ظلت الخلافات بين مصر والولاياتالمتحدة، سببا فى عدم انعقاد الحوار الاستراتيجى بين الجانبين منذ آخر انعقاد له فى عام 2009، وتعلقت الخلافات بصورة رئيسية بموقف الولاياتالمتحدة من قضايا الإصلاح السياسى وحقوق الإنسان فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك. وأضيف لهذه القضايا، موقفها من ثورة 30 يونيو 2013 والذى كان مسئولا عن عدم استجابتها لطلب الرئيس السابق عدلى منصور باستئناف الحوار فى سبتمبر 2013، واتجاهها لتعليق مناورات النجم الساطع، وتأجيل تسليم بعض المعونات العسكرية لمصر. وترتبط أهمية انعقاد اللقاء بين وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى والمصرى سامح شكرى فى 2 أغسطس 2015، فى إطار الحوار الاستراتيجي، رغم محدودية الوقت الذى استغرقه، بأنه كشف عن قواعد جديدة للعلاقة الإستراتيجية بين الجانبين، تقوم على أساس إدراك الخلافات بين الجانبين، والعمل فى الوقت ذاته على المصالح المشتركة بينهما فى ظل بيئة استراتيجية تمر بتحولات كبيرة تفرز فرصا حقيقية لتعزيز المصالح المشتركة. علاقات «الأعدقاء» منطق المصالح فى ظل الخلاف: أصبحت العلاقات بين مصر والولاياتالمتحدة ينطبق عليها ما أصبحت تمتاز به الممارسات الدولية فى العالم اليوم، من حيث استحالة وجود تطابق تام فى المواقف، كما أن الاختلاف والخلاف والتوتر لا يعنى تلاشى المصالح المشتركة، وهو ما يجعل العلاقات بين الجانبين أقرب إلى علاقات «الأعدقاء» frenemy، التى لا يمكن التعامل معها على أنها صداقة كاملة؛ فهناك اختلافات كانت سببا فى توتر معلن بين الجانبين، أو عداء تام فهناك مصالح إستراتيجية مشتركة، وهناك فرص محددة لتعزيز هذه المصالح، ويظل اختلاف ميزان القوى بين الجانبين، فضلا عن أوراق الضغط التى يملكها كل منهما سببا فى تحديد الكيفية التى تدار بها العلاقات بينهما. كما تعد الخلافات بين الجانبين، لاسيما بعد موقف الإدارة الأمريكية من ثورة 30 يونيو 2013 التى أطاحت بحكم جماعة الإخوان المسلمين، سببا فى الكيفية التى نظمت بها جولة الحوار الإستراتيجى أخيرا فى القاهرة واقتصارها على يوم واحد، دون أن يعنى انعقادها انتهاء الخلاف بين الجانبين، وهو ما تحدث عنه صراحة وزير الخارجية الأمريكى فى المؤتمر الصحفى الذى جمعه ووزير الخارجية المصري، حيث تحدث صراحة عن أن التطورات التى حدثت فى مصر تسببت فى «قلق بالغ» لدى واشنطن عبرت عنه بصورة معلنة وصريحة، ولكن «هناك قضايا متعددة نحن بحاجة للعمل عليها بصورة متزامنة»، وتحدث بصورة مباشرة عن القضايا المقلقة فى الكلمة الافتتاحية التى ألقاها قبل بدء جلسة الحوار، والتى شملت حرية الصحافة وحماية المعارضة السلمية وضمان المشاركة السياسية، والتى رأى كيرى أنها المدخل لمواجهة التطرف العنيف فى مصر. وفى المقابل فضل وزير الخارجية المصرى سامح شكرى على تأكيد عدم وجود «خلاف» مع واشنطن وأن هناك «اختلافا» فى وجهات النظر، وهو خطاب لايتسق والموقف المصرى من القضايا الداخلية التى تحدث عنها كيرى فى كلمته الافتتاحية، أو مع السياسات المصرية تجاه العديد من القضايا الإقليمية التى تهتم بها بصورة مشتركة مع الولاياتالمتحدة، خاصة قضية الإرهاب، أو مع الفرصة التى يوفرها انعقاد هذا الحوار من أهمية الاشتباكengagement مع الموقف الأمريكى والتأكيد أن هذا الاختلاف لا يعنى عدم التنسيق والتعاون فى قضايا أخرى تهم الجانبين. ويستند وجود المصالح المشتركة من جانب مصر إلى استمرار أهمية المعونات الاقتصادية والعسكرية التى حصلت عليها من واشنطن طوال العقود الماضية، خاصة فيما يتعلق بتحديث الجيش المصري، إلى جانب الاستثمارات الأمريكية فى مصر على تنوعها، فضلا عن أهمية العلاقات معها فى تعزيز الشرعية الدولية للنظام الجديد، وهو ما يجعل القاهرة حريصة على وجود إطار للحوار يضمن مناقشة العلاقات مع واشنطن سواء القضايا الخلافية أو القضايا محل الاتفاق. تحولات إقليمية ومن جانب الولاياتالمتحدة، يمكن القول، إن التطورات التى تحدث فى إقليم الشرق الأوسط منذ إعلان تنظيم داعش قيام دولته فى العراق فى 10 يونيو 2014، والتحول فى طبيعة الصراعات التى تشهدها العديد من دول المنطقة، فضلا عن التغير فى وضع إيران فى الإقليم، تعد سببا رئيسيا فى تغيير واشنطن سياستها تجاه مصر، واستجابتها للمطلب المصرى الذى عبر عنه الرئيس الأسبق عدلى منصور باستئناف الحوار الإستراتيجي. فمن ناحية أولى، تتزايد أهمية مصر فى تحقيق المصالح الأمنية للولايات المتحدة فى المنطقة فى الفترة التالية على الثورات العربية، والتى تشمل الحفاظ على السلام مع إسرائيل حتى وإن كان سلاما باردا، ولعب دورا رئيسيا فى مكافحة الإرهاب فى المنطقة، ومكافحة تجنيد الشباب من قبل الجماعات المتطرفة. تكلفة مضاعفة ومن ناحية ثانية، أصحبت العلاقات الجيدة بين مصر والولاياتالمتحدة منذ ثورة 30 يونيو مكونا مهما فى علاقات واشنطن مع كل من السعودية والإمارات، وهو وضع يمكن تتبعه من خلال الجهود التى بذلت من قبل الرياض وأبوظبى للضغط على واشنطن لتغيير موقفها من ثورة 30 يونيو، وهو ما يجعل تكلفة القطيعة مع مصر بالنسبة لواشنطن تكلفة مضاعفة، خاصة فى ظل إستراتيجية علاقاتها مع هاتين الدولتين، خاصة السعودية. من ناحية ثالثة، استثمرت الولاياتالمتحدة لفترة طويلة فى العلاقات مع الجيش المصرى على نحو يجعل هذا البعد هو بمنزلة backbone فى العلاقات المصرية - الأمريكية، كما تم الاستثمار فى إيجاددوائر نفوذconstituencies تقبل الثقافة الأمريكية وتفهمها، وهو ما لا يمكن تعويضه بعلاقات مع أى قوة أخرى فى المنطقة، مثل إيران التى تحولت إلى صديق أو حليف محتمل لواشنطن بعد التوصل لاتفاق فيينا النووى يوليو 2015. ثلاث مصالح رئيسية هذا السياق، يسمح بتحديد ثلاث مصالح مشتركة أصبحت تجمع مصر وواشنطن فى المرحلة الحالية، تتمثل المصلحة الأولى فى ضرورة انعقاد الحوار بصورة منتظمة بين الجانبين، وانتظام هذا الحوار بالنسبة لمصر يسمح لها من ناحية بوجود قناة اتصال منتظمة لتوضيح الموقف المصرى من القضايا الخلافية مع واشنطن سواء الداخلية أو الخارجية، وكذلك تعزيز التنسيق فى القضايا المشتركة، ولكن تعظيم الاستفادة منه خلال المرحلة المقبلة تتطلب إعادة النظر فى مجموعات العمل التى يتم تشكيلها للمشاركة فى هذا الحوار، على نحو يسمح بتعظيم الاستفادة منها بأفضل صورة ممكنة لكل العناصر التى يمكن أن تسهم فى التفاعل البناء مع الجانب الأمريكى خاصة مراكز الفكر ومجتمع الأعمال. وتنصرف المصلحة الثانية، إلى الحفاظ على استقرار النظام الجديد فى مصر، حيث أصبح من الواضح بالنسبة لواشنطن أن الصراع الذى تخوضه مصر مع جماعة الإخوان منذ ثورة 30 يونيو 2013 لن يؤدى إلى انهيار النظام الجديد، فهناك سقف للتصعيد العنيف للجماعة، وللقدرة على الاستمرار فى هذا التصعيد، لاسيما فى ظل نجاح النظام فى بناء تحالف مع قوى متعددة يجمعها دعم الرئيس السيسى رغم ما لديها من مواقف خاصة بأداء الحكومة، وتجمعها كذلك الرغبة فى التقدم وعدم الرجوع للخلف، ولكن يظل الخلاف بين واشنطن ومصر مرتبط بالمستقبل السياسى للجماعة، خاصة شباب الجماعة. وتشير المحادثات التى سبقت انعقاد الحوار، فضلا عما دار فيه من مناقشات عن أن الإدارة الأمريكية الحالية تدرك أهمية الاستمرار فى الدعم الذى تقدمه للمؤسسة العسكرية فى مصر، والذى يعد جوهر الحوار الاستراتيجى منذ انطلاقه بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل فى عام 1979، وذلك رغم تمسك مصر بضرورة ارتباط هذه المساعدات بتعزيز القدرات القتالية التقليدية للجيش المصرى على نحو يعزز قدرته على خوض الحروب النظامية وغير النظامية، فى مقابل توجه واشنطن لربط هذه المعونات بتحويل الجيش المصرى إلى جيش صغير تكون مهمته الرئيسية مكافحة الإرهاب. إلى جانب ذلك، أصبح تحقيق النمو الاقتصادى فى مصر، متغيرا مهما لتحقيق الاستقرار فيها من وجهة النظر الأمريكية، ولعل هذا يفسر حرص وزير الخارحية الأمريكى جون كيرى على أن يضم الوفد المرافق له فى الحوار ممثلين عن الدوائر الاقتصادية المعنية بتعزيز الاستثمارات فى مصر، فضلا عن تضمينه كلمته فى أثناء الجلسة الافتتاحية للحوار ثناء على السياسات الاقتصادية التى تبنتها الحكومة سواء فيما يتعلق بقانون الاستثمار أو مشروع قناة السويس. كما عرض كيرى تصور واشنطن المتعلق بدعم الاقتصاد على نحو يحقق التنمية، والذى تضمن خمس نقاط منها استئناف الحوار المتعلق بإنشاء منطقة التجارة الحرة بين مصر وواشنطن بنهاية أغسطس 2015، وتوفير الدعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتقوية إجراءات حماية الملكية الفكرية، وتوسيع نطاق الاستثمارات الأمريكية فى مصر والتى تمثل خمس الاستثمارات الأجنبية المباشرة فيها، وتعادل قيمتها نحو 2 مليار دولار، وتطوير إستراتيجية مشتركة للطاقة، والاستمرار فى تطوير مؤسسات الحكم الرشيد وتحقيق الإصلاح السياسي. ويلاحظ، استمرار تغليف واشنطن رؤيتها الاقتصادية لمصر بالوضع السياسي، وهو ما تضمنته النقطة الخامسة فى عرض كيري، فضلا عن توضيحه فى أثناء كلمته أن كل ما بذل من جهود خاصة بتشجيع المستثمرين الأمريكيين على الاستثمار أكثر فى مصر، أعاقها الوضع السياسي، وحرص على التأكيد أن التغلب على ذلك يتطلب أن يكون لكل شاب فى مصر فرصة من أجل الاستفادة من النمو الاقتصادى والمساهمة فيه. وتتعلق المصلحة الثالثة بالتنسيق والتشاور حول التعامل مع العديد من القضايا الإقليمية، بدءا من تسهيل الاندماج الإقليمى لإيران فى المنطقة بعد التوصل لاتفاق فيينا النووى معها فى يوليو 2015، ومكافحة الإرهاب فى سيناء وفى الإقليم، ومكافحة تجنيد الشباب من قبل الجماعات المتطرفة، ولعب دور ما فى الصراعات المشتعلة فى الإقليم، مثل الصراع فى سوريا واليمن. فوفق تعبير جون كيرى تظل مصر دولة «حيوية» للاستقرار فى المنطقة وللانخراط معها. قواعد جديدة يظل نجاح الحوار فى إطلاق مناقشات ومحادثات بين مصر والولاياتالمتحدة على مستويات مختلفة خلال الفترة المقبلة وحتى انعقاد الجلسة الرسمية التالية للحوار، بحيث تستند إلى قواعد جديدة تقوم على فكرة مناقشة المصالح المشتركة وكذلك الخلافات، رهنا بالتطورات التى ستشهدها مصر خلال الفترة المقبلة فيما يتعلق بالجانب السياسي، فضلا عن توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة، والتى سيتم تشكيلها فى الفترة التالية على الانتخابات الرئاسية التى ستعقد فى 2016.