امتزجت فى كتاباته الموهبة الإبداعية مع الفكر الفلسفى والغوص فى أعماق التاريخ، وكانت المحصلة أن جاءت الكتابات الإبداعية للروائى والشاعر المغربى بنسالم حميش ذات خصوصية فى الفكر وتفرد فى الأسلوب، فأصبحت له مكانته المميزة على ساحة الإبداع العربى.. وقد حصل بنسالم حميش على جوائز متعددة عن إنتاجه الأدبي، منها جائزة مجلة "الناقد" اللندنية عن روايته "مجنون الحكم" عام 1990، وجائزة نجيب محفوظ التي يمنحها اتحاد كتّاب مصر. ومعه كان ل"الأهرام" هذا الحوار..# البعض قال إن هاجسك الأساسى هو إعادة النظر في التاريخ وكتابته روائيا.. هل هذا صحيح؟ لم يكن عندى قصد أو نية لكتابة التاريخ روائيا، فهذه الأمور لا يُخطط لها، بل الأشياء الجميلة هى التى تباغتك باستبدادها بك ذهنيا وعاطفيا، وكنت قد كتبت كثيرا عن ابن خلدون بالعربية والفرنسية، وبدأت عندى أسئلة لم أجد لها أثرا فى كتابات المؤرخين، وذلك على الرغم من أنها منعطفات مهمة فى حياته، وعندما كثرت هذه التساؤلات فكرت أنه لابد من المعالجة الروائية لهذه التساؤلات، ومن هنا بدأت أعمل، وكلما أعوزنى الخبر فعلت ما يفعله الرياضى أو المنطقى وهو الافتراض والتخيل، بشرط أن يكونا فى نطاق المعقول، مع مراعاة الفترة الزمنية التى سأقوم بمعالجتها زمنيا ومكانيا، فقمت بما يشبه عمل المخرج السينمائى.
ونفس الأمر حدث عند معالجتى شخصية ابن سبعين فى "هذا الأندلسى". فقد وجدت أنه لا أحد يعرفه إلا بعض المتصوفة، وما تنوقل عن أخبار حياته لا يتعدى شذرات ليس إلا، لأنه كان مُضيقاً عليه من قبل الفقهاء فى كل مكان عاش فيه فقد كان متهما بالزندقة. وهناك روايتان عن وفاته، فهناك من يقولون إنه قُتل، وهناك من يقولون إنه انتحر عندما حاصره الجنود لإلقاء القبض عليه. وعندما رأيت الخطوط العريضة لحياته وما خلَّفه من رسائل أدركت أنى لابد أن أعالج هذه الأحداث روائيا. وهكذا فالأمر لم يكن مقصودا على الإطلاق.
# الملاحظ أنك تأتى بشخصيات تاريخية هامشية وتجعلها من الشخصيات الرئيسية فى أعمالك مثل شخصيتى "العبد مسعود" و"أبو ركوة" فى "مجنون الحكم".. كذلك تُدخل فى الأحداث شخصيات غير موجودة فى التاريخ أصلا.. فهل تفعل ذلك هروبا من نمطية الروايات التاريخية؟
رأس مال الروائى هو حريته، ولكن من الواجب عليه أن يطَّلع على كل ما كُتب عن الشخصية التى سيكتب عنها. وإذا كان المؤرخون الرسميون كثيرا ما يهملون الشخصيات التى كان لا يرضى عنها السلاطين والأمراء، وإن ذكروهم فباللمز والتشهير والقذف، فالروائى هو الذى يزيل الغبار عن هذه الشخصيات التى حوربت وعوملت بقسوة كى تظهر أهميتها حتى فى فكر السلاطين أنفسهم- وإلا فلماذا اضطهدوهم إذا لم يكونوا مؤرقين لهم؟.. المؤرخون دائما يحاولون تبرير هذا الاضطهاد لأنهم ينطقون بما ينطق به الساسة... أما الروائى فلا يعبأ بهؤلاء الساسة.
# يلاحظ فى السنوات الأخيرة اهتمامك بنشر الرواية أكثر من نشر الشعر، فهل اكتفيت بالدواوين الخمسة التى أصدرتها؟
أنا لا ألزم نفسى بأى شىء، بل أترك الأشياء تأتى إلىَّ وتختمر فى ذهنى، وعندما تأتى ساعة الوضع أبدأ فى الكتابة سواء كان شعرا أو نثرا. وسوق الشعر أصبحت كاسدة، وهذا هو الواقع الذى اعترف به الكثيرون، حتى محمود درويش اعترف بذلك عندما قال فى إحدى افتتاحياته: "كثر الشعراء وقلَّ الشعر"، وقال فى افتتاحية أخرى: "أنقذونا من هذا الشعر". فهناك من يستسهلون الشعر، ويعتبرون أن الكتابة بأى شكل ووضع حروف الجر شطرا شطرا يمكن أن يسمى شعرا.. لكنه فى الحقيقة غثاء وليس شعرا.
# لماذا لا تُكثر من كتابة الشعر فى محاولة لفرض الشعر الحقيقي على الساحة ومواجهة هذا "الغثاء"؟
أنا لا أبحث عن فرض أى شىء.. لكن علاقتى بالشعر لا تزال قوية، بل أؤمن بأن للشعر أثره على كتابة الرواية، فأعتبر أن الرواية إذا غاب عنها عنصر الشعر – كجوهر- فقد تفقد شيئا مهما وهو شاعرية اللغة، وفى نظرى أن الروائى الذى ينقصه الحس الشعرى لا يكون روائيا موفقا، فلا يمكن أن تشم رائحة اللغة الذكية ومفرداتها القوية إذا لم يكن عندك حس شعرى.
# بعد تجربتك كوزير للثقافة فى المغرب، وما شابها من توترات مع بعض المثقفين... كيف ترى عمل المبدع فى الإدارة والسياسة؟
"الوزارة" –فى رأيى- لا تعد عملا إداريا، فلدى الوزير معاونون ومدراء وهو يشرف عليهم، ويضع رؤية لعمل الوزارة ويتابع قطاعاتها والكفاءات الموجودة بها، ثم يضع خارطة طريق لإنجاز ما يمكن إنجازه، ويُدهش الكثيرون عندما يعلمون أنى فى خضم المسئولية كتبت رواية "امرأة أعمال".
# عُرفت عنك حماستك للغة العربية, على الرغم من طغيان اللغة الفرنسية على الثقافة المغربية وإصدارك بعض الكتب بها... فهل تتأثر الثقافة المغربية سلبا أم إيجابا بارتباطها باللغة الفرنسية؟
أنا أكتب باللغتين العربية والفرنسية ولا حرج فى ذلك، ولكنى أعتبر أن كنزنا ورأس مالنا هو اللغة العربية، وبها نظهر فى العالم، ولا أرى طغيانا للغة الفرنسية على الثقافة المغربية، بل الحضور الأكبر والأكثر تأثيرا هو للغة العربية، وبمراجعة أسماء المبدعين ستدرك أن الغلبة لمن يكتبون باللغة العربية عدديا وإنتاجيا.
# باعتبارك أحد "حُصَّاد الجوائز".. هل أفاد تعدد الجوائز الإبداع العربى؟
أنا لا أبحث عن حصد الجوائز، بل هى هبة تنزل عليك من حيث لا تتوقع، ولكنها علامة اعتراف وتقدير، وهى تجعلنى أقول إن كتابتى ليست عبثا، بل تجد من يتلقونها ويقرأونها ويثمنونها. وكم من مبدع اكتشف نفسه وموهبته بعد أن حصل على جائزة، فشجعته على أن يستمر وأن يُعطى أفضل ما عنده لكى يُثبت أنه مستحق للجائزة.