ربما، منذ أن بدأت أولي الخطوات التي قادت الإنسانية إلي بدايات الثورة الصناعية عام 1698 علي أثر اختراع توماس سيفيري لمضخة المياه، ثم مع تطوير الاختراع عام 1711 علي يد توماس نيوكورن إلي أن خرج جيمس وات عام 1763 بآلته التي استخدم فيها البخار كطاقة لتحريك الآلة ودفعها بدلا من الماء أو الخيول او حتي قوة الإنسان، منذ ذلك الزمان الذي أضاف كل عالم اوروبي متخصص جانبا من الإختراعات يضاف إلي الاختراعات الأخري السابقة منذ ذلك الزمان، لا يمكن إغفال أن القرن العشرين كان القرن الذي شهد قمة الثورة الصناعية وذروة نضجها. قمة عطائها في الإختراعات والاكتشافات التي دفعت الإنسانية إلي عالم لم تكن تعرفه سابقا. هذا التقدم الذي نعيشه والذي مس مجالات العلم الحديث سواء في مجال الميكانيكا أوالتعدين أو الصيدلة أو الطب أوالنقل أوالزراعة أو الفضاء أوالفنون أو.... أو إلي آخر كل تلك الطيبات والتجليات الحياتية بدءا من الطائرات التي تنقلنا لمسافات طويلة في ساعات معدودة إلي تلك الأدوات الصغيرة التي نستخدمها في بيوتنا ومطابخنا. كل هذه المجالات وغيرها وقفت وراءها الثورة الصناعية. ولا شك في أني أتفق مع المؤرخين أن الفترة التاريخية من 1760 إلي عام 1840 شهدت كل الخطوات المادية التي أسهمت في صياغة وبلورة هذه الثورة واتصور أن في القرن العشرين أثمرت هذه الثورة بجانب آثارها المادية آثارا اخري هي الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي سيرت أمورنا ومسار حركتنا لمائة عام هي سنوات هذا القرن. من أهم نتائج هذه التحولات الصناعية الكبري كان ظهور تلك الكيانات العمالية الكبيرة الكثيفة العمالة التي انتجت لنا النسيج والسيارات ولفائف التبغ والمعلبات والادوية. فلم يشهد التاريخ وحدات إنتاج تنظم أعمال الآلاف من العمال في ورديات هائلة إلا في القرن العشرين. مما استدعي وجود تنظيمات إدارية محكمة تتابع العمل وتنظمه. كما أنه القرن الذي عرفنا فيه عمليا تأثيرات القيمة المضافة الصناعية والزراعية علي التقدم الاقتصادي لكل وطن. فإنسان القرن العشرين، الذي أثر في مجريات الأمور، كان ناتج الوحدة الزراعية التعاونية والصناعية الكبيرة وبذلك ناتج اقتصاد القيمة المضافة. كما أن هذه الثورة قدمت لنا، بجانب كل الماديات التي قدمتها، نمطا للحياة لم تكن الإنسانية قد تعرفت عليه. كما شكلت قيما عامة وخاصة لم تكن الإنسانية تعرفها. مع هذا النمط الحياتي ومع هذه القيم، قدمت لنا نمطا للتعامل الجماعي لم يظهر كنتيجة مباشرة وإنما مورس كنتيجة غير مباشرة لتفاعلها الإنتاجي والبشري معا. أعظم عناصر هذا التعامل أو التفاعل الجماعي هو عنصر التنظيم. التنظيم الجماعي في العمل وفي الحياة. وبالقطع مهدت هذه الثورة لقيام السوق القومية والدولة القومية التي عرفناها والتي عرفنا من خلالها فكرة حكم المؤسسات والقانون والمواطنة وتداول السلطة والديمقراطية، هذا صحيح ولكنها قدمت لنا كذلك فكرة وقيمة التنظيم في مواقع العمل وفي الحياة وفي التعامل الجماعي. فهذه الثورة، من أجل أن تستمر تتقدم من العمل الحرفي إلي العمل المميكن، كان عليها أن تعيد هيكلة نظام عملها المصنعي حتي ينمو عملها وتتعاظم إنتاجيته. لذا وضعت أسس خط الإنتاج الحديث الذي عرفناه مع بداية القرن العشرين والذي تكامل فيه العمل وتخصص فيه العامل في جانب من العملية الانتاجية. خط الإنتاج هذا هو الذي خفض من سعر السلعة وجعلها في متناول أعداد أكبر من المواطنين. ولكن، في الوقت الذي قدم هذه الخدمة الرابحة لصاحب العمل كما قدم سلعة متاحة للمستهلك فإنه في نفس الوقت علم العمال الأجراء قيما جديدة ساعدتهم علي تقوية تنظيماتهم التي كانت موجودة ولكنها لم تكن قد تمكنت من لعب أدوارها الكبيرة علي طول هذا القرن الفائت. علمتهم أن التنظيم الجيد سيقود إلي الوحدة القوية التي هي الضمان لتحقيق مكاسب عادلة لهم، اقتصادية واجتماعية. كما أن هذه الثورة التي حققت هذا التقدم الإنتاجي الهائل ونبهت بشكل غير مباشر إلي أهمية وقيمة التنظيم الجماعي ذهبت إلي أبعد من ذلك. فعندما نقلت العمل الحرفي إلي العمل المميكن فصلت نهائيا بين رأس المال وبين العمل. فظهرت الفروق الكبيرة بين الجانبين. كانت هذه الفروق موجودة منذ أن عرف الإنسان الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ولكنها في هذا القرن تواجدت بجرأة وبتبجح ونمت مظاهرها وتبلورت وباتت حقيقة واضحة دامغة تفصل بين المواطنين ويمكن رصدها بالعين المجردة. ومع انفصال الملكية عن العمل ومع تبلور الفروق الاجتماعية علي صورة غير مسبوقة ومع زيادة الوعي بالأوضاع الاجتماعية نتيجة لزيادة التعليم والقدرة علي التنظيم إزداد الإحساس بالفواصل الطبقية وبات المجتمع ينقسم رأسيا بين من يملك ومن لا يملكون. وباتت الطبقات الاجتماعية تزداد تبلورا كما باتت تظهر تعبيراتها السياسية المعبرة عن مصالحها فقويت الأحزاب كتنظيمات رأسية تؤسس علي مصالح الطبقات وتعبر عنها وتتنافس علي الحكم بشكل منظم. كان القرن العشرون هو القرن الذي لعبت فيه الأحزاب السياسية وكذلك النقابات، وتحديدا النقابات العمالية، الدور الكبير في تعبيرها عن مصالح عضويتها ومصالح أعضائها بقوة وباقتدار. كانت مؤسسات أو تنظيمات رأسية تمتلك عمقا اجتماعيا واضحا أكثر ترتيبا من جميع المؤسسات المدنية التي وُجدت قبلا في تاريخ الإنسانية. وتعاظم دورها في إدارة شئون البلاد والعباد ولكنها استمرت بنشأتها ناتجا لفكرة التنظيم الذي بدأته الميكنة ثم خط الإنتاج. فقدرات النقابة أو الحزب التي تتيح التعبير المستقل هي في الأساس بنت التطورات الإنتاجية التي ظهرت ونمت وتمكنت مجتمعيا علي طول سنوات هذا القرن الفائت. وهنا لا يمكن إلغاء كل ذلك التاريخ لنشأة الحركة العمالية الإنجليزية منذ القرن الثامن عشر واستمرارها في نضالها من أجل نزع الاعتراف الحكومي لها حتي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتحديدا في عام 1872 ولكن في القرن العشرين باتت النقابات العمالية في المملكة المتحدة، وفي غيرها من الدول، جزءا من التنظيمات المجتمعية التي لا يمكن المساس بحرية وجودها إلا في عدد قليل من الدول. وينطبق الشيء نفسه علي الأحزاب التي اكتسبت وجودها القانوني والمجتمعي الواسع خلال ذات القرن. ولكن استمرت النقابات تسبق الأحزاب في الوجود. فكما ذكرنا كان الاعتراف بالنقابات في إنجلترا عام 1872 في حين أن حزب العمال كتنظيم سياسي للعمال تأسس مع بدايات القرن العشرين. ولكن استمر التنظيمان فاعلين ومعبرين عن الأجراء بكل جدارة علي طوال ذلك القرن. التنظيم النقابي يعبر عن المصالح اليومية للأجراء والحزب يعبر عن الطبقة العاملة سياسيا. ومع التقدم العلمي والتقني الذي بدأ في نهاية هذا القرن حدث تحول أساسي في الثورة الصناعية القديمة وعناصرها، وأخذت هذه التحولات العالم إلي تلك الثورة الاتصالاتية والمعلوماتية والتقنية الحديثة. وبسبب طبيعتها تراجعت الوحدات كثيفة العمالة لتحل محلها الوحدات الكثيفة رأس المال. وتراجعت مساحة اقتصاد القيمة المضافة ليحل بدلا منه اقتصاد الخدمات وصناعة المعلومات واقتصاد الريع. كان لهذه التحولات آثارها الاقتصادية والاجتماعية الفكرية علي المواطن. وبدأنا نراقب سيولة في تنظيماتنا القديمة، للنقابات والأحزاب. مما أدي إلي تراجع التنظيم الرأسي الطبقي لصالح التقسيم الأفقي بتنظيماته. لمزيد من مقالات أمينة شفيق