إذا كان أحد لايجادل في أن مصر هي أحوج ماتكون, في وضعها الراهن, الي الحوار, فإنه يلزم أن يكون حوارا منتجا ينفتح فيه كل فريق من أطراف نخبتها علي الآخر, وذلك علي النحو الذي تتسع فيه تصورات الواحد منهم للآخر. وعلي هذا فإنه ليس مطلوبا أبدا أن يتمترس كل فريق وراء تصوراته ساعيا الي فرضها علي الآخرين, أو مصرا عليها تاركا لهؤلاء الآخرين حين تعوزه الحجة حق قبولها أو رفضها; حيث الأمر لا يتعلق بتصورات تخص فردا أو جماعة يتداولونها داخل دائرتهم الخاصة, بل بتصورات يراد لها أن تصوغ مستقبل وطن لابد أن يتسع لجميع الفرقاء من غير إزاحة أو إقصاء. ولعل الشرط اللازم لإنتاجية الحوار يتمثل في ضرورة ضبط المفاهيم التي يدور حولها الحوار, وذلك عبر المساءلة والوعي النقدي بما تبني عليه ويؤسس لها من أصول, قد لا تكون حاضرة في أذهان المتحاورين. وإذن فالأمر يتعلق بضرورة التعامل المعرفي مع المفاهيم, بدلا من التعامل السياسي معها الذي يحيلها من موضوعات للدرس والفهم الي محض أدوات للتعبئة والحشد, وهو التعامل الذي لاينتهي, فحسب, الي إفقار المفاهيم علي نحو كامل, بل ويقود المتحاورين الي التقاذف والصدام. وانطلاقا مما سبق فإن ما مضي إليه أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين من القول: لا أعتقد أن أي شخص مسلم يعترض علي تطبيق القرآن, والحدود التي شرعها الله بنص القرآن, وأي مسلم لا يعجبه كلام ربنا,( فإن المشكلة تكون) مشكلته هو.. وإن من عنده حساسية من القرآن أو دينه, فليعلن هذا صراحة دون التمسح في الإخوان إنما يندرج بما ينطوي عليه من تبسيطية هائلة في إطار السعي الي حشد الناس وراء المشروع السياسي للجماعة التي ينتمي إليها الرجل, عبر الترويج لهذا المشروع علي أنه تطبيق القرآن والحدود المنصوص عليها فيه. ولكن القول, في حال التعامل المعرفي معه, يفتح الباب للنقاش حول مسألة بالغة الجوهرية تتعلق بالكيفية التي يؤسس بها الناس علاقتهم مع القرآن والنصوص المقدسة علي العموم. وغني عن البيان أنه فيما يؤول التعامل السياسي الي إفقار القرآن علي نحو كامل, وذلك من حيث يجري توظيفه, في الأغلب, كقناع لسلطة تمارس القهر والإجبار, فإن التعامل المعرفي معه يفتح الباب أمام إمكانية تصوره كساحة تفاعل وحوار. ولعل ذلك يحيل الي ضرورة البحث في الطرائق التي سعي المسلمون عبرها الي تأسيس علاقتهم مع القرآن. وهنا فإنه يلزم العودة الي اللحظة الأكثر مركزية في تاريخ الإسلام بأسره, وأعني بها لحظة الفتنة الشهيرة. فعندما إتجه الصحابي الجليل عمار بن ياسر إبان موقعة صفين بخطابه الي بني أمية قائلا: نحن ضربناكم علي تنزيله, واليوم نضربكم علي تأويله فإنه كان يكشف عن وعي لافت بحقيقة أن الصراع الذي تفجر في تلك الوقعة الأسيفة التي لعبت الدور الأبرز في توجيه ما جري لاحقا في تاريخ الإسلام السياسي والثقافي هو صراع علي فهم القرآن وتأويله, في الجوهر. وإذا كان سؤال الفهم والتأويل هو, علي نحو ما, سؤال عن الكيفية التي يؤسس بها الناس علاقاتهم مع النصوص, فإن ذلك يعني أن ماجري آنذاك كان, في أحد وجوهه, صراعا علي كيفية تأسيس العلاقة مع النص( الذي هو القرآن بالطبع). وللمفارقة فإن التأمل في مواقف الفريقين المتقاتلين, في صفين يكشف عن كيفيتين متباينتين في تأسيس العلاقة مع النص/ القرآن. فإنه إذا كانت واقعة رفع المصاحف علي آسنة الرماح تمثل إستدعاء صريحا للنص ليلعب دورا في الصراع السياسي المحتدم, فإن ما تنطوي عليه تلك الواقعة من دلالة الربط بين المصحف والرمح أو السيف, يكشف عن تصور بني أمية للعلاقة مع النص بما هو قوة إخضاع, تحققوا من أنها أكثر نجاعة من السيف نفسه, وذلك من حيث ما تآدت إليه حيلة رفع المصاحف علي الرماح من إيقاف حرب لم يفلح السيف وحده في وضع حد لها. وهكذا فإن للمرء أن يتوقع تحول النص مع بني أمية بالذات إلي سلطة, أو بالأحري إلي قناع لسلطة تحتجب خلفه وتمارس تحت رايته اقسي ضروب التسلط والقمع. ويرجع السبب في ذلك إلي أنه إذا كان السيف هو أداة بناء السلطة وحراستها, فإن ما حدث من تعليق النص/ القرآن عليه, سوف يجعل منه( أي القرآن) محض امتداد للسيف في تثبيت نفس السلطة سوف تكون هي الأحرص حماية لنفسها علي تحويله, هو نفسه, الي سلطة, وبما يعنيه ذلك من التعالي به عن إمكانية أن يكون موضوعا للقراءة وطرح الأسئلة, حيث ستصبح عملية طرح الأسئلة علي النص بمثابة مساءلة لسلطة السياسة التي تحتجب خلفه, وهكذا فإنه يتم ضمن هذا السياق إلغاء التمييز بين سلطة السياسة وبين سلطة النص, وعلي النحو الذي جعل معاوية يعتبر في سياق آخر ما قضي به من توريث سلطته لابنه يزيد, بمثابة القضاء النازل من الله, والذي لا راد له أبدا. وليس من شك في أن تحول النص الي سلطة لابد أن يدخل به الي دائرة التكرار والجمود, وذلك لاستحالة التعاطي معه, بما هو سلطة, علي نحو يسمح بتفجير دلالاته الكامنة الخصبة. وفقط سيصبح النص أيقونة يتبرك بها الناس ويتمسحون بها ويتمتمون بمفرادتها, ولكنه سيفقد كل حياته وديناميته. وإذا كانت تلك الكيفية في العلاقة مع النصوص هي التي تحققت لها الهيمنة والسيادة كاملة في الإسلام, فإن ما صار إليه الإمام علي في تعليقه علي ماقام به بنو أمية من رفع المصاحف علي أسنة الرماح من إن القرآن كتاب مسطور بين دفتين, لاينطق بلسانه, وإنما ينطق عنه الرجال إنما يكشف عن كيفية أخري في تأسيس العلاقة مع النصوص, تنبني علي الإقرار بدور بالغ المركزية للإنسان في إنتاج دلالة النص, وبما يترتب علي ذلك من ضرورة تصور النص, لا بما هو قوة إخضاع وإجبار, بل بما هو ساحة للتفاعل والسؤال والحوار. ولعل ذلك ينبني علي حقيقة أنه إذا كان الانسان يدخل( وعيا وواقعا) في تركيب وحي التنزيل( وهو ما يستفاد, من جهة, ومن تعدد وتباين لحظات هذا التنزيل بحسب حاجات الواقع ومستوي تطور الوعي, كما يستقاد, من جهة أخري, من حقيقة أن القرآن نفسه قد ظل يتنزل وحيا علي مدي يقترب من ربع القرن متجاوبا مع أسئلة الوعي والواقع), فإنه يستحيل تصور هذا الإنساني معزولا عن فعل الفهم والتأويل. وبالطبع فإنه كان لابد من تحول مسار السياسة في الإسلام, مع معاوية, من الخلافة الي الملك العضوض المستبد( بما يستلزمه هذا الملك المستبد من الإقصاء الكامل للفاعل الانساني), من إزاحة الكيفية التي أسس بها الإمام علي للعلاقة مع القرآن تفاعلا وحوارا, وبحيث لم تستمر إلا الطريقة الأموية في العلاقة معه تلقيا وتكرارا. ولأن تحصين سلطتهم السياسية كان يقتضي تثبيت طريقتهم في التعاطي مع القرآن تلقيا وتكرارا, فإنهم قد راحوا يراوغون معتبرين التنكر لطريقتهم تلك, بمثابة نوع من الإنكار للقرآن نفسه. وهنا يلزم تأكيد, مرة أخري, أن الأمر لايتعلق أبدا بإنكار القرآن, بل الأمر يتعلق, بالأساس, بإنكار ضرب من العلاقة معه يكون فيها سلطة لاتقبل إلا محض الترديد والتكرار, وليست نقطة بدء ينطلق منها الانسان, عبر السؤال والحوار, الي بناء وعي مطابق بعالمه. وللمفارقة فإن تصور القرآن, علي هذا النحو, كسلطة لايؤول فقط الي إهدار الوعي الذي لن يكون مسموحا له, بإزاء تلك السلطة, إلا أن يكرر ويردد, بل وينتهي الي الإفقار المعرفي الكامل للنص نفسه, وذلك من حيث يستحيل عبر الترديد والتكرار الكشف عن كل ما يكتنزه النص من ممكنات خلاقة هي أساس حياته الحقة. وإذن فإنه التباين بين موقفين من النص, أحدهما يجعله قوة إبداع, والآخر يجعل منه قوة اتباع وإخضاع.