يحتاج المصريون- والعرب علي العموم- إلي الوعي بأن السعي إلي تفكيك السلطوية الغليظة والملموسة( سياسيا واجتماعيا) التي تفيض بها عوالم العرب, عبر مجرد التعويل علي نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة والدعوة إلي إحلال منظومة سياسية بديلة محلها- قد بلغ نهايته. وأنه يلزم تطوير طريقة أخري ترتكز علي وجوب تفكيك المبدأ المعرفي الجواني الذي يؤسس للحضور الطاغي لتلك السلطوية في الأبنية العميقة للوعي; أو حتي في تلك الأبنية التي تضرب بجذورها الغائرة في ما دون الوعي; وهي الأهم. وأعني في كلمة واحدة, أنه لابد من تجاوز مجرد النقد الراهن- علي أهميته- للسلطوية التي تمارس حضورها الفظ علي المستويين الاجتماعي والسياسي, إلي تفكيك ما يؤسس لحضورها من التصور المستقر في الخطاب للعقل; علي النحو الذي يجعله في حال من القصور والاحتياج. وإذا كان الوضع الذي ساد في عالم الإسلام لترتيب العلاقة بين العقل والنقل; وأعني بالكيفية التي ظل معها العقل تابعا لسلطة النقل علي نحو شبه كامل, هو ما يؤسس لهذا التصور الغالب عن قصور العقل واحتياجه, فإن أصل هذا الوضع لا يرتد- علي عكس ما يتبادر سريعا للذهن- إلي الإسلام نفسه, بل إنه يجد ما يؤسسه كاملا في قلب الثقافة السابقة عليه, والتي يبدو- وللمفارقة- أن الإسلام قد قصد إلي زحزحة وإزاحة نظامها الكلي, علي الرغم من إدماجه لبعض عناصرها الجزئية في صميم بنائه. فإنه إذا كان التحليل يكشف عن أن من قاموا علي صياغة التيار الغالب في ثقافة الإسلام( الذين يتناسلون في سلالة ممتدة من علماء الأصول الكبار من مثل الشافعي وابن حنبل والأشعري والباقلاني والجويني والغزالي وابن تيمية وغيرهم) قد كرسوا تبعية- تتفاوت حدودها- من العقل للنقل, فإنه يبدو- وللغرابة- أن الترتيب الذي كرسه هؤلاء المؤسسون الكبار للعلاقة بين العقل والنقل, يمثل انحرافا عن ترتيب العلاقة بينهما الذي ينبني عليه فعل الوحي ذاته; وهو الفعل المؤسس للإسلام كدين. فالحق أن تحليلا للمنطق الذي ينتظم فعل الوحي في التاريخ يكشف عن أن الإنسان( عقلا وواقعا) يدخل في تركيب ظاهرة الوحي; وعلي النحو الذي يكاد معه الوضع الإنساني أن يصبح الشرط الحاكم لمنطق تلك الظاهرة الكامن; وإلي حد استحالة فهمها بمعزل عن هذا الوضع الإنساني الحاكم. فإن تباين أشكال الوحي وتعدد صوره لا يمكن أن يجد تفسيره في الإلهي الذي هو أصله ومصدره, بل في الإنساني الذي هو قصده وجوهره. ويرتبط ذلك بأن رد هذا التباين إلي المصدر الإلهي يؤدي إلي وجوب افتراضه محلا للتغير والتبدل, ولهذا فإنه لا يبقي إلا الارتداد به إلي السياق الإنساني; وعلي نحو يبدو معه أن مفارقة وتعالي المصدر الإلهي لفعل الوحي لم تحل دون تحدد هذا الفعل بالسياق الذي ينبثق داخله. فالوحي يتغير ويتبدل, إذن, لا لأن الله يتغير أو تبدو له البداوات بحسب ما اشتبه علي البعض ممن قالوا بالبداء, بل هو يتغير لأن واقع وعقل الإنسان( الذي هو مقصود الوحي) يكونان موضوعا للتغير والتبدل. وإذ يحيل ذلك إلي أن التحول في ظاهرة الوحي من لحظة إلي أخري يكون, هو نفسه, تابعا للتحول في بناء كل من العقل والواقع, فإن ما سيجري لاحقا من تصور العقل تابعا للنقل يقوض هذا المنطق الذي تقوم عليه ظاهرة الوحي; وهو المنطق الذي يؤول تقويضه إلي افتراض ذات الله موضوعا للتغير والتبدل. يتبدي الوحي, إذن, لا بوصفه من قبيل المعرفة المعطاة المفروضة علي الوعي كسلطة لا سبيل أمامه إلا لمحض الإذعان والخضوع لها, بقدر ما يمثل نوعا من الاستجابة الخلاقة المطلوبة لوضع إنساني مأزوم لا يقدر الوعي; الذي هو بنية تطورية في جوهرها, علي التعاطي معه في مرحلة دنيا من مراحل تطوره. وهكذا فإن الوحي يتبلور كسند ومعين للوعي, ونقطة ارتكاز يستند إليها في سعيه إلي تجاوز أزمة واقعه, ولا يتبلور أبدا كضد ونقيض يفرض نفسه كسلطة متعالية لا يملك الوعي إلا محض التبعية لها. ولسوء الحظ, فإن هذا الترتيب المستقر للعلاقة بين العقل والنقل في الإسلام; والذي بدا أنه يجد ما يؤسسه في الثقافة السابقة عليه, قد لعب دورا بالغ المركزية في تحديد نظام العلاقة الذي استقر, بدوره, في الخطاب العربي الحديث بين الحداثة( التي راح يجري اختزالها في بضع تواليف إيديولوجية جاهزة معطاة; وبما يعنيه ذلك من اكتسابها كل سمات التنزيل/المنقول المفروض من أعلي) وبين كل من العقل والواقع; وعلي النحو الذي لم يكن فيه لهذين الأخيرين إلا أن يخضعان تماما كتابعين لسلطة المعطي الإيديولوجي الجاهز( وبما يدنيهما من مكانة العقل التابع في الخطاب التراثي للنقل المتبوع). وبالطبع فإن أي سعي إلي وضع مغاير لتلك العلاقة علي نحو يؤدي إلي مقاربة منتجة للحداثة, يستلزم تفكيك الترتيب المستقر للعلاقة المؤسسة لها أولا; وأعني به ترتيب العلاقة بين العقل والنقل الذي استقر في الإسلام; والذي يجد ما يؤسسه بدوره في الأغوار البعيدة للثقافة الأسبق. وهكذا فإن ما يكاد يكشفه النظر, ليس فقط في شتي مناحي الممارسة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العربية الراهنة, بل وكذا في نظام الخطاب النظري/المعرفي الذي يقف وراءها; من الحضور الصريح لما ينتمي إلي ثقافة البداوة السابقة علي الإسلام- حيث تبقي الآبوية والذكورية والعشائرية والطائفية هي أهم محددات الحياة الاجتماعية والسياسية, بينما تظل الطبيعة الريعية الخراجية هي السمة المحددة لبنية الاقتصاديات العربية; فيما تظل الامتثالية والاتباعية هي أحد أهم محددات النظام المعرفي العربي- ليقطع بحقيقة أن كل ما شهده العالم العربي من مظاهر للتحديث هنا وهناك, لا تجاوز كونها محض أقنعة لا تقدر علي إخفاء ما يقوم وراءها من بداوة عاتية تأبي- رغم كل ما يثرثر به البعض- إلا أن تعلن حضورها الزاعق للكافة. وهنا تحديدا يكمن التحدي الذي يجابه موجة الثورة الراهنة التي تستهدف الدخول بالعرب إلي عصر الحداثة الحقة. لمزيد من مقالات د.على مبروك