لا شىء يوحى بأن الروائى والناقد المغربى محمد برادة يحمل فوق كتفيه 76 سنة إلا القليل من الشيب. ملامحه تكذّب عمره، فوجهه وروحه وأفكاره هى، على الأكثر، لرجل طازج فى العقد السادس. رجل غرف هواء الأطلنطى وأخذ ينفقه على مهل.. بالتقسيط. حتى كتابته تشبه البحر..يوزع الزرقة بيد وباليد الأخرى العواصف. محمد برادة من جيل نام على الأحلام الكبيرة واستيقظ على النكسة، فراح يقاوم الهزيمة بالكتابة. والحاصل أنه، بعد تلعثم،وجد شيئاً يقوله ووجد شكلاً يقوله ووجد آذاناً تصغى لما يقول. والآن، وقد صار أبناء هذا الجيل شيوخاً، بقى لهم من التمرد ذكرياته،وبقيت لنا منهم أعمال فارقة فى تاريخ السرد. غايته أن "برادة" واحد ممن يعملون، طوال الوقت، بإخلاص، ليحولوا الكتابة من تسلية إلى صرخة، والقارئ إلى ناقد لا عابر سبيل. وهنا، فى هذه المساحة،أحصى معه وقع خطواته: * قل لى..من أى زاوية ترى رحلة العمر. كيف تنظر وراءك ؟ - أنظر إلى الرحلة باعتبارها جزءاً من تاريخ المجتمعات التى أنتمى إليها. تاريخ المغرب ومصر وبقية الأقطار العربية. وأنظر إليه أيضاً بنوع من التأمل والعجز. لم نستطع، كعرب، أن نؤسس مجتمعاً ديموقراطياً عادلاً. لم نستطع حتى بسط نفوذنا على ما نملك، أو أن نتهيأ للمستقبل. موضوعياً الرحلة كانت عكس الاتجاه المؤمل. بعد الاستقلالات وبعد فترة الكفاح التى أنجبت فى كل الأقطار العربية قوى وطنية وقوى مستعدة للانخراط فى العصر، وجدنا أن الدولة الوطنية تحولت إلى الدولة الديكتاتورية. أصبح الأمل، والسؤال، هو كيف نحقق ما كان علينا أن نحققه منذ الأربعينيات والخمسينيات. * كلمنى عن الزمن.. هل كبرت خلسة فى غفلة منك؟ ما وقع الزمن على ذاتك وكتاباتك؟ - فى البداية، عندما كنت شاباً، لم أكن أراقب ذاتى. كان لدى وهم بأن الشباب دائم, ولكن، مع الوقت، اكتشفت أن الملجأ المضاد لليأس والإحباط هو الانغمار فى الكتابة والقراءة؛ إعادة محاولة صياغة الأسئلة والتحريض على التغيير من داخل النصوص الأدبية، لأن الإبداع له هذه الميزة: إنه يفسح المجال حيث تبدو الفسحة ضيقة، ويخاطب القوة الصامتة أو الكامنة فى أعماقنا التى تشكل عماد إنسانية الإنسان: ألا يستسلم، أن يؤمل، أن يقاوم الإحباط والفشل. الإبداع، بالنسبة للمبدعين، هو ملجأ وحماية. هم لا يستطيعون بالطبع اقتراح طرائق عملية فى مجال السياسة، لكن بوسعهم أن يراهنوا على الجدلية الكامنة فى أعماق كل مجتمع ، الجدلية التى لا تقبل بالوضع القائم، بل تسعى للتغيير. ومن حسن الحظ أنه، رغم هذا الانسداد داخل الأنظمة السياسية طوال نصف قرن، إلا أن المجتمعات العربية، نتيجة التحولات الخارجية, تكنولوجية ورقمية, وشيوع العلم، وأسباب المثاقفة، استطاعت أن تستوعب جزءاً من الحداثة والتحديث؛ لكن هذا الحداثة، عندما أراقبها الآن على مسافة زمنية، هشة لا تقوم على أسس مادية. الحداثة التى تستطيع أن تذهب بعيداً هى القائمة على المؤسسات الديموقراطية والعدالة وحرية الرأى. هذه الحداثة يمكنها أن تحمى الإبداع. وإذا شئت التلخيص: هناك جزء من الحداثة موجود فى الإبداع ..السينمائى ، التشكيلى..إلخ، لكن هذا الجزء مهدد. *أعود إلى عمرك..كم سنة تشعر أنك عشتها من هذا العمر ؟ - أقل القليل, ولكن.. أنا من البشر المحظوظين الذين كانت لهم طفولة سعيدة. وأظن أن سعادة الطفولة تحمينا من اليأس ومن الكآبة وتحثنا على أن نستمر فى البحث عن هذه اللحظات السعيدة التى عرفناها فيها. * قل لى ما الرواية، وكيف هو الصخب الروائى الحاصل الآن؟ - الرواية الآن، فى مجملها، مُرضية، لأنها استطاعت أن تكشف الغطاء عن مشاعر وهموم وأسئلة الفرد، الفرد الذى كان مغيباً ومطارداً من الخطابات الرسمية والدينية. هذا الفرد بدأ يعود مع الهواجس الأولى ل " حامد" بطل رواية " زينب" لمحمد حسين هيكل, بدأ يتحدث عن قلقه, عن غربته، بالتدريج بدأ هذا الفرد يتحدث عن عواطفه الغريزية, عن علاقته بالجنس, بالسلطة, بالموت..إلخ. هذه كلها إيجابيات الرواية. وعندما نقرأ اليوم منتخبات من هذا النوع الأدبى سنجد أن الخطاب الروائى، إلى جانب القصة بالطبع والشعر والمسرح، هو الذى بدأ يفتح كوة لمعرفة الفرد العربى بذاته وبالعالم. ومن ثم فالرواية العربية عموماً حققت هذا الأفق: كيف توجد الذات، أو الفرد، فى مواجهة القيم الخارجية؛ حققت هذا التوازن بين الفردية كجزء ملتصق بذواتنا وبين الغيرية أى القيم التى تجمعنا بالأخرين فى المجتمع. إلى جانب ذلك حققت الرواية العربية إنجازاً مشهوداً لصوت المرأة العربية. كان الرجل من قبل هو الذى يتولى التعبير عنها. الآن هناك نصوص نسائية جيدة، على امتداد الفضاء العربى، حتى الأقطار التى كنا نعتبرها جانبية أو محيطية أصبحت تنتج الرواية. الرواية أصبحت متنفساً لا يمكن الاستغناء عنه. * وجيل الستينيات..جيلك..ما أثره فى الرواية؟ يهيأ لى أنه أخذ أكثر من حقه. - بل استطاع هذا الجيل أن يكون جسراً للانتقال بالرواية من الاتجاه الواقعى التقليدى, الذى كان قائماً فقط على الإيهام بأن الرواية تعيد صياغة المجتمع على مستوى التخييل, إلى نموذج مختلف يطور تقنية السرد, والعلاقة مع الزمن وإدخال الوصف..إلخ، من أجل إيجاد شكل يزرع عنصر الانتقاد عند القارئ. لم تعد علاقة الرواية علاقة تصديق مطلق ، بل أصبحت الرواية الحديثة، عندما تتوفر الموهبة، تحث القارئ على الانتقاد. خذ مثلاً رواية صنع الله إبراهيم " نجمة أغسطس"..الشكل، والتقنية المختلفة، أعطيا للمضمون أبعاداً جديدة. * ما موقعك فى هذا الجيل، أظن أن الناقد بداخلك قد زاحم الروائى ؟ - طُرح علىّ هذا السؤال مراراً من قبل. أن تكون ناقداً معناه أنك تسائل النصوص وتحاول أن تكوّن تصوراً نظرياً عنها، بينما يزعم الروائيون، أو بعضهم، على الأقل، أنهم يكتبون بتلقائية، وهذا خطأ، لأنه لا يمكن لكاتب اليوم أن يكتب رواية دون أن يكون لديه الحد الأدنى من المعرفة بتاريخ الرواية العالمية وأشكالها وتعقيداتها. هذه البراءة المدّعاة ليست ميزة ، بل عيب، بدليل أن جميع الروائيين، بلا استثناء، وعلى رأسهم نجيب محفوظ، هم نقاد. عندما تقرأ مئات الحوارات مع محفوظ ستجد آراء نقدية. وكون أن الكاتب يفضل لغة على أخرى أو شكلاً على آخر معناه أن له تصوراً نقدياً. ولذلك ينبغى أن نحاسب النقاد ، عندما يكتبون رواية أو شعراً أو أى شىء آخر، بمقاييس جمالية، لا أحد يولد وقد كتب على جبينه شاعر أو ناقد أو روائى. * كلمنى إذن عن المعركة التى تندلع بينكما..بين الناقد والمبدع، داخل النص الروائى؟ - أنا بدأت كاتباً للقصة، ثم جئت إلى النقد من باب أكل العيش، رغم أنى وجدت فيه نوافذ لفهم ما يجرى فى الآداب العالمية. لا يمكن لكاتب اليوم أن يكتب من منظور محلى فقط. هذا الأفق الكونى هو الإفادة مما يجرى حولك. أنا شخصياً أكتب لأفهم ما يجرى حولى. وكتابة النقد لا تعوض التجربة الداخلية، التجربة الحياتية، الأسئلة الوجودية. إذن عندما أكتب إبداعاً تظهر بصمات اللا وعى. عندما نكتب لا نستطيع التحكم بوعينا. عندما تنغمر فى الكتابة فإن اللغة والعالم واللاوعى يقودك إلى مجاهل لم تكن تعيها؛ لكن مجموع هذا ينبغى أن يكون قائماً على حد أدنى من الوعى. * هناك تيمات بعينها تتكرر فى أعمالك.. أهو نوع من التأكيد أم الاجترار؟ - هذا جزء من اللعب. الكتابة ليست جدية كلها مهما يدَّعى الكاتب. الكتابة تشتمل على عناصر لعبية، وهذه العناصر هى التى تجرالقارئ وتورطه ، بحيث يصبح شريكاً فى اللعبة. عندما ابتدع مثلاً شخصية " راوى الرواة" على وزن " قاضى القضاة"، عندما أتخيل أن هناك مديراً للسرد يوزع الأدوار، كما فى " لعبة النسيان"، هذه اللعبة وخطابها المتضمن فى النص الروائى تصبح جزءاً من السرد. هناك ملاحظة من الراوى، هناك تعديل من الكاتب، هذا كله تحوير للمنظورات، فيه إفساح لجانب اللعب والمتعة. * باعتبار القاهرة أقدم خزان لذكرياتك..كيف تراها وكلاكما الآن فى شيخوخته؟ - القاهرة لها سحر خاص، تحسه حتى إذا لم تستطع ترجمته إلى كلمات. القاهرة ليست مجرد فضاء، هى تاريخ ، هى ذاكرة, رمز لما يصبو إليه كثيرون فى العالم العربى: أن تستعيد دورها كعاصمة كبيرة. عندما نقول القاهرة لا نتوقف كثيراً أمام اختناقات المرور، بل نستدعى النيل والليل والرموز الكبيرة فى حياتنا. * ما الذى يبقى منك ؟ - أنا أعتز بما كتبت، والزمن وحده كفيل بالإجابة على سؤالك.
الكاتب فى سطور درس الأدب العربى بجامعة القاهرة, وتخرج فيها عام 1960 حصل على الدكتوراة فى الأدب من السوربون عام 1973, ويعمل حالياً أستاذاً للأدب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. من أهم أعماله النقدية: "محمد مندور وتنظير النقد العربى"( بيروت- 1979- القاهرة 1986), و" فضاءات روائية" الذى نال عنه جائزة المغرب للكتاب من أعماله الروائية: "لعبة النسيان" (1992) و" الضوء الهارب" (1994)