لعل نظرة على المجازر التى يقترفها الإسلامويون (من دواعش وغيرهم) ضد بنى البشر أينما كانوا، لتدفع بالمرء إلى الاعتقاد بأن هؤلاء الإسلامويين قد اختاروا أن يسلكوا على طريقة الوثنيين القدماء الذين اعتادوا أن يتقرَّبوا لآلهتهم بدماء الضحايا والقرابين. وللغرابة فإنه يبدو أن الوثنيين القدماء كانوا أرق قلوباً من الإسلامويين المعاصريين؛ حيث كان أهل الوثنية القديمة يكتفون بأن تكون قرابينهم من الحيوانات، وذلك فيما اختار خلفاؤهم الحاليين أن تكون القرابين التى يضحون لإلههم بها من البشر. وبالطبع فإن ذلك يستدعى وجوب إعادة التفكير فى الإسلام؛ على النحو الذى يسمح باستعادته بما هو- على قول الله تعالى- رسالة «رحمة للعالمين». وهنا يلزم التنويه بأن إعادة التفكير فى الإسلام إنما تستلزم ضرورة إعادة التفكير فى أصوله التأسيسية الكبرى، وعلى رأسها القرآن؛ على النحو الذى يسمح لهذه الأصول بأن تكون أساساً صلباً لأقوالٍ جديدة تتيح للمسلم أن يكون فاعلاً فى عالمه. وتنشأ هذه الضرورة عن حقيقة أن المسلم الحالى يعيش- بحسب ما تكشف عنه الحوارات المتفجرة على مواقع التواصل الاجتماعي- على الإرث الذى وصله من العصور الوسطى. وغنيٌّ عن البيان أن استمرار فعالية هذا الإرث المنحدر من العصور الوسطى إنما ترتبط بما يجرى المخايلة به من أن ما يتضمنه من الأقوال هى أقوال القرآن. لكنه يلزم التأكيد على حقيقة أن هذا الإرث يحمل من روح العصور الوسطى ورؤيتها للعالم بأكثر مما يحمل من القرآن فعلاً. إنه إذن هو نتاج التقابل التفاعلى بين القرآن من جهة، وبين رؤية للعالم تقوم عليها العصور الوسطى من جهة أخرى. وبالطبع فإن ديمومة القرآن، واستمرار حضوره الخالد، إنما ترتبط بقدرته على التفاعل مع رؤى العالم التى تتميز بخضوعها للتحوَّل عبر العصور.وإذ يعنى ذلك أنه كان على القرآن أن يتفاعل مع رؤية العالم السائدة فى العصور الوسطى، فإن الإشكال يتآتى من النظر إلى ما نتج عن تفاعل القرآن مع هذه الرؤية على أنه هو وحده ما يمكن أن ينتجه القرآن. ولعل ذلك هو جوهر الأزمة الراهنة التى تتمثل فى النظر إلى الإرث الذى أنتجه تفاعل القرآن مع رؤية العصور الوسطى على أنه هو القول الوحيد الممكن للقرآن. وبالطبع فإنه يمكن قبول فكرة أنه هو القول الوحيد الممكن للقرآن فى اللحظة الوسيطة، لكنه ليس هو القول الوحيد الممكن للقرآن على العموم. وللمفارقة، فإنه يبدو أن نسبة ما ينتمى إلى العصور الوسطى من هذا الإرث المتحدِّر منها إنما تفوق بكثير نسبة ما ينتسب إلى القرآن؛ وعلى النحو الذى يتزايد معه الاحتياج إلى جهودٍ كبرى لتفكيك هذا الإرث لبيان ما فيه من العصور الوسطى، فى مقابل ما فيه من القرآن وروح تعاليمه الكبرى. ولعل مثل هذا التفكيك يؤول إلى أن هذا الإرث ينطوى على الكثير مما يُخاصم روح القرآن ومبادئه الكبرى. ولعل ذلك يؤول إلى ضرورة أن يتعلق الأمر ليس بإعادة النظر فى هذا الإرث، بل فى ضرورة إنتاج الشروط التى تفتح الباب أمام إمكان الخروج منه. ويبدو هذا الخروج ضرورياً ليس فقط من أجل تحرير المسلم من تناقض العيش فى عصر الحداثة بما ينتسب إلى العصور الوسطى، بل من أجل تخليص القرآن مما يُخاصم روحه، ويناقض مبادئه الخُلقية الكبرى. ولعل مثالاً على ما يُخاصم روح القرآن ومبادئه الكبرى، ويحتل موقعاً مركزياً فى الإرث القادم من العصور الوسطى، إنما يتمثل فى مبدأ التسوية بين النفوس البشرية (فى الدماء) مع صرف النظر عن أى اختلافات بينهم فى الدين أو النوع أو المكانة الاجتماعية. فإذ يساوى القرآن بين بنى البشر جميعاً فى الدماء، مع صرف النظر عن أى اختلافات بينهم، فإن الإرث القادم من العصور الوسطى لا يساوى بينهم، بل يمايز بينهم على أساس الدين والنوع والمكانة الاجتماعية. وإذ يستحيل- والحال كذلك- ردّ ما يقول به إرث العصور الوسطى من التمايز بين البشر إلى القرآن، فإنه لا يبقى إلا أن أساس هذا التمييز يقوم خارجه تماماً. وهنا يلزم التأكيد على أن أساس هذا التمييز يقوم فى قلب رؤية العالم التى يقوم عليها بناء العصور الوسطى بأسرها. فإن نظرة على عالم العصور الوسطى، وحتى القديمة، تكشف عن عالمٍ يقوم على الانقسام والتراتبية والتمايز فى الشرق والغرب معاً. فإذ يستحيل المنازعة فى أن بناء العالم القديم يقوم على التراتبية والتمايز على نحو ما يظهر فى رؤية كل شعبٍ لنفسه على أنه الأرقى فى مقابل غيره من الشعوب الذين كان لابد من تنزيلهم إلى وضع البرابرة الذين يلزم لدونيتهم أن يكونوا موضوعاً للاسترقاق والعبودية، فإن هذه الترابية قد انسربت إلى بناء عالم العصور الوسطى على نحو ما يظهر فى البنية الحاكمة- على صعيد الاجتماع- للنظام الإقطاعي، وفى التراتبية التى حكمت بناء الكنيسة،ولا تزال آثارها باقية حتى الآن. وبالطبع فإن التبلور الاجتماعى والديني، فى العالم الإسلامي، لم يخرج من قانون الانبناء بحسب تلك التراتبية المهيمنة على عالم العصور الوسطى بأسره. وإذن فإن هذه الرؤية الحاكمة لكل بناء العصور سوف تكون- وليس القرآن- هى الأصل فى بناء إرث العصور الوسطى الذى لايزال المسلمون يتداولونه للآن. وليس من شكٍ فى أن الخروج عليها لن يكون أبداً خروجاً عن القرآن، بل إنه سيكون، وللمفارقة، استعادة له كأصلٍ تأسيسى ينظر إلى البشر على أنهم جميعاً سواسية. ولعل ذلك يجيز القول بأن المشكلة الحقة ليست فى القرآن، بقدر ما هى مشكلة الإرث المنسوب إليه؛ وهى مشكلة لا تقف آثارها الجانبية الضارة عند مجرد ترسيخ الفصام الذى تتخبط فيه قطاعات واسعة من المسلمين، بل تتعدى إلى القرآن نفسه الذى يكون مطلوباً منه أن يصمت ليعلو صوت الإرث المُخاصم له. لمزيد من مقالات د.على مبروك