لكي تستحق القراءة أن تكون كذلك, فإنها لا يمكن أن تكون فعلا يكرر القارئ فيه نص المقروء بقدر ما لابد لها أن تكون ساحة للتفاعل الخلاق بين القارئ والمقروء, وذلك علي النحو الذي يقدر معه( القارئ) من جهة علي تحرير نفسه من قبضة ضروب الفهم الراسخة والمعممة, ساعيا إلي إنتاج فهمه الخاص ضمن سياقه المغاير, كما تسمح للمقروء من جهة أخري بأن ينطق بما يرقد محتبسا تحت ركام الفهم الراكد الثقيل, وبما يعنيه ذلك من تحريرها للمقروء من أثقال التاريخ والإيديولوجيا المهيمنة. وإذا كانت القراءة كنشاط معرفي منتج هي هكذا ساحة تحرير للقارئ والمقروء معا, فإنها حين تكون ساحة لانسراب الإيديولوجيا, لا تجاوز كونها محض سجن ينحبس فيه القارئ والمقروء معا فالقارئ الذي يتميز في هذه القراءة بإنحباسه الكامل في سجن إيديولوجيته, لا يفعل إلا ان يشد معه المقروء إلي داخل أسوار سجنه الحصين وحين يرفض المقروء ان يدخل معه إلي هذا السجن الضيق, فإنه يلفظه ويسكت عنه, باعتبار انه يكون في هذه الحال مفتقرا لشروط العلمية التي تحدد ايديولوجيته معاييرها الصارمة. وإذا كانت القراءة الإيديولوجية هي تلك التي تمارس فيها الإيديولوجيا طغيانها علي المقروء عبر وساطة القارئ وبما يعنيه ذلك من جفافها وبؤسها, فإن ثمة قراءة هي أكثر بؤسا منها, وأعني بها تلك القراءة التي يمارس فيها القارئ طغيانه الشخصي علي ما يقرأ تلك هي القراءة بالنية بصرف النظر عن مضمون تلك النية وضمن هذه القراءة بالنية, فإن القارئ لا ينشغل بما يقرأ كموضوع مستقل عن من أنتجه, بقدر ما لا يري فيه إلا انعكاسا لنية هذا الذي انتجه, والتي يقطع بأنه يعرفها علي نحو خاص والحق أن القارئ بالنية لا يقرأ ما تقع عليه عيناه, بقدر ما يقرأ ما تنطوي عليه جوانحه من الهوي والأوهام عدد كبير من القراء الذين أتاحت لهم الحداثة ان يتفاعلوا بتعليقات مكتوبة مع ما تنشره الصحف الإليكترونية هم نماذج دالة علي هذا النوع من القراءة بالنية فالمرء يقرأ ما كتبه هذا المعلق( الإليكتروني), فلا يري اثرا لقراءة بقدر ما يري نشرا لما يسكن جوانحه علي متن النص المنشور. وبالطبع فإن هذه القراءة بالنية التي لا يحتكم فيها القارئ إلي ما يتجاوز هواه الشخصي, هي أدني من القراءة الإيديولوجية التي يظل القاري فيها محتكما إلي قواعد إيديولوجيته المجاوزة لذاته, ولو كانت حتي قواعد غير موضوعية وأعني أن هناك في إطار القراءة الإيديولوجية, شيئا مستقلا عن ذات القارئ يحاول أن يربط المقروء به, وأما في إطار القراءة بالنية فإنه لا شئ إلا محض ذات القارئ أو حتي انفعاله الجامح هو ما يرتبط به المقروء. ولسوء الحظ, فإن أغلب القراءات التي كان نصر أبو زيد موضوعا لها, كانت من قبيل هذه القراءة بالنية, وفي أكثر حالاتها بؤسا وسوءا فليس من شك في أنها النية السيئة, لا سواها هي ما يقف وراء القول بأن مفهومه عن القرآن كمنتج ثقافي لا يعني إلا أنه يجعل من القرآن مجرد منتج بشري وهكذا فإن المفهوم قد تحول إلي إنكار للمصدر الإلهي للقرآن, بدلا من ان يكون تحديدا للكيفية التي تنبثق بها النصوص داخل الثقافة, وذلك من دون أن يكون السؤال عن مصدرها موضوعا للانشغال وإذا كان القول بأن القرآن منتج ثقافي لا يعني إلا بيانا للكيفية التي انبثق بها في الثقافة فإن ذلك بعينه هو ما فعله السيوطي في كتابه الذائع الإتقان في علوم القرآن والزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن, وبكيفية تتناسب بالطبع مع الإطار المعرفي الذي ساد عصرهما ومن جهة أخري فإن الله تعالي نفسه يقرر أن إنزال القرآن عربيا يرتبط بالقصد إلي أن يكون قابلا للفهم من المتلقين, وبما يعنيه ذلك من أن قابلية القرآن للفهم هي أحد المقاصد الإلهية وبالطبع فإن قابلية القرآن للفهم لا تكون بمحض الإنزال باللسان العربي بل وبقدرته علي التجاوب مع اهتمامات الناس وأسئلتهم وحاجاتهم( وهو ما يكشف عنه علم اسباب النزول) وغني عن البيان ان القرآن في تفاعله( رفضا وقولا وتعديلا) مع الثقافة التي هي جماع أسئلة الناس وإجاباتهم وحاجاتهم وتوقعاتهم إنما يحددها ويتحدد بها في آن معا وعبر هذا التحديد والتحدد المتبادل, الذي يكون فيه القرآن بمثابة استجابة السماء لمطالب أهل الأرض, فإنه يكون منتجا ثقافيا وإذ يري القارئ بالنية السيئة ان اعتبار القرآن منتجا ثقافيا يؤدي إلي إنكار مصدره الإلهي, لما يتصوره من تعارض ذلك مع القول بوجود أزلي سابق للقرآن فإن ذلك يعني أنه يرتب قوله بالمصدر الإلهي للقرآن علي ضرورة القول بوجوده الأزلي السابق وإذا كان تراث الإسلام قد اتسع لمن يقولون بخلق القرآن, من دون أن يتعض ذلك مع إيمانهم بمصدره الإلهي, فإن ذلك يعني ان القول بالمصدر الإلهي بالقرآن لا يتوقف علي القول بوجوده الأزلي السابق ومن جهة أخري,. فإنه إذا كان ثمة من السلف من يرفض القول بوجود أزلي سابق له, ويمضي إلي القول بأنه مخلوق( أو منتج داخل الثقافة), ومع ذلك فإنه لم يتعارض للتفكير والطرد من الملة, فإن ذلك لا يكشف فقط عن رحابة الأقدمين مقارنة بأهل زماننا, بل يكشف وهو الأهم عن جهلنا الكامل بمن يدعي أهل زماننا أنهم يعرفونهم ويتأسون بهم. ولعل مثالا آخر علي القراءة سيئة النية لأبي زيد يتمثل فيما جري من التلاعب بمفردات نصه, علي النحو الذي يسمح للخصم بتثبيت دعواه وهكذا فإنه إذا جاز أن ثمة مفهوما ينتظم عمل أبو زيد كله, فإنه يمكن القول بأنه مفهوم التحرر من سلطة النصوص, الذي استحال, بكيد خصومه وخبثهم, إلي مبدأ التحرر من النصوص, الذي لا يحتمله نصه, ناهيك عن أن ينطق به ولعله يلزم التأكيد علي التناقض الكامل بين الصيغتين, وأعني من حيث انه فيما تحيل الصيغة الأولي إلي التنكر لعلاقة ما مع النص, يحضر فيها كسلطة, فإن الصيغة الثانية تنطوي علي التنكر للنص بذاته وإذن فإنه السعي إلي التفكير في علاقة أخري مع النص, لا كسلطة لا تسمح إلا بترديده وتكراره, بل كنقطة ابتداء للوعي ينطلق منها مستوعبا ومتجاوزا إلي ما بعدها, وبكيفية تسمح للنص ذاته بأن يتكشف عن ممكناته المضمرة التي يستفيد منها حياته الحقة, والتي لا يمكن أن يسمح لها التكرار بالانكشاف والظهور ولعل ذلك يعني أن التحرر, هنا, لا يكون فحسب, للوعي من سلطة النص, بل ويكون للنص أيضا, وأعني من حيث يسمح لممكناته الكامنة بالتفتح وهكذا يبدو وكأن الأمر,في جوهره, لا ينطوي علي ما هو أكثر من السعي إلي الانتقال بالنص من علاقة تكرره, إلي علاقة تحرره. وهكذا فإن سوء النية لا يصيب أبازيد فقط من حيث يدينه ويقصيه, بل ويلحق أضرارا بالغة بالقرآن نفسه من حيث يجعله أسير دائرة الترديد والتكرار.