالك وانا بثروتي "، مشوار قصير لصناعة السعادة كان لابد ان يشترك فيه الانتهازي.
وليلة سقوط إحسان كانت في لحظة استجابتها للاعلان علي حائط ثابت، رسالة لاتخلو من إلحاح، بينما أحلام علي طه تتناثر في الهواء مثل نسمة عابرة لا تقتنصها اليد المحتاجة.
10
مسرح "شفاعات" أو ملهاها الشخصي..اذن محطة هامة شركة محفوظ مع ابو سيف. محطة وصلت بالصنعة إلي نقطة يحفر فيها ابو سيف ( عبر تأليفه عبر الاخرين) أرض نجيب محفوظ الذي يحب ابو سيف.ويكن له ود المعلم..وربما يتعامل علي أنه الوجه السينمائي، لواقعيته ذات الخليط المدهش : الحسية والرمزية والقدرة علي التجريب.
لكن الأقرب إلي قلب نجيب محفوظ هي سينما توفيق صالح.
توفيق صالح مغلق علي رسالة ذهنية لا تمنح الفتنة الكاملة للإستعارة.
نجيب كان يتمني ان تكون الثلاثية بتوقيع توفيق صالح.
صلاح ابو سيف وقتها كان المسئول عن الانتاج وافسد المشروع، وذهب به إلي حسن الإمام.
نجيب لم يحب ثلاثيته مع حسن الإمام، يقول عنها لرجاء النقاش:"..رغم ان حسن الامام التزم إلي " حد ما" بروح النصوص التي قدمها لي في السينما...إلا أنه أخضعها لمدرسته التي تميل الي الإثارة الحسية والميلودراما، حتي بدا أن السيد أحمد عبد الجواد بطل "الثلاثية" وكأنه شخص لاهم له سوي "العوالم " والمتعة الجسدية..."
ويفسر :"..ربما كان لنشأة حسن الامام في جو "العوالم" بمدينة المنصورة حيث ولد، ثم عمله في مطلع حياته بالقاهرة في "صالات " عماد الدين أثر كبير في الأسلوب الذي سار عليه عندما عمل بالإخراج السينمائي، دخل حسن الإمام السينما وهو ممتليء بالحس "البلدي" وهو شيء آخر غير الحس الشعبي..فالثاني متأِثر بالثقافة والتراث أما الاول فهو حس مصري صميم غير مخلوط"
هل وقع نجيب محفوظ في فخ حسن الإمام؟
هل كان قرار صلاح أبو سيف سحب الثلاثية من توفيق صالح مؤامرة؟
نتكلم عن المعني الفني لا النميمة.
حسن الامام من نفس الجيل المضروب بالواقعية.
يسبق في الولادة نجيب محفوظ (ولد في 1905) وعنده طريقته في الشغف بإكتشاف الذات.
يختصر حسن الإمام عادة في نظرة تحتقر تقريبا ما يسمي الثقافة الشعبية تضعها في مرتبة أدني ورغم أن هذا الجمهور العادي هو هدف الرسائل الكبري وبيانات المعرفة إلا أن كل ما يحبه ويهواه علي الشاشة هو أفيون الشعوب وبضاعتها الاستهلاكية هكذا كان يمكن اختصار حسن الإمام في ميلودراما الترسو وفي مواجهته لا بد لكي تكون مثقفاً وتحب افلام "الثقافة الرفيعة".
حسن الإمام يكتشف الشخصية المصرية من خلال عروض تشبه مسارح برودواي، العرض هو مركز الفيلم والفودفيل هو أداة الكشف القوية لدي حسن الامام.
اختيار هذه المنطقة الخفيفة، غطاء لمشاعر أثقل في منطقة اختار أن يقدم منها أعماله السينمائية، عالم الليل، وسكانه، وأبطاله، و علاقتهم بالعالم.
عالم تحكم عليه سينما الفضيلة و الأخلاق الرفيعة بالسلب دائما، وضعه في دائرة احتقار، ولم تفكر في النظر إلي الأحداث الكبري من زواية معتمة، أو ثقيلة بشجنها في مجتمع محافظ.
هذه الزاوية تجمع بين التسلية الخفيفة وحسية الشجن الثقيل، تجعل مافعله حسن الإمام في الثلاثية وزقاق المدق، لايمكن اختصاره، خاصة مع احتراف في صنع التكوين و الصورة بشحنات من التسلية والشجن، لا يمكن نسيانها.
هذه الشحنات تقدم الذات المصرية المنتظرة لكن من زاوية اخري تصعد من اسفل الي اعلي وليس كما يرجوها البرجوازيون المهذبون لتطل من أعلي إلي أسفل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.