تغيرت كثيرا الطبيعة القديمة للوحدات الإنتاجية وخطوط إنتاجها سواء كانت صناعية أو تجارية أو حتي زراعية( نشير هنا إلي التوجه العام نحو الزراعة الحديثة وليس إلي واقع الزراعات المصرية). تلك الوحدات الإنتاجية القديمة التي تميزت غالبيتها بكثافة عمالتها مما ساعد هذه العمالة علي التفاعل والنقاش والحوار, ومن ثم الخروج جماعيا بهذه الصياغة المجتمعية التي سميت لاحقا بالنقابات. ولا يعني التغير في طبيعة الوحدات أن تتغير علاقاتها الصناعية الحاكمة لعلاقات الأجراء بأصحاب الأعمال أو بأدوات الإنتاج. حدث التغير في حجم الوحدة الإنتاجية ونسبة عدد عمالها بالمقارنة بحجم رأسمالها ثم بدرجة تقدم تقنيتها, وكذلك جنسية مالكها أو ملاكها, و يجب ألا نغفل المدي الجغرافي الواسع لانتشار فروعها المنتجة. ولكن تستمر علاقتها الصناعية ثابتة مبنية علي أساس ثابت وهو أن أصحاب الأعمال علي جانب يملكون أدوات الإنتاج بينما لا يملك أجراؤها علي الجانب الآخر إلا قوة عملهم ويحصلون علي دخولهم نتيجة لبيع قوة العمل هذه لذلك ستستمر هذه النقابات العمالية منظمات فاعلة في المجتمع المعني, تنظم أجراءه وتدافع عن حقوقهم وتطور هذه الحقوق طالما استمروا أجراء يعملون لدي الغير. ولكن السؤال هو, ماهو التطور المطلوب الآن لحال النقابات العمالية لتلائم التغييرات المذكورة؟ ستبقي النقابات منظمات لا يستطيع الأجراء الاستغناء عنها. كما أن المجتمع ذاته لا يمكنه الاستغناء عنها لأنها إحدي خلاياه الحية التي تنظم البشر وتضم صفوفهم وتحمي حقوقهم وتظللهم بحمايتها وفي نفس الوقت تملك مواقفها الوطنية الواضحة, ولكن هذا البقاء لابد أن يستعيد زمام المبادرة لتبقي النقابات قوية فاعلة خاصة أنها تضم في صفوفها أعدادا كبيرة من الاجراء الذين يعتبرونها' بيت الجميع' بينما يتجه البعض منهم إلي الحياة السياسية الحزبية كانتماء ثان بالرغم من حيويته وأهميته في مسيرة التقدم الوطني. بالإضافة إلي أن المجتمع, الذي يتسم بقدر من التعقل يحتاج دائما إلي نقابات قوية تحدث التوازن الاجتماعي المطلوب لاستقرار ذات المجتمع بجانب مساهمتها في إثراء الحياة الديمقراطية العامة. ولكن حتي تستعيد النقابات حيويتها وقوتها في المجتمع لابد أن تعترف كمنظمة تقودها قيادات وتعمل في إطار هياكل تنظيمية وفي صفوفها عضوية عريضة ومتنوعة بهذه التغيرات التي طرأت علي بنية وحدات الإنتاج في كل مجتمع وانعكس تغيرها علي بنية أجرائها, فوجود الاجراء العاملين بات أفقيا أكثر منه رأسيا. ويتسع هذا الوجود الأفقي كنتيجة طبيعية لما ذكر سابقا والذي نلخصه في أن غالبية الأجراء لم تعد تعمل في وحدات كبيرة كثيفة العمالة يقف علي خطوط إنتاجها عشرات الآلاف من العمال والعاملات. بل بات حجم الوحدات يميل إلي الصغر سواء تميزت بالكثافة الرأسمالية أو بالأحجام المتوسطة. كما أن هذه الغالبية باتت تعمل بفنون إنتاج تستخدم آلية وتقنية حديثتين أزالتا العديد من الفروق بين العمل العضلي القديم والآخر الذهني. كما أن ذات التقنية لم تعد تعترف بتقسيم العمل القديم الذي كان يزج بالمرأة في مجالات عمل معينة ويدفع بالرجل إلي مجالات أخري. فالنقابات تواجه واقعا جديدا لم يعد يلائم بناءها التنظيمي الذي درجت عليه. كما أن هذا الواقع لم يعد يلائم بعض تلك المفاهيم التي سادت الحياة النقابية في السابق. فالقضية لم تعد مجرد تنظيم أجراء العمل ولكن باتت تتجاوز فكرة التنظيم لتطرح في البداية من هم اجراء العمل؟ فإذا تمسكنا بمجرد فكرة التنظيم دون التلاؤم أو التوافق مع الواقع الذي يتحكم في سوق العمل وفي كامل العملية الإنتاجية فإننا في الواقع نجنح إلي عزل النقابات عن المسار المجتمعي ثم إلي محاصرة دورها النضالي والديمقراطي الذي تستطيع أن تلعبه في الحياة العامة وفي الحياة اليومية لكل الأجراء في كل القطاعات. مثلا كانت النقابات في القديم تنظم العاملين الثابتين بأجور في الوحدات الإنتاجية أو وحدات العمل المختلفة الانتماء القطاعي خاصا أو عاما أو حكوميا. وكانت عقود العمل تقنن هذه العلاقة وكل ما يتبعها من حقوق يكفلها القانون. ولكن في سوق العمل الجديد نجد العاملين أنفسهم وقد تنوعت علاقاتهم بوحدات العمل. يعمل البعض منهم بعقود دائمة ويعمل الآخرون بعقود مؤقتة ثم نجد الشريحة الثالثة العاملة بلا عقود عمل سواء ثابتة أو مؤقتة. وربما كانت الشريحة الثالثة تمثل الغالبية العظمي من العاملين الأجراء في كافة الوحدات حتي الحكومية منها وربما تكون في تزايد عددي لتصبح هي الغالبة خلال فترات زمنية ليست بعيدة. كما أنه ربما يتساوي المهنيون مع العمال في هذه الحالات عندما يعمل كل منهم في وحدة دون ارتباط قانوني يضمن حقوقهم ويسمح لهم بالانتظام النقابي. فعلاقات العمل الجديدة لم تعد تعطي امتيازات عامة للكتل البشرية وتحرم كتلا أخري من هذه الامتيازات أو علي حسابها. وتتساوي في ذلك كتل العاملين بأجر يومي مع كتل العاملين براتب شهري. أما في حالة الاستثناءات فإنها تحدث بشكل انتقائي بما يخدم محصلة أرباح الوحدة أو ضغط الإنفاق العام في حالة العمل في جهاز الدولة. هذا مثال واحد للتغيير الحادث, فالنقابات التي أسسها وصاغها الأجراء من أجل الاستظلال بحمايتها باتت بعيدة عن كتل كبيرة منهم, سواء كانوا من العمال العضليين أو المهنيين. وهي كتل في أشد الحاجة إلي هذه الحماية الحياتية. بالإضافة إلي أن هذه المسافة الفاصلة بين النقابات وبين هذا العدد الكبير من الاجراء العاملين في إطار علاقات غير مقننة كفيلة بإحداث الارتباك الأكبر في الحياة العامة لأنهم يعيشون في حالة بعثرة وبلا قيادة وبلا تنظيم وفي نفس الوقت يحملون معهم مشاكل اقتصادية واجتماعية جمة, كبيرة وكثيرة. وإذا عدنا إلي حصر كل الوقفات الاحتجاجية المفاجئة التي تنظمها مجموعات من العاملين في الوحدات الصناعية أو في أجهزة الإدارة يمكن استنتاج الحاجة الحقيقية لتطوير نقاباتنا العمالية بحيث تستطيع أن تتحول, وبشكل حقيقي غير مصطنع, إلي المظلة الواقية لحركة العمالة ومطالبها الحياتية اليومية بغض النظر عن تلك الشروط القديمة التي كانت تسمح لها بالعضوية. تحتاج نقاباتنا العمالية إلي وقفة صريحة مع ذاتها ومع مطالب الاجراء منها سواء كانوا من العمال أو من المهنيين, وكذلك مع مستقبل الحياة الديمقراطية في البلاد. أما النقابات المهنية.. فلها قصة أخري. المزيد من مقالات أمينة شفيق