استئنافا للحوار مع صاحب الفضيلة أستاذنا الدكتور عبد الفضيل القوصى، فإنه يلزم تفصيل القول فى الكيفيات التى جرى بها تصور ماهية الوحى فى الإسلام. ولعل نقطة البدء فى هذا التفصيل تنطلق من وجوب التأكيد على أن ماهية الشىء أى شىء لا تتحدد بوصفه وجوداً معزولاً قائماً بذاته بعيداً عن الإنسان، بل إن هذه الماهية تتحدد تبعاً لطبيعة ونوع العلاقة التى يقيمها معه البشر. وهكذا فإن ماهية الوحى لا تتحدد بوصفه وجوداً معزولاً قائماً بذاته بعيداً عن وعى البشر المقصودين بخطابه، بل إنها تتحدد تبعاً لمدى تطور هؤلاء البشر (وعياً وواقعاً)، وتبعاً لنوع العلاقة التى يقيمونها معه بالتالي. وهنا يلزم التنويه بأن دخول البشر فى تحديد ماهية الشئ (كالوحى وغيره) لا يعنى أنها تكون ماهية سائلة قابلة للتشكُّل كيفما اتفق، بقدر ما يعنى أنها لا تكون ماهية جامدة وذات وجهٍ واحد. حيث الأمر لا يتعلق بعلاقات فردية تتحدد فيها الماهية بحسب إرادات وميول الأفراد كما يتوهم البعض، بل الأمر يتعلق بعلاقات ثقافية مجاوزة للأفراد لأنها تتشكَّل ضمن فضاءات تاريخية واجتماعية يجد الأفراد أنفسهم جزءاً منها وفاعلين بحسب المنطق الذى يكمن فيها؛ وبما يعنيه ذلك من إن الأمر يتعلق بعلاقات لا تكتفى بأن تكون هى التى تشكِّل وعى الأفراد، بل إنها تظل تفلت من هيمنة وعيهم عليها؛ وبما يضفيه عليها ذلك من طابع الديمومة والرسوخ. وهكذا فإن كون ماهية الوحى تتحدد بنوع العلاقة التى يقيمها البشر معه لا يحيل أبداً إلى سيولة ماهيته على النحو الذى يجعلها قابلة للتشكُّل تبعاً لأهواء الأفراد وميولهم، بقدر ما يعنى أنها ليست ماهية جامدة. وهنا يلزم التأكيد على أن نفى الجمود عن ماهية الوحي، لا يعنى إلا أنها تقبل التشكُّل على النحو الذى يجعلها تتجاوب مع المطالب المتحولة لجماعة المؤمنين بهذا الوحي. وهكذا فإن حضور الوحى كماهية مفتوحة أو مغلقة إنما يرتبط بنوع العلاقة التى يقيمها معه الناس، ولا يرتبط أبداً بما يكون عليه فى ذاته. وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كانت الثقافة هى الساحة التى تنبنى فيها هذه العلاقات وتثبت سلطتها على النحو الذى يُكسِبها الدوام، فإن السياسة تكون هى نقطة البدء فى نشأتها وتبلورها. ولعل ذلك ما تؤكده حقيقة أن النمطين البارزين فى العلاقة مع الوحى قد تبلورا فى قلب الحدث السياسى الأبرز فى تاريخ الإسلام؛ وهو حدث الفتنة الكبرى. فعندما اتجه الصحابى الجليل عمار بن ياسر- إبان موقعة صفين- بخطابه إلى بنى أميَّة قائلاً: نحن ضربناكم على تنزيله، واليوم نضربكم على تأويله، فإنه كان يكشف عن وعى لافت بحقيقة أن صراع الفتنة هو صراعٌ على التأويل. وإذا كان سؤال التأويل هو، على نحو ما، سؤالٌ عن الكيفية التى تتأسس بها العلائق مع الوحي، فإن ذلك يعنى أن ما جرى آنذاك كان، فى أحد وجوهه، صراعاً حول الكيفية التى تتأسس بها العلاقة مع الوحي. ومن حسن الحظ، أن التأمل فى مواقف الفريقين المتقاتلين فى صفين، يكشف عن كيفيتين متباينتين فى تأسيس العلاقة مع الوحي. فإنه إذا كانت واقعة رفع المصاحف على آسنة الرماح تمثل استدعاءا صريحاً للقرآن ليلعب دوراً فى الصراع السياسى المحتدم، فإن ما تنطوى عليه تلك الواقعة من دلالة الربط بين المصحف والرمح أو السيف، يكشف عن تصور بنى أميَّة للعلاقة مع الوحى بما هو قوة إخضاع، تحققوا من أنها أكثر نجاعة من السيف نفسه؛ وذلك من حيث ما آدت إليه من إيقاف حرب لم يفلح السيف فى وضع حدٍ لها. وهكذا فإن الوحي، ومع بنى أميَّة بالذات، كان لابد أن يتحول إلى سلطة، أو- بالأحرى- إلى قناعٍ لسلطة تحتجب خلفه وتمارس تحت رايته أقسى ضروب التسلط والقمع. فإنه إذا كان السيف هو آداة بناء السلطة وحراستها، فإن ما حدث من تعليق القرآن عليه، سوف يجعل منه (أى القرآن) محض إمتدادٍ للسيف فى تثبيت نفس السلطة وحراستها. وبالطبع فإنه حين يصبح دور القرآن هو حراسة السلطة، فإن تلك السلطة سوف تكون هى الأحرص- حماية لنفسها- على تحويله، هو نفسه، إلى سلطة؛ وبما يعنيه ذلك من التعالى به عن إمكانية أن يكون موضوعاً للقراءة والسؤال، حيث ستصبح مساءلته بمثابة مساءلة لسلطة السياسة التى تحتجب خلفه. وهكذا فإنه يتم- ضمن هذا السياق- إلغاء التمييز بين سلطة السياسة وبين سلطة الوحي؛ وعلى النحو الذى جعل معاوية يعتبر ما قضى به من توريث سلطته لإبنه يزيد، بمثابة القضاء النازل من الله؛ والذى لا راد له أبداً. وليس من شك فى أن تحوُّل الوحى إلى سلطة لابد أن يدخل به إلى دائرة التكرار والجمود، وذلك لإستحالة التعاطى معه، بما هو سلطة، على نحو يسمح بتفجير دلالاته الكامنة الخصبة. وفقط فإنه سيصبح أيقونة يتبرك بها الناس ويتمسحون بها ويتمتمون بمفرداتها, ولكنه سيفقد كل حياته وديناميتهوإذا كانت تلك الكيفية فى العلاقة مع الوحى هى التى تحققت لها الهيمنة والسيادة كاملة فى الإسلام، فإن ما صار إليه الإمام علي- فى تعليقه على ما قام به بنو أميَّة من رفع المصاحف على آسنة الرماح من إن القرآن كتاب مسطور بين دفتين، لا ينطق بلسان, وإنما ينطق عنه الرجال، إنما يكشف عن كيفية أخرى فى تأسيس العلاقة مع الوحي؛ تنبنى على الإقرار بدور بالغ المركزية للإنسان فى تحديد ماهيته، وبما يترتب على ذلك من ضرورة تصور الوحي، لا بما هو قوة إخضاع وإجبار، بل بما هو ساحة للتفاعل والحوار. ولعل ذلك ينبنى على حقيقة أنه إذا كان الإنسان يدخل (وعياً وواقعاً) فى تركيب وحى التنزيل (وهو ما يُستفاد، من جهة، من تعدد وتباين لحظات هذا التنزيل بحسب حاجات الواقع ومستوى تطور الوعى، كما يُستفاد، من جهة أخرى، من حقيقة أن القرآن نفسه قد ظل يتنزل وحياً على مدى يقترب من ربع القرن متجاوباً مع أسئلة الوعى والواقع)، فإنه يستحيل تصور هذا الإنسانى معزولاً عن فعل التأويل. وهكذا فإن الأمر يا صاحب الفضيلة- لا يتعلق بعلمانية ترفض وتنكر، بل بتجديدٍ يؤسس لنفسه على مستوى الأصول والعلائق الكبرى. لمزيد من مقالات د.على مبروك