بعد أن حصل الأديب الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988.. تسابقت مراكز الأبحاث والهيئات العلمية فى أكبر الجامعات فى العالم إعداد الدراسات الأدبية حول أدب نجيب محفوظ.. ونشطت دور النشر فى ترجمة أعماله الكاملة إلى جميع لغات العالم باعتباره أحد الأدباء العالميين الذى يقف فى مصاف عظماء الرواية الغربية والشرقية أمثال ديكنز وتولستوى وزولا ومكسيم جورجى. ولكن إحدى دور النشر المتخصصة فى الآداب العالمية فى واشنطن كلفت الباحث «ريموند ستوك» بإعداد دراسة وسيرة ذاتية متخصصة للروائى العالمى محفوظ.. بعد أن عرفوا أن ستوك من أحد عشاق أدب نجيب محفوظ.. وأنه اطلع على كل أعماله وقرأها فى لغتها العربية - التى يُجيدها- أو مترجمة إلى الإنجليزية أو الفرنسية.. وأنه أقرب الباحثين للقيام بهذه المهمة باعتباره حاصلا على درجة الماجستير أيضا فى دراسات الشرق الأوسط سنة 1983. وقرر ريمون ستوك الحضور إلى القاهرة فى عام 1990.. والتقى بنجيب محفوظ فى منزله بالعجوزة.. وعقد معه عدة لقاءات دورية ليستمع منه مباشرة لمشواره مع الأدب والفلسفة ولم يكتف ستوك بذلك.. لكنه قام بجولات عديدة لكل القاهرة الفاطمية التى سجلها نجيب محفوظ فى رواياته.. أو كانت أحد الفيوضات عليه.. فذهب ستوك إلى زقاق المدق وبين القصرين وخان الخليلى وسيدنا الحسين والسيدة زينب وقصر الشوق والدرب الأحمر.. وغيرها من الأماكن التى كان نجيب محفوظ يصفها وصفا دقيقا فى أعماله ولا يستطيع الكثير من الأدباء الوصول إلى هذا الوصف فى أعمالهم على حد تعبير ستوك. وأذكر أن لقائى الأول مع ريموند ستوك كان على مقهى الفيشاوى بحى سيدنا الحسين بالجمالية فى بداية التسعينيات وبالتحديد فى عام 1992.. عندما اصطحبه الأديب الكبير والصديق على درويش المستشار الصحفى بالسفارة الأمريكية فى ذلك الوقت إلى هذا المقهى الذى كان يجلس عليه نجيب محفوظ لسنوات طويلة.. وكانت تعقد به الندوات الأدبية.. ويجلس فيه كل أدباء مصر. وتحدثت مع ريموند ستوك عن الأديب العالمى محفوظ.. وقال لى: «إن قوة نجيب محفوظ الروائية تكمن فى قدرته على وصف المجتمع المصرى خلال قرن من الزمان.. وبالتحديد منذ العشرينيات وحتى آخر أعماله».. فهو يكتب عن القاهرة والإسكندرية.. ولكن تركيزه كان أكثر على القاهرة.. فرواياته بها تفاصيل دقيقة لا يستطيع الكثيرون وصفها أو الوصول إليها.. بالإضافة إلى وصفه لسيرة أبطاله فى رواياته.. فهو يصل إلى الجذور وأعماق الأشياء فهو ليس كاتبا مصريا أو عربيا فقط.. ولكنه كاتب عالمى على طريق الرواية المصرية أو بتعبير أدق هو كاتب «كونى»، كما أن نجيب محفوظ عبر عن هذه الجذور والأعماق للنفس البشرية لأبطال رواياته بأسلوب دقيق وموفق وباستخدام مفردات اللغة العربية استخداما صحيحا.. ليعبر بها عن المعنى الذى يريد أن يقوله أو يؤكده.. وهو يكتب حوارته بقوة وإحساس كما أنه قادر على التعبير عن مشاعر رجل الشارع العادى رغم أنه يكتب الحوار باللغة الفصحى. *** وكانت محاوراتى عن أدب نجيب محفوظ مع الباحث ريموند ستوك تمتد لساعات طويلة.. ونحن نجلس على مقهى الفيشاوى أو فى مكتبى بمجلة أكتوبر.. وقمت بنشر بعض هذه الحوارات فى الصفحات الأدبية بالصحف العربية فى ذلك الوقت عن النجم العالمى نجيب محفوظ. وأذكر أننى سألته عن أحب راويات نجيب محفوظ إلى قلبه وعقله فقال لى بلاتفكير «زقاق المدق» لأن محفوظ استطاع أن يصف فى هذه الرواية ذلك الزقاق بكل ما فيه من تناقض فى الشخصيات المتنوعة المقيمة فى الزقاق سواء حميدة وأمها أو سنقر وعباس الحلو وعم كامل. وقال أيضا «الثلاثية» لأنها جسدت الظروف السياسية والاجتماعية لمصر فى العشرينيات وحتى الأربعينيات.. وكان من أبرز شخصياتها «سى السيد» أحمد عبد الجواد الذى أعتقد أن شخصية نجيب محفوظ الحقيقية أثرت فيه كثيرا وانعكست على تصرفاته. ثم روايته «قشتمر» التى وصف فيها أحياء العباسية والظاهر وقصر السكاكين ومقهى قشتمر الذى مازال موجودا حتى الآن.. وكان يجلس عليه كاتب هذه السطور فى السبعينيات حيث إننى كنت من سكان شارع الجيش. وكنت أراجع دروسى فى الإعدادى والثانوى بمسجد الظاهر بيبرس الذى وصفه نجيب محفوظ وصفا دقيقا فى هذه الرواية. فارس الرواية الطويلة وقال لى ريموند ستوك فى إحدى جلساتنا إنه اطلع على معظم أعمال الروائيين العرب وإنه أعجب كثيرا بالطيب صالح وعبدالرحمن منيف.. أما يوسف إدريس فإنه يعتبره «فارس» القصة القصيرة العربية، فقد كان يتميز بالتخصص الدقيق فى القصة القصيرة والمسرح وأن إدريس كان شجاعا فى تناوله قضايا المجتمع المصرى والعربى.. ولكن نجيب محفوظ كان ولا يزال فارس الرواية الطويلة. وعندما لاحظت فى ذلك الوقت أن ريموند ستوك يحب نجيب حبا شديدا وعاشقا لأدبه نبهته إلى أن ذلك يمكن أن يؤثر على موضوعيته أثناء إعداد هذه السيرة الذاتية عن نجيب محفوظ. اتفق معى ستوك فى هذه الملاحظة وقال لى إنه كثيرا ما سأل نفسه هذا السؤال.. ولكنه استفاد من هذا الحب العميق فى الاستمرار فى تحقيق هدفه لإعداد كتاب جيد عن سيرة نجيب محفوظ. *** وفى عصر أحد الأيام.. دخل علىّ ريموند ستوك فى مكتبى بمجلة أكتوبر واندهشت لحضوره بدون موعد كعادته معى.. ولكنه بادرنى بالرد على دهشتى بأنه سوف يقدم لى هدية.. أو أنه قرر أن تكون مفاجأة أعدها لى. وفتح ريموند حقيبته السوداء المنتفخة بالكتب والشرائط التى كان يسجلها مع نجيب محفوظ.. وقال إن هذه المفاجأة سوف تثبت تاريخ ميلاد الكاتب العالمى نجيب محفوظ لأنه وجد فيه اختلافا كثيرا أثناء إعداده لدراسته.. فالبعض يقول إنه من مواليد 11 ديسمبر 1911.. ولكن فريقا آخر يقول إنه من مواليد 10 ديسمبر 1911. يوم ميلاد محفوظ وكانت المفاجأة أن ريموند ستوك استطاع الحصول على صورة من مستخرج رسمى لشهادة ميلاد نجيب محفوظ قام والده عبدالعزيز إبراهيم باستخراجها من دفتر صحة الجمالية، حيث كان يعيش نجيب محفوظ فى بيت القاضى. وقال لى ريموند إنه حصل على صورة هذا المستخرج من ملف خدمة نجيب محفوظ من أكاديمية الفنون، حيث إنه كان موظفا بقسم السينما، وقدم لى صورة هدية من هذا المستخرج وكتب أسفل المستخرج بخطه العربى من ريموند استوك إلى محمد المصرى (أكتوبر- المجلة) «مع تحياتى الأطيب» تاريخ 15/8/1992. أما الحقيقة التى أثبتها ريموند ستوك من خلال المستخرج الرسمى لشهادة ميلاد نجيب محفوظ أنه من مواليد يوم 10 ديسمبر «فعلًا» وليس 11 ديسمبر. فالمستخرج الرسمى الذى ينشر لأول مرة فى الصحف المصرية وتنقله فى أكتوبر، كما هو يقول: «مستخرج رسمى: OFFICIALEXTRACT وأنه محرر من دفتر خانة مصلحة الصحة، وأن اسم طالب المستخرج ومحل إقامته «عبد العزيز إبراهيم» وأن الموضوع المطلوب عنه المستخرج «تاريخ ميلاد». وأنه مستخرج من دفتر صحة الجمالية سنة 1911 صفحة 83 جزء 25.. وأن تاريخ الإذن بإعطاء المستخرج 4/9/1932 نمرة 1724 من قسم أول وأن قيمة الرسوم المحصلة 120 مليم بعلم خبر نمرة 912160 فى 4/9/1932 لخزينة المصلحة». وكتب باشكاتب الصحة فى المستخرج المطلوب: بالكشف وجد اسم نجيب محفوظ بن عبد العزيز بن إبراهيم أحمد تاجر النحاس وأنه وارد من مواليد يوم 11 إحدى عشر وتسعمائة وألف تحت رقم 2913- تاريخ الولادة يوم 10 منه- الأم الست فاطمة بنت مصطفى مسلم وجهة السكن شارع بيت القاضى، وتم تحرير هذا المستخرج «طبق الأصل» فى 5/9/1932 وسلم بدون مسئولية الحكومة لدى أى إنسان كان عما يتعلق بالوارد فيه وبحقوق الغير. وكان توقيع رئيس المصلحة أو المدير أو المحافظ يدعى صفوت وقام رؤساء الأقسام بالتوقيع بجانبه وتم ختمه بختم مصلحة الصحة العمومية بالقاهرة. وإننا عندما نقرأ هذا المستخرج يتبين لنا أن الأديب الكبير نجيب محفوظ ولد فى العاشر من ديسمبر 1911 وتم تسجيله فى دفتر خانة مصلحة الصحة فى 11 ديسمبر 1911.. وأن هذا المستخرج الذى حصل عليه ريموند ستوك يقطع الجدل حول يوم ميلاد نجيب محفوظ الذى نحتفل بمرور مائة عام على مولده هذا الشهر كله. *** ومرت السنون على هذا الحوار مع ريموند ستوك وأعدَّ كتابه عن سيرة نجيب محفوظ وأصبح أهم كتاب فى العالم كله عن سيرته الذاتية والمرجع الأول الذى يعتمد عليه الباحثون فى التأريخ لأديب نوبل نجيب محفوظ.