أسعار الذهب تتراجع بعد تقليص المركزي الأمريكي السياسة النقدية    خالد عبدالغفار: الصحة الإنجابية تؤثر على المستويين الاجتماعي والاقتصادي    وسائل إعلام إسرائيلية: انفجار سيارة جنوب شرق تل أبيب وإصابة شخصين    حدث ليلا.. أزمة غير مسبوقة تضرب إسرائيل وفيديو مخيف ل«السنوار»    البيت الأبيض: بايدن يوقع مع زيلينسكى اتفاقا أمنيا خلال قمة مجموعة الدول السبع    بعد قليل، محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف محمود الخطيب    بيراميدز يتخذ قرارًا مفاجئًا تجاه رمضان صبحي بعد أزمة المنشطات    تحذيرات من موجة حارة شديدة: إرشادات ونصائح لمواجهة الطقس    بدء تشغيل قطار رقم 1946 «القاهرة – أسوان» الإضافي.. اعرف جدول المواعيد    جنايات المنصورة تستأنف محاكمة تاحر سيارات قتل شابا للنطق بالحكم    محمد إمام يحقق 572 ألف جنيه إيرادات في أول أيام عرض «اللعب مع العيال»    "الله أكبر كبيرا.. صدق وعده ونصر عبده".. أشهر صيغ تكبيرات عيد الأضحى    فطيرة اللحمة الاقتصادية اللذيذة بخطوات سهلة وسريعة    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الخميس 13 يونيو 2024    قائمة مصاريف المدارس الحكومية 2024 - 2025 لجميع مراحل التعليم الأساسي    حريق هائل يلتهم مصفاة نفط على طريق أربيل بالعراق    موعد مباراة الأهلي المقبلة أمام فاركو في الدوري المصري والقناة الناقلة    انتعاش تجارة الأضاحي في مصر ينعش ركود الأسوق    القيادة المركزية الأمريكية تعلن عن تدمير ثلاث منصات لإطلاق صواريخ كروز للحوثيين في اليمن    حجاج القرعة: الخدمات المتميزة المقدمة لنا.. تؤكد انحياز الرئيس السيسي للمواطن البسيط    البرازيل تنهي استعداداتها لكوبا 2024 بالتعادل مع أمريكا    حظك اليوم برج الأسد الخميس 13-6-2024 مهنيا وعاطفيا    لأول مرة.. هشام عاشور يكشف سبب انفصاله عن نيللي كريم: «هتفضل حبيبتي»    محمد ياسين يكتب: شرخ الهضبة    يورو 2024| أغلى لاعب في كل منتخب ببطولة الأمم الأوروبية    حامد عز الدين يكتب: لا عذاب ولا ثواب بلا حساب!    تراجع جديد.. أسعار الفراخ والبيض في الشرقية اليوم الخميس 13 يونيو 2024    أول تعليق من مغني الراب.. «باتيستويا » يرد على اتهامات «سفاح التجمع» (فيديو)    «اللعيبة مش مرتاحة وصلاح أقوى من حسام حسن».. نجم الزمالك السابق يكشف مفاجأة داخل المنتخب    «طفشته عشان بيعكنن على الأهلاوية».. محمد عبد الوهاب يكشف سرا خطيرا بشأن نجم الزمالك    عقوبات صارمة.. ما مصير أصحاب تأشيرات الحج غير النظامية؟    عيد الأضحى 2024.. هل يجوز التوكيل في ذبح الأضحية؟    في موسم الامتحانات| 7 وصايا لتغذية طلاب الثانوية العامة    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف أحمد الشناوي.. طريقة عمل اللحم المُبهر بالأرز    التليفزيون هذا المساء.. الأرصاد تحذر: الخميس والجمعة والسبت ذروة الموجة الحارة    محمد عبد الجليل: أتمنى أن يتعاقد الأهلي مع هذا اللاعب    هل يقبل حج محتكرى السلع؟ عالمة أزهرية تفجر مفاجأة    أبرزها المكملات.. 4 أشياء تزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان    بنك "بريكس" فى مصر    24 صورة من عقد قران الفنانة سلمى أبو ضيف وعريسها    التعليم العالى المصرى.. بين الإتاحة والازدواجية (2)    لماذا امتنعت مصر عن شراء القمح الروسي في مناقصتين متتاليتين؟    حازم عمر ل«الشاهد»: 25 يناير كانت متوقعة وكنت أميل إلى التسليم الهادئ للسلطة    محمد الباز ل«كل الزوايا»: هناك خلل في متابعة بالتغيير الحكومي بالذهنية العامة وليس الإعلام فقط    .. وشهد شاهد من أهلها «الشيخ الغزالي»    هاني سري الدين: تنسيقية شباب الأحزاب عمل مؤسسي جامع وتتميز بالتنوع    مؤتمر نصف الكرة الجنوبي يواصل اجتماعته لليوم الثاني    الأعلى للإعلام: تقنين أوضاع المنصات الرقمية والفضائية المشفرة وفقاً للمعايير الدولية    ما بين هدنة دائمة ورفع حصار.. ما هي تعديلات حماس على مقترح صفقة الأسرى؟    فلسطين تعرب عن تعازيها ومواساتها لدولة الكويت الشقيقة في ضحايا حريق المنقف    بعد ارتفاعه في 9 بنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 13 يونيو 2024    الداخلية تكشف حقيقة تعدي جزار على شخص في الهرم وإصابته    اليوم.. النطق بالحكم على 16 متهمًا لاتهامهم بتهريب المهاجرين إلى أمريكا    انتشال جثمان طفل غرق في ترعة بالمنيا    مدحت صالح يمتع حضور حفل صوت السينما بمجموعة من أغانى الأفلام الكلاسيكية    أستاذ تراث: "العيد فى مصر حاجة تانية وتراثنا ظاهر فى عاداتنا وتقاليدنا"    «رئيس الأركان» يشهد المرحلة الرئيسية ل«مشروع مراكز القيادة»    قبل عيد الأضحى.. طريقة تحضير وجبة اقتصادية ولذيذة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن مرحلة ما قبل المعرفي في مصر
نشر في الأهرام اليومي يوم 21 - 07 - 2011

يكشف مستوي الجدال والمناظرة المحتدمة في الفضاء المصري الراهن‏,‏ عن حقيقة أن مصر تعيش في إطار ما يمكن اعتباره مرحلة ما قبل المعرفي وأعني بها تلك المرحلة التي ينحبس فيها الناس داخل صناديق انتماءاتهم وتحيزاتهم الأيديولوجية والدينية والمذهبية‏.‏ وضمن سياق هذا الانحباس‏.‏ فإن الناس لا يعجزون, فحسب, عن رؤية ما يقع خارج الصناديق الايديولوجية والمذهبية التي يحبسون رؤوسهم داخلها, بل- والأهم- أنهم لا يقبلون التفكير في جملة المفاهيم والتصورات المضمرة التي يقوم عليها بناء ما يتحيزون له من إيديولوجيات ومذاهب, باعتبار أنها من قبيل المطلقات التي تعلو علي أي تفكير. والملاحظ أن العقل حين ينحبس وراء تلك الأسوار الحصينة, لا يكف عن السعي إلي إكراه الواقع, بدوره, علي الانحباس معه وراءها.
وإذ يبدو, هكذا, أن مرحلة ما قبل المعرفي التي تسود الفضاء المصري الراهن, لا تقدم إلا عقلا منحبسا وراء أسوار الأيديولوجيا بأطيافها المختلفة( وأعني علماوية ودينية ومذهبية وغيرها) من جهة, وواقعا يراد له أن ينحبس, بدوره, وراء تلك الأسوار من جهة أخري, فإنه لا سبيل لتحرير كل من العقل والواقع إلا عبر الإشتغال المعرفي علي المفاهيم والتصورات التي يقوم عليها بناء الأنظمة الأيديولوجية والمذهبية التي تتقارع علي سطح الواقع المصري الراهن. ومن حسن الحظ أن إشتغالا معرفيا علي معظم المفاهيم والتصورات والإفتراضات المضمرة التي يؤسس عليها البعض أبنية يريد لها أن تحدد معالم المسار السياسي والإجتماعي لمصر, إنما يكشف عن كونها أضعف من أن تكون أساسا لبناء راسخ; وأعني من حيث تبدو جميعا أضيق من أن تستوعب حركة الواقع, وأعجز- بالتالي- من أن تقدم حلولا ناجزة لمشكلاته الجاثمة.
ولعل مثالا للضلال الذي تمارسه الإيديولوجيا علي الوعي يتبدي في المقاربة الراهنة لخطاب التيار السلفي في مصر; وأعني من حيث ما تقدمه تلك المقاربة من صورة للخطاب تتعارض بالكلية مع الصورة التي تقدمها المقاربة المعرفية له. فإذ تقدم الإيديولوجيا صورة لخطاب يتسع لتباين الرؤي وتعدد الآراء, وإلي حد ما يجري الترويج له من أنه قد يكون للداعية السلفي في القاهرة زقولا في مسألة بعينها يختلف عن قول الداعية السكندري فيها, فإن المقاربة المعرفية تقدم, في المقابل, صورة لخطاب يقوم نظامه الباطن علي التفكير المقيد بأصل مسبق; وهو أصل يتم تضييقه علي نحو كامل, وبما يعنيه ذلك من إنغلاق الخطاب وجموده. وإذن فإنه التناقض بين صورة تقدمها الإيديولوجيا يتميز فيها الخطاب بالإتساع والرحابة, وبين ما يقدمه التحليل المعرفي من صورة يتسم فيها الخطاب بالضيق والجمود. وإذ تكون العبرة في تحليل الخطاب, بما يقدمه الإشتغال المعرفي علي نظامه العميق, وليس بما تقدمه الإيديولوجيا التي تجري علي سطحه بنفعيتها وإنتقائييها, فإنه يمكن القول بأن ما يجري من التركيز علي الإختلافات الجزئية بين دعاة الخطاب السلفي هو محض حيلة إجرائية تقصد, عبر التغطية علي نظامه المعرفي المغلق, إلي نسبة ما ليس فيه, من المرونة والديناميكية, إليه. وبالطبع فإنه لا شئ وراء نسبة المرونة والديناميكية إلي الخطاب, أي خطاب, إلا القصد إلي مكاثرة المؤمنين والأتباع; وبما يتبع ذلك من تحقيق الهيمنة والإنتشار. وإذ لا سبيل إلي تحرير الناس من زيف الصور التي تقدمها الإيديولوجيا للخطابات المتصارعة في الفضاء المصري الراهن, إلا عبر إنتاج معرفة منضبطة بها, فإن الخطاب السلفي يقوم- بحسب مصادره التأسيسية- علي خطاطة معرفية بسيطة تنطلق من أنه لا تفكير إلا إبتداء من أصل يجب الرجوع إليه; وهذا الأصل هو النص الذي يشتغل- علي قول أحد الآباء المؤسسين للخطاب- بمجرد زالتلاوة ونص التنزيل, وليس بتفسير وتأويل. ويربط الخطاب رفضه للتأويل بأنه قول بالظن والهوي, لم يأمر به النبي. تلكم إذن هي خطاطة السلف نص بلا تأويل...وواقع لابد من أن ينحشر داخله. وإذ يبدو, والحال كذلك, أنه لا مجال لتوسيع النص بالتأويل, ليستوعب حركة الواقع التي تتسع بإطراد, بقدر ما هو السعي إلي تضييق الواقع ليقبل الإندراج تحت لفظ التنزيل, فإنه لا يبقي إلا أن تكون الأيديولوجيا, ولا شئ سواها, هي مصدر الإدعاء بمرونة مثل هذا الخطاب وديناميكيته.
والحق أن التأويل ليس قولا بالظن, بحسب ما يروج دعاة السلفية, بقدر ما هو السعي إلي إنتاج معني الآية القرآنية عبر ربطها بمحددات سياقية( منها سياق تنزيلها, والسياق النصي الذي يشملها, وسياق كل من الواقع والعقل معا). وللمفارقة فإن القرآن نفسه يؤكد علي ضرورة تلك المحددات السياقية لأي عملية فهم. ويأتي المثال الأبرز علي ذلك من قصة موسي والخضر التي يبدو موسي فيها عاجزا عن إستيعاب أفعال الخضر( من خرق السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار) إلا عبر ردها إلي سياق أشمل تكتسب فيه تلك الأفعال دلالتها ومعناها التي يصبح موسي قادرا علي إستيعابها). وهكذا فإن الإدعاء السلفي بأن النبي لم يأمر بالتأويل يتعارض مع جوهر الدرس القرآني الذي يؤكد ضرورة ربط الحدث الجزئي بسياق أشمل يكتسب فيه دلالة مغايرة; والذي لا يعني إلا التأويل.
والحق أن الإنحياز السلفي للتعامل مع القرآن بمنطق التنزيل علي حساب منطق التأويل لا يعني إلا الإنحياز للجزئي علي حساب الكلي في القرآن. فإذا كان أهم ما يميز القرآن كتنزيل أنه قد تنزل كآيات متفرقة علي مدي أكثر من عشرين عاما, فإن الإلحاح السلفي علي التعامل مع القرآن بنص التنزيل لا يعني إلا التعامل معه كآيات متفرقة, تنتج فيه الواحدة منها دلالتها في إنفصال عن غيرها, وليس ضمن سياق أكبر ترتبط فيه مع غيرها من الآيات; وذلك علي النحو الذي يتحدد فيه معناها بحسب نوع وإتجاه الحركة الكلية لهذا السياق.
حقا قد يستدعي داعية السلفية آيات أخري لتأكيد ما يريد من الآية التي يشتغل عليها أن تنطق به. وهكذا فإنه يستدعيها لتقف فقط إلي جوار الآية التي يشتغل عليها, وليس لكي تتفاعل أو تتحاور معها علي النحو الذي قد يؤدي إلي إعادة توجيه معناها في غير إتجاه ما تنطق به, وهي معزولة عن سياق تفاعلها مع غيرها. وإذن فإنه الإستدعاء ضمن منطق زالتجاورس الذي هو منطق تثبيت للدلالة, وليس ضمن منطق التفاعل والتحاور الذي هو منطق تفجير الدلالات المكتنزة الكامنة. ولعل مثالا لبؤس تلك المقاربة السلفية التي تنتج فيه الآية, أو الآيات, دلالتها منفردة, يتجلي في القراءة السلفية لآيات الرقيق والإماء وملك اليمين, والتي راح أحد مشاهير دعاة السلفية يري فيها سبيلا لخروج المسلمين من أزماتهم الإقتصادية الخانقة. فإنه ليس مطلوبا من المسلمين- حسب داعية السلفية الكبير- إلا تفعيل آيات الغزو والإسترقاق وسبي الذراري والإماء, والذين سوف تكفي حصيلة بيعهم- أو حتي تحريرهم- لا لحل مشكلاتهم فقط, بل ولنقلهم إلي حال العيش المترف الرغيد. ومع صرف النظر عن أن الرجل لا يفعل إلا أن يستعيد, ليس من الإسلام, بل من أعراب ما قبل الإسلام ذاكرة إقتصاد زالغزوس الذي يري فيه الحل لمشكلات المسلمين الراهنة, فإن ما يبدو من الإستحالة الكاملة لتلك الممارسة التي يقترحها الرجل في إطار التطور الراهن للإنسانية, لمما يؤكد علي بؤس المقاربة السلفية التي يبدو وكأنها قد نذرت نفسها لإظهار تناقض القرآن مع ما بلغه مسار التطور الإنساني الراهن. والحق أن منطق السلفية القاضي بالتعامل مع القرآن بنص تنزيله, لابد أن يئول- شاءوا أم أبوا- إلي ضرورة النضال من أجل رد العالم إلي الحال التي كان عليها وقت التنزيل. فإذا كان القرآن قد تنزل بأحكام حول الرق مثلا, وأدي التطور الإنساني إلي تعطيل إشتغالها, فإن داعية السلفية, وبسبب إصراره علي قراءة آيات الرق معزولة عن سياق تتفاعل فيه مع غيرها, وعلي نحو يتم فيه توجيه معناها في إتجاه مغاير لما تنطق به في عزلتها وفرادتها, يلح علي تفعيلها في جزئيتها, حتي لو إقتضي الأمر ردا للعالم إلي الحال التي كان عليها وقت نزول تلك الأحكام.
وهنا فإنه إذا كانت آيات الرق في جزئيتها تحيل إلي دلالة إستعبادية ترتبط بالسياق الذي كانت تعيش فيه المجتمعات القديمة, وأنماط الإنتاج السائدة فيها, فإن ربطها بغيرها من آيات يبدو فيها تحرير البشر, علي العموم, قصدا قرآنيا كليا سوف يؤدي إلي إعادة توجيه دلالة تلك الآيات علي نحو ينقذ القرآن من وصمة اللا إنسانية. يبدو, إذن, وكأن كلا من القرآن والإنسانية في حاجة للخلاص من القبضة السلفية; وهو ما لن يكون ممكنا إلا عبر التجاوز بمصر من مرحلة ما قبل المعرفي التي تعيش فيها.
المزيد من مقالات د.على مبروك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.